الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حفلت بعددٍ كبير من الشعراء، وأنَّ هناك نصوصًا كثيرة تتيح للدارس أن يحكم عليه حكمًا منصفًا.
والحديث عن أثر الإسلام في الشعر يعني التعرض لناحيتين من أغراض الشعر:
أولاهما: الأغراض التي تطورت من حال إلى حال.
والأخرى: تلك التي طمسها الإسلام ومحاها.
وإذا كان الذين يتحدثون عن أثر الإسلام في الشعر إِنَّما يتجهون إلى الأغراض التي تطورت، فإِنَّ معرفة الأغراض التي تُركت تُعطي دلائلَ لا تقلُّ عن الدلائل التي تعطيها معرفة الأغراض التي تغَيَّرت؛ إذ هي أكثر أهمية منها وأصدق دلالةً في أحايين كثيرة.
فمن الأغراض التي خَمَدت الهجاءُ الفاحشُ، والمديحُ الكاذبُ، والمبالغة فيه، والحديثُ عن الخمرِ ووصفها، وإثارة الشرور والأحقاد، والفخر بالقبيلة والأحساب والأنساب ونحوها من الأغراض.
وأما الأغراض التي ظهرت بعد الإسلام فهي الدعوة للإسلام، ومدح الدين الجديد، ومدح النبي، والرد على المشركين، والحث على الجهاد، وأصبح الشعراء أكثر حذرًا في جانب العبارات التي يقولونها من ذي قبل، لوازع الدين في نفوسهم، ومخالطة هذا الدين لقلوبهم.
حكمُ الشعرِ:
ذُكِرَ الشعرُ في القرآن الكريم في مواضع متعددة، كلها وردت في المرحلة المكية إلا موضعًا واحدًا، تحديًا للمشركين، وردًا على زعمهم أن القرآن الكريم ما هو إلا شعر وأوهام، وأن النبي صلى الله عليه وسلم ما هو إلا شاعر كغيره من الشعراء. وهذه الآيات هي قوله تعالى:{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69)} [يس: 69](1)، وقوله تعالى: {بَلْ
(1) يس 69
قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5)} [الأنبياء: 5]} (1). وقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37)} [الصافات: 36، 37](2). وقوله تعالى: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30)} [الطور: 29، 30](3). وقوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43)} [الحاقة: 40 - 43](4).
هذه كلها آيات مكية وردت للرد على مزاعم المشركين، وهي لا تدل على ذم الشعر، فمبناها واضح، وسياقها ظاهر، تتحدث عن القرآن، وتؤكد أنه ليس بشعر، وعن النبي صلى الله عليه وسلم وأنه ليس بشاعر ولا كاهن، وأن هذا القرآن من رب العالمين، وليس من وحي الخيال الذي توسوس به الشياطين.
والحديث عن الشعر في كل ما وردَ في القرآن يتحدث عن الشاعر وليس عن الشعر. ولذلك قال ابن العربي في تفسير قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69)} [يس: 69](5): «هذه الآية ليست من عيب الشعر، كما لم يكن قوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48)} [العنكبوت: 48] (6) من عيب الخط. فلمَّا لم تكن الأميَّةُ مِن عيبِ الخَطِّ، كذلك لا يكون نفيُ النظم عن النبي صلى الله عليه وسلم مِنْ عَيبِ الشِّعرِ» (7).
إن مسألة نفي الشعر عن القرآن الكريم مسألة أساسية لا علاقة لها بحكم الشعر في الإسلام، وكذلك نفي صفة الشاعر عن النبي مسألة أساسية ولا شأن لها بموقف الإسلام من الشعر، فهذان أمران يخصان الدعوة الإسلامية، ومصدرها الإلهي، والثقة بالنبي صلى الله عليه وسلم وليس فيهما ما
(1) الأنبياء 5.
(2)
الصافات 36 - 37.
(3)
الطور 29 - 30.
(4)
الحاقة 40 - 43.
(5)
يس 69.
(6)
العنكبوت 48.
(7)
أحكام القرآن 4/ 28.
يغض من قيمة الشعر أو يحض على الانصراف عنه. ولِتَنْزِيهِ القرآن الكريم عن أن يكون شعرًا، وبُعدهِ عن طرائق الشعر أسبابٌ، منها ما في أذهان العرب من قَرْنِ الشِّعرِ بالشيطنةِ والشَّرِّ، وصلته بالموسيقى والغناء، ولِمَكان القرآن من التحدي، ولأن روح الشعر بعيدة عن الالتزام، وقد كان القرآن دعوةً ملتزمةً بِمَنهجٍ لا تحيد عنه، خالفتْ الشعرَ في الغايةِ فبعدت عن مناهجه وطرائقه (1).
وهناك سورة في القرآن سُمِّيت باسم الشعراء لذكرهم في بعض آياتها، يقول الله تعالى:{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)} [الشعراء: 221 - 227](2). وهذه الآيات تذكر الشعراءَ بصيغةِ العُمومِ، ولكنَّ المقصودَ بِها شعراءُ قريش الذين ناصبوا الإسلام العداء ومن أشهرهم عبدالله بن الزِّبَعْرى (3) قبل إسلامه الذي أثار الخواطر ضد المسلمين بعد وقعة بدر (4)، وهُبَيْرةُ بن أبي وَهب المخزوميُّ (5)، وأميَّةُ بن أبي الصَّلت (6)، ويدخل معهم كُلُّ من سلكَ بالشعر مسلكَ الكذبِ والهجاءِ، وما حُرِّمَ في الإسلام.
(1) انظر: الشعر الإسلامي في صدر الإسلام للدكتور عبدالله الحامد 23.
(2)
الشعراء 221 - 227.
(3)
هو عبدالله بن الزِّبَعْرى القرشي، شاعر مخضرمٌ هجا المسلمين قبل إسلامه، وحرَّض عليهم، وأسلم يوم الفتح، عدَّه ابن سلام من شعراء القرى، من شعراء مكة. انظر: طبقات فحول الشعراء 1/ 235.
(4)
انظر: طبقات فحول الشعراء 198.
(5)
من شعراء قريش المعدودين، كان شديد العداوة للرسول فأخمله الله، ولم أجد ذكرًا لإسلامه. انظر: طبقات فحول الشعراء 1/ 257.
(6)
هو أمية بن عبدالله أبي الصلت بن ربيعة الثقفي، شاعر جاهلي، أدرك النبي ولم يسلم، قرأ التوراة والإنجيل وغيرها، وفي شعره عبارات كثيرة منها، وقد أكثر =
ولهذا فُسِّرت الآية بأنه «لا يتبعهم على باطلهم وكذبهم وفضول قولهم وما هم عليه من الهجاء، وتَمزيق الأعراض والقَدحِ في الأنساب، والنسيب بالحُرَمِ، والغزل، والابتهار، ومدح من لا يستحق المدح، ولا يستحسن ذلك منهم ولا يطربُ على قولهم إِلَاّ الغاوون والسفهاء» (1).
والصدق هو العنصر الذي يطلبه الإسلام في الشعر، والشعراء يصعب عليهم الالتزام بهذه الصفة، {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226)} [الشعراء: 225، 226] (2). وهيامهم في كل واد معناه اعتسافهم الطريق والغلو ومجاوزة حد الاعتدال، وتخييل الجبان شجاعًا، والبخيل جوادًا. والمقصود بالغاوين في أقوال أهل التفسير أولئك السفهاء من الغوغاء والأعراب وغيرهم الذين يجتمعون إلى شعراء قريش المشركين يستمعون أشعارهم وأهاجيهم في الرسول صلى الله عليه وسلم ورسالته (2).
وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم تدل على أَنَّه قد استنشدَ الشعرَ واستحسنَهُ، ومدحَ قائله، وأجازَ عليهِ، وعفا بسببه عمَّن يستحقُّ العقابَ، وقَبِلَ وسيلةَ مَن توسَّلَ به، وشَفَّع من استشفع به. والصحابةُ كان فيهم الشعراء ومَن يستنشد الشعرَ ويُجيز عليه.
ولذلك قال أنس بن مالك رضي الله عنه: «قدم علينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وما في الأنصارِ بيتٌ، إلا وهو يقولُ الشعرَ» (3). والنبي كان صلى الله عليه وسلم له منهم شعراء يهجون المشركين، ويُجيبونَهم ويُحامون عن النبي صلى الله عليه وسلم، منهم حسَّانُ بن ثابت (4)، ...............................................
= المفسرون من شعره. ذكره ابن سلام في طبقة شعراء الطائف. مات في السنة الثامنة من الهجرة. انظر: الشعر والشعراء 1/ 459.
(1)
الكشاف 3/ 343، التحرير والتنوير 22/ 55 - 67.
(2)
الشعراء: 225، 226.
(3)
انظر: محاسن التأويل للقاسمي 5/ 388، والكشاف 3/ 344.
(4)
العقد الفريد 3/ 388.
(5)
هو حسان بن ثابت بن المنذر الخزرجي الأنصاري رضي الله عنه، صحابي جليل، من فحول =
وكعب بن مالك (1)، وغيرهما رضي الله عنهم.
وأما الأحاديث التي ورد فيها ذكر الشعر فهي كثيرة، وقد صنَّفَ الحافظُ عبدالغني المقدسيُّ جزءًا في الشعر (2)، وكذا الإمام ابن سيّد الناس اليعمريّ (3)، ولا تكادُ تَجد مُسندًا أو جامعًا من كتب الحديث إِلا وفيهِ بابٌ أو كتاب للشِّعرِ، وسأقتصر على بعض هذه الأحاديث.
1 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أصدق كلمة قالها شاعر، كلمة لبيد (4):
أَلا كُلُّ شَيءٍ مَا خَلا اللهَ بَاطِلُ (5)
وكاد أُميَّةُ بنُ أبي الصَّلتِ أَن يُسلم» (6).
2 -
عن عائشة رضي الله عنها أَنَّ حسان بن ثابت رضي الله عنه استأذن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في هجاء المشركين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«فكيف بِنَسَبِي؟ » . فقال حسان: لأسلنَّكَ منهم كما تُسَلُّ الشَّعْرةُ من العجين (7).
= شعراء الجاهلية والإسلام، وهو شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم الأول. انظر: طبقات فحول الشعراء 1/ 215، الشعر والشعراء 1/ 305.
(1)
هو كعب بن مالك الخزرجي الأنصاري رضي الله عنه، من شعراء الرسول صلى الله عليه وسلم المجيدين، شهد بيعة العقبة مع قومه، عده ابن سلام في طبقة شعراء المدينة. مات سنة 50 هـ وهو أحد الثلاثة الذين خلفوا. انظر: سير أعلام النبلاء 2/ 523.
(2)
طبع بتحقيق إحسان عبدالمنان عام 1410 هـ. وأصدرته المكتبة الإسلامية بالأردن.
(3)
انظر: فتح الباري 10/ 555.
(4)
هو لبيد بن ربيعة بن عامر العامري، صحابي جليل رضي الله عنه، من شعراء المعلقات، ومن كبار شعراء الجاهلية، عُمِّرَ طويلًا. انظر: طبقات فحول الشعراء 1/ 135، لبيد بن ربيعة للجبوري 57.
(5)
عجزه:
.............................
…
وكل نعيم لا محالة زائلُ.
انظر: ديوانه 127.
(6)
صحيح البخاري، ك الأدب، باب ما يجوز من الشعر 5/ 2276، صحيح مسلم، كتاب الشعر 4/ 1768.
(7)
صحيح البخاري، ك الأدب، باب هجاء المشركين 5/ 2278، صحيح مسلم، =
3 -
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم حسانَ بذلك فقال: «اهجهم - أو هاجهم - وجبريل معك» . (1)
4 -
قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ من الشِّعْرِ حِكمةً» (2).
5 -
عن الشَّريدِ (3) رضي الله عنه قال: ردفتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يومًا فقال: «هل معكَ من شعرِ أميةَ بن أبي الصلت شيءٌ؟ قلت: نعم. قال: هيه. فأنشدته بيتًا، فقال: هيه - أي: زدني -، ثم أنشدته بيتًا فقال: هيه، حتى أنشدته مائة بيت (4).
6 -
أَقَرَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم صحابته على قول الشعر وسَماعهِ وإنشاده واستنشاده في حضرته، فعن جابرِ بنِ سَمُرةَ رضي الله عنه قال: كان أصحابه يتذاكرون عنده الشعر وأشياء من أمورهم، فيضحكونَ، ورُبَّما تَبَسَّم صلى الله عليه وسلم (5).
كل هذه الأحاديث تدلُّ على أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يُرخِّصُ في قولِ الشِّعرِ، بل ويأمرُ به للردِّ على المشركين، ويستنشدُ بعضَ الصحابةِ. مِمَّا يدلُّ على جوازهِ، وجُمهورُ الفقهاء من المذاهب الأربعة المتبوعة مجمعون على جوازه وإباحته، وهو المنقول عن عامة أهل العلم قديمًا
= كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل حسان 4/ 1934.
(1)
صحيح البخاري، ك الأدب، باب هجاء المشركين 5/ 2279، صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل حسان 4/ 1933.
(2)
صحيح البخاري، ك الأدب، باب ما يجوز من الشعر 5/ 2276.
(3)
هو الشريد بن سويد الثقفي رضي الله عنه، صحابي جليل شهد بيعة الرضوان، قيل: أصله من حضرموت، توفي في خلافة يزيد بن معاوية. انظر: طبقات ابن سعد 5/ 145، أسد الغابة 2/ 423.
(4)
صحيح مسلم، كتاب الشعر 4/ 1767، جزء في أحاديث الشعر.
(5)
مسند أحمد 5/ 85، سنن الترمذي، كتاب الأدب، باب ما جاء في إنشاد الشعر 5/ 128، وقال: حديث حسن صحيح. صحيح ابن حبان، كتاب الحظر والإباحة، باب الشعر والسجع 13/ 96، مسند أبي يعلى 13/ 369، مصنف ابن أبي شيبة، كتاب الأدب، باب الرخصة في الشعر 8/ 524.
وحديثًا (1). وهناك من نقل عنه كراهيته للشعر (2).
وهناك أحاديث وردت في ذم الشعر يحتج بها من يقول بكراهة الشعر بل بعضهم يبالغ فينهى عنه، وأهمها ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:«لأَنْ يَمتلئَ جوفُ رجلٍ قَيحًا حتى يَرِيَهُ خير من أن يَمتلئَ شعرًا» (3). من الوَرْي على وزن الرَّمْي، وهو الداء. يقال: وَرِيَ يَرِي فهو مُورِي، إذا أصاب جوفه الداء (4).
وسئلت عائشة رضي الله عنها: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتسامع عنده الشعر؟ قالت: كان أبغض الحديث إليه (5).
وقد نَبَّهَ العلماء على مناسبة هذا الحديث بِما يُزيلُ الإشكالَ، وقيل إِنَّ «مناسبة هذه المبالغةِ في ذمِّ الشعر أَنَّ الذين خُوطبوا بذلك كانوا في غايةِ الإقبال عليه، والاشتغالِ به، فزجرهم عنه ليُقبلوا على القرآنِ، وعلى ذكر الله تعالى وعبادتهِ، فمَنْ أخذَ من ذلك ما أُمِرَ بهِ لم يَضرُّهُ ما بقي عنده مِمَّا سوى ذلك» (6).
(1) انظر: التمهيد لابن عبد البر 22/ 194، المجموع 2/ 73، المغني 14/ 164، مغني المحتاج 4/ 430، حاشية ابن عابدين 1/ 46، الأحكام الفقهية المتعلقة بالشعر لهيثم بن فهد الرومي، بحث تكميلي للماجستير بالمعهد العالي للقضاء بجامعة الإمام ص 47 وما بعدها، الأحكام الفقهية المتعلقة بالشعر للدكتور زيد الغنام، بحث منشور بمجلة جامعة الإمام، العدد الخمسون ص 165 وما بعدها.
(2)
شرح النووي على مسلم 15/ 21، تهذيب الآثار للطبري 2/ 647.
(3)
صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر 5/ 2279، صحيح مسلم، كتاب الشعر 4/ 1769.
(4)
انظر: غريب الحديث 1/ 160، عمدة القاري 22/ 189، فتح الباري 10/ 564.
(5)
مسند أحمد 6/ 134، السنن الكبرى للبيهقي - كتاب الشهادات - باب ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر حتى يصده عن ذكر الله والعلم والقرآن 10/ 245، مصنف ابن أبي شيبة - كتاب الأدب - باب من كره الشعر 8/ 534، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 8/ 119: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.
(6)
فتح الباري للعسقلاني 10/ 566.
وورد في رواية للحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده لأَنْ يَمتليءَ جوفُ أحدكم قيحًا ودمًا خيرٌ له من أن يَمتليء شعرًا يهجو به النَّاسَ ويؤذيهم» (1)، وفسَّرتُهُ عائشة رضي الله عنها بقولِها:«يعني الهجاء منه» (2).
وهذه الأحاديث التي وردت في الذمِّ مَحمولةٌ على مَنْ أقبلَ على الشِّعرِ واشتغلَ به عن الذِّكرِ والصلاة وطاعة الله تعالى، وعلى مَن أقبل على شعر اللهو والعَبَثِ والباطل. ولذلك بَوَّبَ البخاريُّ في صحيحه:«بابُ ما يُكرهُ أَنْ يكونَ الغالبُ على الإنسانِ الشعرَ حتى يَصُدَّهُ عن ذكر اللهِ والعلمِ والقرآن» (3). ولذلك قال بعض العلماء: «وحَدُّ ما دون الامتلاء أن يعلم المرءُ ما يَلزمهُ، ويَروي مع ذلك من الشعر ما شاء» (4). وأما قول عائشة رضي الله عنها فهو محمول على بغض الشعر الذميم الذي يفيض بالفحش وهتك الأعراض (5). ويلخص الحكم ما روته عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الشعر بِمنْزِلةِ الكلام، حَسَنُهُ كَحَسَنِ الكلامِ، وقَبيحُهُ كقَبيحِ الكلامِ» (6).
(1) المنتخب من كتاب الشعراء لأبي نعيم الأصبهاني 32
(2)
الفاضل للمُبَرِّد 13، فتح الباري 10/ 565، غريب الحديث 1/ 162، تهذيب الآثار للطبري 2/ 651، الإحكام للآمدي 3/ 73، نضرة الإغريض للعلوي 361، شرح مسلم للنووي 15/ 21، فتح الباري 10/ 565.
(3)
صحيح البخاري - كتاب الأدب 5/ 2279، صحيح مسلم 4/ 46، سنن أبي داوود 4/ 414.
(4)
الإحكام لابن حزم 2/ 342، أضواء البيان 6/ 390، الاستقامة لابن تيمية 1/ 243.
(5)
السيرة الحلبية 2/ 260.
(6)
الأدب المفرد للبخاري - باب الشعر حسنه كحسن الكلام ومنه قبيح 299 (865)، السنن الكبرى للبيهقي - كتاب الشهادات - باب شهادة الشعراء 10/ 239، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 8/ 122: رواه الطبراني في الأوسط وقال: لا يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا بهذا الإسناد. قال: وإسناده حسن. أ. هـ وحسنه النووي في الأذكار 646، وضعفه ابن حجر في الفتح 10/ 555، وصححه الألباني لمجموع طرقه في صحيح الجامع 1/ 694 (3733).
فالشعر فيه الحكمة، وفيه الفحش «وليس أحدٌ من كبار الصحابةِ، وأهل العلمِ، وموضعِ القدوةِ إلا وقدْ قالَ الشعرَ، وتَمثَّلَ به، أو سَمِعَهُ فرضيه، وذلك ما كان حِكمةً، أو مباحًا من القول، ولم يكن فيه فُحشٌ ولا خَنَى، ولا لِمُسلمٍ أذى، فإنْ كان ذلك فهو أَو المنثورُ من الكلام سواء، لا يَحِلُّ سَماعهُ ولا قوله» (1).
وقد أجاب الإمام الذهبي على سؤال حول حكم الشعر فقال: «وكذلك الشعر هو كلام كالكلام، فحَسَنُهُ حَسَنٌ، وقَبيحهُ قَبيحٌ، والتوسعُ منه مباح، إلا التوسع في حفظِ مثل شعر أبي نُواس وابنِ الحَجَّاجِ (2) وابنِ الفارضِ (3) فإِنَّهُ حَرامٌ، قال في مثلهِ نَبِيُّكَ: «لأن يَمتلئَ جوفُ أحدكم قيحًا حتى يَرِيَهُ خَيْرٌ له من أَن يَمتلئَ شعرًا» » (4).
وليس معنى نفي الشعر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يفهم الشعر ولا يستجيده، بل هو يفهمه ويتذوقه، ومن الأدلة على ذلك أَنَّهُ حين طلب من الشعراء أَنْ يدفعوا أذى قريش وهجاءها، جاءه علي بن أبي طالب فصَرَفه، وعبدالله بن رواحة فلم يعجبه هجاؤه، وكعب بن مالك فاستحسنه، ودعا لهم جَميعًا، غير أَنَّه لما هجاهم حسان بن ثابت رضي الله عنه قال:«لقد شَفَى واشتَفى» (5).
(1) التمهيد لابن عبد البر 22/ 194.
(2)
هو حسينُ بن أحمد بن محمد بن جعفر بن محمد بن الحجاج، النيلي البغدادى، شاعر شيعي من عصر بني بويه الشيعة، غلب عليه الهزل، قال عنه الذهبي:«شاعر العصر، وسفيهُ الأدباء، وأميْرُ الفحش» .كان أمةً وحدَهُ فى نظمِ القبائحِ، توفي ببغداد سنة 391 هـ. انظر: معجم الأدباء 9/ 206، سير أعلام النبلاء 17/ 59.
(3)
هو عُمر بن علي بن مرشد الحموي، مصري المولد والدار والوفاة، لقب بشرف الدين بن الفارض (576 - 632 هـ)، شاعر متصوف، في شعره فلسفة تتصل بِما يُسمَّى (وحدة الوجود)، ظهرت في شعره، سلك طريق التصوف وجعل يأوي إلى المساجد المهجورة وأطراف جبل المقطم. انظر: سير أعلام النبلاء 22/ 368.
(4)
مسائل في طلب العلم وأقسامه 209 - 210 ضمن ست رسائل للإمام الذهبي.
(5)
صحيح مسلم 4/ 146.