الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السادس: صلة الشاهد الشعري بالتفسير اللغوي
.
التفسير اللغوي للقرآن الكريم أحد أنواع التفسير، فقد ذكر المتقدمون أنواعًا للتفسير، حيث يقول الإمام عبدُ الرزاق الصنعانيُّ:«حدثنا الثوري عن ابن عباس رضي الله عنهما أَنَّهُ قَسَّمَ التفسير إلى أربعة أقسام: قسم تعرفه العرب في كلامها، وقسم لا يُعذَرُ أحدٌ بِجَهالتهِ، يقول من الحلال والحرام، وقسمٌ يعلمه العلماءُ خاصةً، وقسم لا يعلمه إِلَّا اللهُ، ومن ادَّعى عِلمَه فهو كاذِبٌ» (1).
وقد شرح الطبري القسم الأخير منها فقال: «وهذا الوجه الرابع الذي ذكره ابن عباس من أَنَّ أحدًا لا يُعذَرُ بِجهالته، معنىً غير الإبانة عن وجوه مطالب تأويله، وإِنَّما هو خَبَرٌ على أَنَّ من تأويله ما لا يَجوزُ لأَحدٍ الجهلُ به» (2). وزاد الماوردي في الإبانة عن عبارة ابن عباس بأكثر من هذا في تفسيره (3).
والتفسير الذي تعرفه العرب من كلامها هو ما يَفهمهُ العربيُّ بسليقتهِ، ويُرجعُ فيه إلى لسانهِ بعد انقضاء زمنِ الاحتجاج. قال الزركشي:«فأما الذي تعرفه العربُ، فهو الذي يُرجَعُ فيه إلى لِسَانِهِم، وذلك شأنُ اللغةِ والإعراب» (4). فقد جعل الزركشي رحمه الله التفسيرَ اللغويَّ
(1) تفسير عبدالرزاق 1/ 24، وانظر: تفسير الطبري (شاكر) 1/ 75، إيضاح الوقف والابتداء 1/ 101، دقائق التفسير 6/ 448.
(2)
تفسير الطبري (شاكر) 1/ 75 - 76.
(3)
انظر: النكت والعيون 1/ 36 - 37.
(4)
البرهان في علوم القرآن 2/ 306.
مما يعول فيه على معرفة العربي، والأمر الآخر هو التركيب النحوي الذي يدركه العربي الفصيح بداهةً.
والتفسير اللغوي للقرآن الكريم هو بَيَانُ معاني القرآن بِمَا وردَ في لغةِ العَربِ، ويشملُ ذلك ألفاظها وأساليبها التي نزل بِهَا القرآن الكريم (1). يقول الشاطبي: «فإن قلنا: إن القرآن نزل بلسان العرب، وإنه عربي، وإنه لا عُجمةَ فيهِ، فيعني أنه أنزل على لسان معهود العرب في ألفاظها الخاصة وأساليب معانيها، وأنها فيما فُطرت عليه من لسانها تخاطب بالعام يراد به ظاهره، وبالعام يراد به العام في وجه والخاص في وجه، وبالعام يراد به الخاص، وظاهر يراد به غير الظاهر، وكل ذلك يعرف من أول الكلام أو وسطه أو آخره
…
» (2).
وقد نشأت الحاجةُ إلى تفسير ألفاظ القرآن الكريم لما اتسعت رقعة الفتح الإسلامي، وانتشر الإسلام خارج الجزيرة العربية التي يعرف أهلها القرآن بفطرتهم، وقد بدأ ذلك مبكرًا في عهد الصحابة، ثم لم تزل الحاجة في ازدياد حتى صنَّفَ العلماءُ في ذلك المصنفات الخاصة بشرح ألفاظ القرآن الكريم شرحًا لغويًا، وكانت في أولها تتناول غريب ألفاظ القرآن، حتى وصلت بعدُ إلى استقصاء معاني مفردات القرآن الكريم (3).
فأما الغريبُ في اللغة فهو الغامضُ من الكلام (4). وفي اصطلاح المفسرين الألفاظِ الغامضة في القرآن لقلةِ استعمالِها عند قومٍ مُعينين في حقبةٍ مُحددةٍ من الزَّمنِ. (5)
(1) انظر: التفسير اللغوي للقرآن الكريم للدكتور مساعد الطيار 38، 39.
(2)
الموافقات 5/ 45.
(3)
انظر: مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصبهاني، عمدة الحفاظ للسمين الحلبي.
(4)
انظر: العين 4/ 411، تهذيب اللغة 8/ 115.
(5)
انظر: تفسير غريب القرآن لزيد بن علي، مقدمة المحقق 10، وسيأتي مزيد بيان لمصطلح الغرابة ص 553.
وألفاظ القرآن الكريم ليست على درجة واحدة من حيث وضوح المعنى، قال أبو حيان:«لغاتُ القرآن العزيز على قسمين: قسمٍ يكادُ يشترك في فَهْمِ معناهُ عامَّةُ المستعربة وخاصتهم، كمدلول السماء والأرض، وفوق وتحت. وقسمٍ يَختصُّ بمعرفته مَنْ له اطلاعٌ وتبحرٌ في اللغة العربية، وهو الذي صنَّفَ أكثرُ الناس فيه، وسَمَّوهُ غريبَ القرآن» (1).
ولهذا بدأ التأليف في الغريب في وقت مبكر لكون الحاجة إليه جاءت مبكرة أيضًا، فقد نُسب كتابٌ في غريب القرآن إلى عبدالله بن عباس رضي الله عنهما (2)، وقام السيوطي بجمع أقوال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير مفردات القرآن مما روي من طريق علي بن أبي طلحة (ت 120 هـ) في فصل مفرد (3). ولا شك أن مرويات ابن عباس رضي الله عنهما في التفسير هي التي مهدت للتدوين في علم غريب القرآن في وقت مبكر، وهيأت المادة الأولى لكل من ألف فيه فيما بعد، ثم توالى التصنيف فيه بعد ذلك، فكتب فيه أبان بن تغلب البكري (ت 141 هـ) كتابه «غريب القرآن» ، وكتب فيه محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ)، وكتب فيه أبو روق عطية بن الحارث الهمداني. وكل هؤلاء الثلاثة من طبقةٍ واحدةٍ، حيث يقول ياقوت في ترجَمة أبانِ:«صنَّفَ كتابَ «الغريب في القرآن» ، وذكر شواهدَهُ من الشعر، فجاء فيما بعدُ عبدُالرحمن بنُ مُحمد الأزدي الكوفي، فجَمَعَ من كتاب أبان ومحمد بن السائب وأبي روق عطية بن الحارث، فجعله كتابًا فيما اختلفوا فيه وما اتفقوا عليه، فتارةً يَجيءُ كتابُ أبان مفردًا، وتارة يَجيءُ مشتركًا على ما عَمِلَهُ عبدُ الرحمن» (4).
(1) تحفة الأريب 27.
(2)
ذكر فؤاد سزكين أن كتابًا لابن عباس بتهذيب عطاء بن أبي رباح يوجد مخطوطًا في مكتبة عاطف أفندي بعنوان غريب القرآن. انظر: تاريخ التراث العربي 1/ 67.
(3)
انظر: الإتقان في علوم القرآن 2/ 6 - 54.
(4)
معجم الأدباء 1/ 38.
ويُعدُّ الشاهد الشعري جزءًا من التفسير اللغوي للقرآن الكريم، وقد وضح ابن عباس رضي الله عنهما العلاقة بين المعنى اللغوي لألفاظ القرآن الكريم والشعر العربي، فقال:«إذا أعيتكم العربية في القرآن فالتمسوها في الشعر فإنه ديوان العرب» (1). وقوله كذلك: «إذا سألتموني عن غريب القرآن فالتمسوه في الشعر فإن الشعر ديوان العرب» (2). وقد سبقه إلى ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عندما سأل عن معنى التخوف في قوله تعالى:{أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)} [النحل: 47](3) فقام رجل من هذيل، فقال: هذه لغتُنَا، التَّخَوُّفُ: التَّنَقُصُ، فقال عمر: هل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ قال: نعم، قال شاعرنا يصف ناقته:
تَخَوَّفَ الرَّحْلُ منها تَامِكًا قَرِدًا
…
كَمَا تَخَوَّفَ عُودَ النَّبْعَةِ السَّفِنُ (4)
فقال عمر: «عليكم بديوانِكم لا تَضِلُّوا. قالوا: وما دِيوانُنا؟ قال: شعرُ الجاهليَّةِ؛ فإِنَّ فيهِ تفسيرُ كتابِكُم، ومَعاني كلامِكُم» (5). غير أن ابن عباس قد أكثر من الاستشهاد بالشعر في التفسير، مما جعل هذا المنهج ينسب إليه كأَوَّلِ مَن فتح هذا الباب، ونهجه للمفسرين من بعده (6)، فقد تابعه على هذا المنهج من أخذ عنه من التابعين، ثم من بعدهم حتى حُفظَ هذا المنهجُ وتطبيقُهُ في أوائل كتب التفسير، ولغة القرآن مثل «مجاز
(1) إيضاح الوقف والابتداء 1/ 101.
(2)
المصدر السابق 1/ 62، ومجالس ثعلب 317.
(3)
النحل 47.
(4)
سبق تخريجه ص 58. وانظر: شرح التبريزي للمفضليات 3/ 1256.
(5)
قال المناوي في الفتح السماوي 2/ 755: لم أقف عليه، وقال ابن حجر في فتح الباري 8/ 368: وروي بإسناد فيه مجهول عن عمر، أنه سأل عن ذلك، فلم يجب، فقال عمر: ما أرى إلا أنه على ما ينتقصون من معاصي الله. قال: فخرج فلقي أعرابيًا، فقال: ما فعل فلان؟ قال: تخوفته - أي: تنقصته. فرجع، فأخبر عمر، فأعجبه». ثم قال:«وفي شعر أبي كبير الهذلي ما يشهد له» .وهو يعني الشاهد الشعري المتقدم. وورد نحوه عن ابن عباس في المستدرك عند الحاكم 2/ 499، وعند البيهقي في الأسماء والصفات 345.
(6)
سيأتي تفصيل ذلك في الفصل التالي ص 224.
القرآن» لأبي عبيدة، و «معاني القرآن» للفراء، وتفسير الطبري وغيرها.
وقد أحصيتُ الشواهد الشعرية في كتب التفسير والمعاني والغريب محل الدراسة، فكانت على النحو التالي:
الكتاب
…
المؤلف
…
عدد الشواهد
مجاز القرآن
…
أبو عبيدة «ت 210 هـ»
…
952
معاني القرآن
…
الفراء «ت 207 هـ»
…
785
غريب القرآن
…
ابن قتيبة «ت 276 هـ»
…
182
تأويل مشكل القرآن
…
ابن قتيبة «ت 276 هـ»
…
361
تفسير الطبري
…
محمد بن جرير «ت 310 هـ»
…
2260
الكشاف
…
الزمخشري «ت 538 هـ»
…
901
المحرر الوجيز
…
ابن عطية «ت 542 هـ»
…
1981
الجامع لأحكام القرآن
…
القرطبي «ت 671 هـ»
…
4807
ويمكن تسجيل بعض السمات لتعامل هؤلاء المفسرين مع الشواهد الشعرية:
أولًا: أول هذه الكتب من حيث التأليف هو كتاب «مجاز القرآن» ظهر فيه الاعتماد على الشاهد الشعري بشكل ملحوظ؛ مما جعل بعض العلماء حينذاك يعارضونه معارضةً شديدةً (1)، وقد ذكر العسكري أَنَّ أبا عبيدة تأثر في منهجه هذا بما حُفِظَ عن ابن عباس من مسائل نافع بن الأزرق فقال عن أبي عبيدةَ:«صنَّفَ كتابَ المَجازِ، وأَخَذَ ذلك من ابن عباس حينَ سأله نافعُ بن الأزرق عن أشياءَ من غريب القرآنِ، ففسَّرها لَهُ واستشهد عليها بأبياتٍ من شعر العربِ، وهو أَوَّلُ ما رُوي في ذلك، وهو خَبَرٌ معروفٌ» (2).
(1) انظر: طبقات النحويين واللغويين 167.
(2)
انظر: الأوائل للعسكري 261.
ثانيًا: الصفة المميزة لكتاب أبي عبيدة اعتمادُهُ الدليلَ اللغوي أصلًا ثابتًا ورئيسًا في التفسير، ولعله تأثر في ذلك بشيخه أبي عمرو بن العلاء، الذي اقتبس منه هذه الطريقة في تفسير القرآن الكريم، والاستشهاد على ذلك بشعر العرب (1). حيث كان الشعر بعد القرآن من أهم ما تلقى أبو عبيدة عن أبي عمرو (2).
ثالثًا: أغفل أبو عبيدة أصولًا تفسيرية أخرى كان الإجماع منعقدًا عليها عند المفسرين من قبل، كالعناية بتفسير السلف؛ مما جعل تفسيره تفسيرًا لغويًا محضًا، وقد اعتبر هذا المسلك خروجًا على ما كان عليه علماء اللغة والتفسير الذين كانوا يتحرجون أشد الحرج ويلتزمون بآثار السلف. وقد تعقبه الطبري في كثير من المواضع التي فسر فيها القرآن الكريم، ووصفه بأنه «مِمن ضعفت معرفته بتأويل أهل التأويل، وقلت روايته لأقوال السلف من أهل التفسير» (3). مشيرًا بذلك إلى اكتفاء أبي عبيدة باللغة في التفسير، دون غيرها من المصادر.
وقد تَحرَّجَ كثيرٌ من السلف من تفسير القرآن الكريم خوفًا من الدخول في الوعيد الذي ثبت في ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ» (4). غير أن كثيرًا من العلماء نبه إلى أن التفسير بما ثبت في لغة العرب إذا لم يرد في الآية تفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم أو الصحابة ليس من التفسير بالرأي المذموم، وإنما هو تفسيرٌ بِعِلْمٍ؛ فإن القرآن نزل {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)} [الشعراء: 195] (5)، ولذلك قال الماوردي نافيًا أن يكون التفسير باللغة من التفسير بالرأي المذموم وذلك تعليقًا على الحديث السابق: «قد حَمَلَ بعضُ المتورعة هذا
(1) انظر: مجالس العلماء 333، مجاز القرآن 1/ 152، 287، 352.
(2)
انظر: أخبار النحويين البصريين 22.
(3)
تفسير الطبري (شاكر) 1/ 44 - 45.
(4)
أخرجه أبو داود في السنن، كتاب العلم 4/ 63، والترمذي في السنن، كتاب تفسير القرآن 4/ 268.
(5)
الشعراء 195.
الحديث على ظاهره، وامتنع من أن يستنبط معاني القرآن باجتهاده، ولو صحبتها الشواهد، ولم يعارض شواهدها نص صريح. وهذا عدول عمَّا تُعبدنا بمعرفته من النظر في القرآن واستنباط الأحكام منه، كما قال تعالى:{لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83](1)» (2). بل إن في عمل المفسرين من الصحابة والتابعين وأتباعهم ما يدل على أن الأخذ بلغة العرب في التفسير يشبه أن يكون إجماعًا عندهم، وقد حُكِيَ هذا الإجماعُ عنهم (3).
وإذا عُلِمَ «أن ما تكلمت به العرب من جيد المنثور أكثر مما تكلمت به من جيد الموزون، فلم يُحفظْ من المنثور عُشرُهُ، ولا ضاع من الموزون عُشرُهُ» (4) فإنَّ أكثر ما حُفظ من كلام العرب قبل الإسلام هو الشعر لا النثر، وذلك «أن العرب الذين هم أصل الفصاحة كانَ جُلُّ كلامهم شعرًا، ولا نجد الكلام المنثور في كلامهم إلا يسيرًا، ولو كثر فإنه لم ينقل عنهم، بل المنقول عنهم هو الشعر
…
والكلام المنثور بالنسبة إليه قطرة من بحر» (5) وتحقيق ما أُمِرَ به المسلمُ من تدبر القرآن الكريم، يحوج إلى دراسة اللغة العربية، بناءً على أَنَّ مَا لا يتمُّ الواجب إِلَّا بهِ فهو واجبٌ، وحيث إِنَّ الشعرَ يأتي في الذروة مما حفظ من لغة العرب فلزم العناية به، وخاصة ما نقله العلماء من الشواهد الشعرية، التي تعد صفوة ما يمكن أن ينتقى للاستشهاد والاحتجاج. ويمكن إبراز صلة الشاهد الشعري بالتفسير اللغوي للقرآن الكريم من خلال الأوجه التالية:
(1) النساء 83
(2)
البرهان في علوم القرآن 2/ 304.
(3)
انظر: المباني في نظم المعاني بتحقيق آرثر جفري 20
(4)
من كلام لعبدالصمد بن الفضل الرقاشي، أورده الجاحظ في البيان والتبيين 1/ 287، العمدة في صناعة الشعر ونقده 1/ 10
(5)
المثل السائر 3/ 221.