الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} [القصص: 76](1) فسرها ابن عباس بأن معناها: لتثقل عليهم. ثم استشهد على ذلك بقول امرئ القيس:
تَمْشِي فَتُثْقِلُها عَجِيْزَتُهَا
…
مَشْيَ الضعيفِ يَنُوءُ بالوِسْقِ (2)
فهذا الشاهد في معناه يشير إلى جانب من جوانب النسيب ووصف النساء، ولكن ابن عباس نظر إلى لغة الشاهد دون معناه، وهو الجانب المراد من إيراد الشاهد الشعري، وهي أَنَّ نَاءَ بِمَعنى ثَقُلَ. وقد التمس عبد القاهر الجرجاني العذر للسلف في ذلك فقال:«وقد استشهد العلماء لغريب القرآن وإعرابه بالأبيات فيها الفُحْشُ، وفيها ذِكْرُ الفِعلِ القَبيح، ثم لم يَعِبْهُم ذلك، إذ كانوا لم يقصدوا إلى ذلك الفحش ولم يريدوه، ولم يرووا الشعر من أجله» (3).
6 -
الاستشهاد لمعنى لفظة دون أخرى في الآية المسئول عنها. فعند السؤال عن قوله تعالى: {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36](4) فسر ابن عباس القانعَ بِأَنه الذي يقنع بِما أُعطي، والمُعتَرَّ الذي يعترض الأبواب، وقد سأله نافع بن الأزرق عن شاهد لذلك من الشعر، فقال: أما سمعت قول الشاعر:
عَلى مُكْثِريهِمْ حَقُّ مَنْ يَعْتَرِيْهِمُ
…
وعندَ المُقِلِّينَ السَّمَاحَةُ والبَذْلُ (5)
فهو قد شرح اللفظتين، ثم أورد شاهدًا لمعنى المعتر، دون القانع (6).
*
أثر مسائل نافع بن الأزرق في كتب التفسير:
أولًا: هذه المسائل المنسوبة لابن عباس تتخذ مَنهجًا مطردًا، على
(1) القصص 76.
(2)
انظر: ديوانه 465، وانظر: مسائل الطستي 2/ 39، غريب القرآن في شعر العرب 234.
(3)
دلائل الإعجاز 12.
(4)
الحج 36.
(5)
لزهير في ديوانه 145.
(6)
انظر: الدر المنثور 10/ 508.
وتيرة واحدة دون استثناء، في شرح الكلمة بكلمة، يعقبها شاهد شعري مؤيد للتفسير، في حين تعامل المفسرون مع هذه الألفاظ التي وردت في المسائل تعاملًا مختلفًا، فقد لا يرى المفسرُ حاجةً إلى شرح اللفظة الواردة في المسائل وهو قليل، فإن شرحها فقد لا يردفها بشاهد شعري كما فعل الرازي، فقد ذكر سؤال نافع بن الأزرق لابن عباس وجواب ابن عباس له دون أن يذكر الشواهد الشعرية (1)، فإن دعمها بشاهدٍ فقد لا يكون الشاهد شعريًا، أو قد يكون شعريًا ومعه غيره من الشواهد النثرية.
فمثلًا سأل نافع بن الأزرق عن معنى النُّحَاسِ في قوله تعالى: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35)} [الرحمن: 35](2) فقال ابن عباس: الدُّخانُ الذي لا لَهَب فيه، مُحتجًّا بقول النابغة الجعدي:
تُضِيءُ كَضَوءِ سِرَاجِ السَّلِيـ
…
ـطِ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ فيهِ نُحَاسَا (3)
وقد تأثرَ جُلُّ المفسرينَ بِهَذا الجواب، فقد تعرض أبو عبيدة لهذه اللفظة، وفسرها بتفسير ابن عباس، واستشهد لها بالشاهد نفسه (4)، وكذلك فعل الفراء (5)، والطبري (6)، والزمخشري (7)، وابن عطية (8)، والقرطبي (9).
ثانيًا: الشرح المعجمي للمفردات في المسائل حافظ على دلالته مع تغير الزمان، لأن فهم القرآن ينبغي أن يكون على العُرْفِ اللغويِّ الأول، واللغة المستعملة إِبَّانَ نزول القرآن، دون التأثر بالتطور الدلالي اللغوي الحادث بعد ذلك، ومن ثَمَّ فإن التفسير الذي فسره ابن عباس بقي
(1) انظر: التفسير الكبير للرازي 18/ 45، 157، 21/ 22.
(2)
الرحمن 35.
(3)
انظر: ديوانه 81، وانظر: مسائل نافع بن الأزرق 37.
(4)
انظر: مجاز القرآن 2/ 244 - 245.
(5)
انظر: معاني القرآن 3/ 117.
(6)
انظر: تفسير الطبري (هجر) 22/ 226.
(7)
انظر: الكشاف 4/ 449.
(8)
انظر: المحرر الوجيز 15/ 338، وقد نسب الشاهد للأعشى.
(9)
انظر: الجامع لأحكام القرآن 17/ 112.
محافظًا على قيمته الدلالية حتى الآن، وربما استشهد المفسرون بالشاهد الشعري الذي استشهد به ابن عباس نفسه. وربما تغير الشاهد الشعري دون الدلالة في المسائل. مثل سؤال نافع عن معنى الشواظ في قوله تعالى:{يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا} [الرحمن: 35](1) فأجابه ابن عباس بقوله: اللهب الذي لا دخان فيه، مستشهدًا بقول أمية بن أبي الصلت:
يَمَانيًّا يَظَلُّ يَشِبُّ كِيْرًا
…
ويَنْفُخُ دَائِبًا لَهَبَ الشُّوَاظِ (2)
فقد وجدت المفسرين من بعده قد وافقوه جميعًا في شرح هذه اللفظة، واختلفوا في الاستشهاد بالشاهد الشعري على ثلاثة أقسام:
- من استشهد بالشاهد الشعري الذي استشهد به، ومنهم ابن عطية (3)، حيث اكتفى بذكر الشاهد الشعري الذي ذكره ابن عباس، وأما القرطبي فقد أورد الشاهد الذي ذكره ابن عباس، والشاهد الذي ذكره أبو عبيدة والطبري (4).
- من استشهد بشاهد شعري آخر. وهم أبو عبيدة حيث قال: «وشواظ واحد، وهو النار التي تؤجج لا دخان فيها، قال رؤبة:
إِنَّ لَهُمْ مِنْ وَقْعِنَا أَقْيَاظَا
…
ونَارَ حَربٍ تُسْعِرُ الشُّوَاظَا (5)
فهو قد وافق ابن عباس في التفسير، ولكنه خالفه في الشاهد الشعري، فلم يستشهد بالشاهد الذي استشهد به ابن عباس، وكذلك فعل الطبري، فقد وافق أبا عبيدة في التفسير والشاهد الشعري (6).
- من لم يستشهد بالشعر واكتفى بالتفسير. ومنهم الفراء، فقد
(1) الرحمن 35.
(2)
انظر: مسائل نافع بن الأزرق 36.
(3)
انظر: المحرر الوجيز 15/ 337 - 338.
(4)
انظر: الجامع لأحكام القرآن 17/ 112.
(5)
لم أجده في ديوانه. وانظر: مجاز القرآن 2/ 244.
(6)
انظر: تفسير الطبري (هجر) 22/ 221 - 222.
وافقهم في التفسير للفظة، ولكنه لم يستشهد لها بشاهد من الشعر (1).
ثالثًا: اختلاف الشواهد الشعرية في مسائل نافع بن الأزرق عن الشواهد الشعرية في كتاب «مجاز القرآن» لأبي عبيدة، الذي يُعَدُّ كُلُّ من كَتَبَ بعده في غَريبِ القُرآن عالةً على شواهده الشعرية، مع أن أبا عبيدة أحد رواة المسائل (2)، وقد كان تأثرُ الطبريِّ والزمخشريِّ وابن عطية والقرطبيِّ بشواهد «مَجَاز القرآن» أكثر من تأثرهم بشواهد مسائل نافع بن الأزرق. وهذا يطعن في قول من اتهم أبا عبيدة بوضع مسائل نافع بن الأزرق (3).
رابعًا: تأثر المفسرون بمنهج ابن عباس في جوابه لنافع بن الأزرق في الاستشهاد بالشعر، ولم يشذ أحد منهم من لدن أبي عبيدة في «مَجَاز القرآن» ، حتى الشنقيطي وابن عاشور من المعاصرين، مرورًا بكبار المفسرين كالطبري وابن عطية والزمخشري والقرطبي، فالمادة الشعرية في تفاسيرهم، ومنهجهم في الاستشهاد تدل على تأثرهم بهذه المسائل.
خامسًا: أورد القرشي في أول كتابه «جَمهرة أشعار العرب» أربعةً وثَمانينَ شاهدًا من الشعر، وبعد كل شاهد يذكر اللفظة القرآنية التي وردت موافقة لما في الشاهد الشعري، بطريقة مخالفة لطريقة مسائل نافع بن الأزرق التي تبدأ بالسؤال عن اللفظة القرآنية ثم يأتي الشاهد بعد ذلك. غير أن كثيرًا من شواهد الشعر التي ذكرها القرشي هي شواهد وردت في روايات مسائل نافع بن الأزرق لابن عباس (4). وهو قبل ذلك قد ذكر قصة سؤال نافع لابن عباس، ولم يسرد المسائل (5)، وفي هذا نوع من التأثر بهذه المسائل.
سادسًا: مِنْ أكثرِ من رأيتهُ نَسَجَ على مِنوالِ هذه المسائلِ دونَ
(1) انظر: معاني القرآن 3/ 117.
(2)
انظر: الكامل 3/ 1144.
(3)
انظر: قضايا اللغة في كتب التفسير للجطلاوي 156.
(4)
انظر مثلًا: جمهرة أشعار العرب 1/ 130، 134، 137.
(5)
انظر: المصدر السابق 1/ 111.
الإشارةِ إليها أَدنى إشارةٍ أبو النَّصر أَحْمدُ بنُ مُحمدٍ السَّمْرَقَنْدِيُّ (1) المعروفُ بالحَدَّاديِ في كتابه «المُوضِّح في التفسير» ، وهو كتاب مُختصر في تفسير الغريب من ألفاظ القرآنِ وأساليبه، يكتفي فيه بِبَيانِ اللفظةِ الغريبة، أو التركيبِ المُشكلِ في الآيةِ بأَوجزِ عبارةٍ، ثُم يستشهدُ على ذلك بشاهدٍ من الشِّعرِ أو أكثر، على غرار مسائل نافع بن الأزرق، ويقع الكتاب في (113) مائة وثلاث عشرة صفحة، فسَّر فيها (200) مائتي لفظةٍ غريبةٍ، وأسلوبٍ من أساليب القرآنِ الكريم، واستشهد على تفسيره بِمائتين وخَمسةَ عشر شاهدًا من الشعرِ الجيّدِ المُحتجِّ به عند المفسرين، ولم ينسب منها لقائله إلا ثلاثة وعشرين شاهدًا، في حين استطاع المُحقق نسبة مائة وثلاثة وستين شاهدًا، وبقي تسعة وعشرون شاهدًا غير منسوبة، والشعراء الذين استشهد بشعرهم من الجاهليين والمخضرمين والإسلاميين، ولم يستشهد بشعر المُحدثين إلا في موضع واحدٍ، فقد استشهد ببيت لأبي نواس، معتمدًا على إنشاد الفراء له. (2) ويظهر من منهجه أنه لم يكن يعتني بنسبة الشواهد الشعرية إذا ثبتت لديه صحتها، والثقة بها، وقد كان هذا نهجًا عند العلماء، وسيأتي بيان ذلك (3).
(1) هو شيخ القراء بسمرقند، والحدادي نسبة إلى عمل الحديد، أو إلى قرية اسمها حدادة. وذكر ياقوت أنها قرية كبيرة بين دامغان وبسطام على جادة الري، وهي تابعة لإيران اليوم. وقد توفي بعد الأربعمائة للهجرة. انظر: غاية النهاية 1/ 105، مقدمة كتاب المدخل في التفسير للحداد 17 - 20.
(2)
انظر: الموضح في التفسير 120.
(3)
للحدَّادي السمرقندي هذا كتاب آخر، سَمَّاه «المدخل لعلم تفسير كتاب الله تعالى» ، صنفه بعد «الموضح» ، وقد طبع في مجلد واحد، وقد أكثر فيه من الاستشهاد بالشعر فبلغت شواهده (619) شاهدًا، وقد ذكر فيه قواعد لغوية وبلاغية في التفسير على غرار ما كتبه ابن قتيبة في تأويل المشكل، وابن فارس في الصاحبي. وفيه من الاستشهاد بالشعر ما يدل على رسوخ قدم الحدادي في معرفة الشعر، ولا سيما شعر الجاهلية، الذي هو عمدة أهل التفسير في الاستشهاد كما دلت على ذلك هذه الدراسة. انظر: المدخل لعلم تفسير القرآن الكريم للحدادي، تحقيق عدنان داوودي، ط. دار القلم ص 44، 708 - 755.