الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1 -
أَن يكونَ مُحاكيًا للأَصلِ، ويُمَثِّلُ جانبًا من واقعهِ. (1)
2 -
أن يكون قائله من أهل المعرفة بشعر العرب، ومذاهب الشعراء (2).
°
القسم الثاني: العيوب المضعفة للشاهد الشعري
.
وأما القسم الثاني من عيوب الشاهد الشعري وهي العيوب المضعفة للشاهد الشعري، فهي تلك العيوب التي تضعف من قوة الشاهد الشعري ولكنها لا تسقط الاستشهاد به بالكلية للخلاف بين أهل العربية في ذلك. ومن هذه العيوب:
1 - رد الشاهد لكونه موضع ضرورة شعرية
.
اختلف العلماء في حقيقة الضرورة في الشعر على عدة آراء:
الأول: مَنْ يرى أن الضرورة ما وقع في الشعر، سواء أكان للشاعر عنه مندوحة أم لا (3). ونسبه الألوسي إلى الجمهور (4).
الثاني: مَن يرى أن الضرورة ما وقع في الشعر مما ليس للشاعر عنه مندوحة، وهو ما أشار إليه ابن مالك (5)، ونسبهُ لَهُ جَماعةٌ من النحويين (6).
وبناء على ذلك فقد ذهب بعض العلماء إلى أن الشعر لا ينبغي أن يكون هو المستند الوحيد لبناء القواعد في لغة العرب، ولا أن ينفرد بالتأسيس لها؛ وذلك أنه موضع للضرورات التي لا يمكن أن يقاس عليها
(1) انظر: المفصل في تاريخ العرب لجواد علي 9/ 403 - 405.
(2)
انظر: الزينة للرازي 1/ 118 - 122.
(3)
انظر: الخصائص 3/ 59، ضرائر الشعر لابن عصفور 13، الاقتراح 32، خزانة الأدب 1/ 31، 33، 46.
(4)
انظر: الضرائر 7.
(5)
انظر: شرح التسهيل 1/ 201 - 202، شرح الكافية الشافية 1/ 299 - 300.
(6)
انظر: ارتشاف الضرب 2/ 1014، ومغني اللبيب 1/ 49، والأشباه والنظائر 2/ 200، والمساعد على تسهيل الفوائد 1/ 150، وخزانة الأدب 1/ 33.
كلام الناس المنثور الخالي من هذه الضرورات. يقول الشاطبي (790 هـ): «أما الاعتمادُ على الشعر مجردًا من نثر شهيرٍ يضاف إليه، أو يوافق لغةً مستعملةً يُحمل ما في الشعر عليها، فليس بمعتمد عند أهل التحقيق؛ لأن الشعر محل الضرورات» (1). ومثله أبو حيان الغرناطي، فقد رد الشواهد التي استشهد بها من أجاز تقديم الحال على صاحبه المجرور على الرغم من كثرتها بقوله:«وهذا الذي استدلوا به من السماع - على تقدير أن لا يتصور تأويله- لا حجة فيه، لأنه شِعْرٌ، والشعر يجوز فيه ما لا يجوز في الكلام» (2).
ويقول ابن جني: «والشعر موضع اضطرار، وموقف اعتذار، وكثيرًا ما يُحَرَّفُ فيه الكَلِمُ عن أَبنيتهِ، وتُحال فيه المُثُلُ عن أوضاعِ صِيَغِها لأَجلِهِ» (3).
وبِما أَنَّ للشعر لغته الخاصة به، فإن الشاعر مقيَّد بِمراعاة أحكام الوزن، والخضوع لشروط القافية وإقامة الروي، وملزم بعدد من التفاعيل العروضية ليستقيم عروض البيت، فالشاعر «مضطر أن يسلك من السبل كل شاق بسبب إقامة الوزن، ولذلك خلت النصوص الفصيحة البليغة من أمثال هذه العثرات لأن ذلك يعرض للشاعر. وعلى ذلك فإن الشعر لا يمكن أن يكون شواهد لغوية قوية، وربما كان بسبب ذلك أننا نجد جميع العيوب التي تقدح في الفصاحة في الشواهد الشعرية» (4).
كذلك فإن الشعر يخضع للضرورة الشعرية التي تبيح للشاعر أن يخالف قواعد اللغة في حدود معروفة لأجل إقامة الوزن، فقد «أبيح للشاعر ما لم يبح للمتكلم من قصر الممدود، ومد المقصور، وتحريك
(1) الشواهد والاستشهاد للنايلة 135.
(2)
المصدر السابق 135.
(3)
الخصائص 3/ 188.
(4)
النحو العربي نقد وبناء للسامرائي 91 - 92، وانظر: طبقات فحول الشعراء 1/ 56.
الساكن، وتسكين المتحرك، وصرف ما لا ينصرف، وحذف الكلمة ما لم تلتبس بأخرى» (1). كما إنه يحتمل في الشعر «وضع الشيء في غير موضعه دون إحراز فائدة، ولا تحصيل معنى» (2). وهذه الضرورة التي تعرض للشعر تهبط بفصاحته، وتبعده عن واقع اللغة المألوف للناس (3). وقد نبَّهَ سيبويه إلى ذلك بإشارتهِ إلى عدم جواز بعض الأساليب إلا في ضرورة الشعر (4). وقال عند قول كثير عزة:
لِمَيَّةَ مُوحشًا طللُ (5)
«وهذا كلام أكثر ما يكون في الشعر، وأقل ما يكون في الكلام» (6). فالاضطرار يجعل الشاعر ينطق بما لم يَرِدْ به سَمَاعٌ عن العرب (7).
وبعض العلماء لا يعد هذا عيبًا، وإنما يعدُّه من باب الرخصة في الشعر، كما عَقَدَ ابنُ رشيق لذلك بابًا سماه «الرخص في الشعر» ، وجاء فيه قوله:«وأذكر هنا ما يجوز للشاعر استعماله إذا اضطر إليه» (8). ويذكر الألوسي أن الحكم النحوي ينقسم إلى رخصة وغيرها، والرخصة ما جاز استعماله لضرورة الشعر (9)، وجاء نحوه عند السيوطي (10).
وهناك من رأى عدم التفريق بين الشعر وغيره من اللغة، وأن ما جاز في الشعر جاز في اللغة من باب أولى؛ لأن الشعر أصل كلام العرب، وقد نقل أبو جعفر النحاس هذا الرأي فقال: «بعض أهل النظر يقول: كل ما يجوز في الشعر فهو جائز في الكلام؛ لأن الشعر أصل
(1) العقد الفريد 4/ 11 - 12.
(2)
تحصيل عين الذهب 1/ 29.
(3)
انظر: المزهر 1/ 188.
(4)
انظر: الكتاب 1/ 51.
(5)
لم أجده في ديوانه.
(6)
الكتاب 2/ 123 - 124.
(7)
انظر: الخصائص 1/ 396.
(8)
العمدة في صناعة الشعر ونقده 2/ 269.
(9)
انظر: الضرائر 14.
(10)
انظر: الاقتراح 30.
كلام العرب، فكيف نتحكم في كلامها، ونجعل الشعر خارجًا عنه» (1).
وهناك من رأى أن ما ورد في الشعر مخالفًا لقواعد النحويين أخطاء لا مسوغ لها (2)، وعلى هذا الرأي فهي عيوب يعاب بها الشاهد الشعري، وإن لم تسقط الاستشهاد به، يقول ابن فارس:«وما جعل الله الشعراء معصومين، يوقون الخطأ والغلط» (3). ويذكر أبو هلال العسكري أن الشعراء المتقدمين قد وقعوا في مثل هذه الضرورات التي هي من الأخطاء لعدم علمهم بقبحها، ولو نقدت أشعارهم كما نُقِدَتْ أشعار المتأخرين، وعرفوا ذلك العيب فيها لتجنبوه (4). ويقول الأفغاني بعد إيراده لبعض الشواهد التي تحمل على الضرورات عند جمهور النحويين قال:«إلى شواهد كثيرة ألجأت فيها الضرورةُ الشاعرَ إلى خَللٍ في نظم تراكيبه، فهذا كله خطأ ارتكب ضرورة، حين كان الشعر يرتجل، فلا يجوز بناء حُكْمٍ عليه البتةَ» (5). وتسمية هذا بِخُصوصيةِ الشِّعْرِ بنَمَطٍ من الكلام أولى بسبب الاختلاف في مفهوم «الضرورة» ؛ للتباين بين معناها اللغوي المعجمي، وبين ما اصطلح عليه جمهور النحويين (6).
ومن أمثلة ذلك ما ذكره الطبري عند تفسيره لقوله تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا} [البقرة: 88](7) قال: «ولا يجوز تثقيلُ - أي تَحريك - عين «فُعُل» منه، إلا في ضرورةِ شِعْرٍ، كما قال طرفة بن العبد:
أيُّها الفتيانُ في مَجلِسِنَا
…
جَرِّدوا منها وِرَادًا وشُقُر (8)
يريد: شُقْرًا، إلا أَنَّ الشِّعرَ اضطرَّه إلى تَحريكِ ثانيهِ فحرَّكهُ» (9).
(1) إعراب القرآن 5/ 97.
(2)
انظر: ذم الخطأ في الشعر لابن فارس 17.
(3)
انظر: الصاحبي 468، وذم الخطأ في الشعر 6.
(4)
انظر: الصناعتين 150.
(5)
في أصول النحو 70.
(6)
انظر: أصول التفكير النحوي لعلي أبو المكارم 276 - 277.
(7)
البقرة 88.
(8)
ديوانه 57.
(9)
تفسير الطبري (شاكر) 2/ 324.
فهنا يشير إلى اضطرار الشاعر الى تحريك الساكن في المفردة أحيانًا، وهذا لا يعرض للنثر، ويشير بقوله:«لا يَجوزُ تثقيلُ عين «فُعُل» منه». إلى القراءة التي وردت في قوله تعالى في الآية: {غُلْفٌ} [البقرة: 88](1) حيث قرأها بعضهم مضمومة اللام (غُلُفٌ)(2). والشاهد في البيت هو تحريك الساكن وهو القاف لإقامة الوزن.
ومن الأمثلة ما ذكره ابن عطية عند تفسيره لقوله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 90](3): «قرأ الجمهور: {مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ} ، وقرأ ابن كثير وحده:{مَنْ يَتَّقِيْ ويصْبِر} بإثبات الياء. واختلف في وجه ذلك. فقيل: قدر الياء متحركة، وجعل الجزم في حذف الحركة. وهذا كما قال الشاعر:
أَلَمْ يِأْتيكَ والأنباءُ تَنْمِي
…
بِمَا لا قتْ لَبونُ بَنِي زِيَادِ
قال أبو علي: وهذا مِمَّا لا نَحْملهُ عليه؛ لأَنَّهُ يَجيءُ في الشِّعرِ لا في الكلام» (4). فانظر كيف استبعده أبو علي الفارسي من الاستشهاد على توجيه القراءة، لأن ما جاء في الشاهد الشعري من باب الضرورة التي لا تكون إلا في الشعر، وأما القرآن فلا يقال فيه ذلك.
وقد ذكر الدكتور خالد عبد الكريم جمعة مجموعة من الشواهد التي حملها جمهور النحويين على الضرورة، وورد فيها روايات مختلفة في موضع الشاهد تخرجها من باب الضرورة إلى باب الجائز في الكلام المنثور، ورجَّح أن بعضها أُصلح إصلاحًا متعمدًا من أجل تغيير موضع الاستشهاد، وتصحيح موضع الضرورة في الشاهد، ليوافق المطرد في اللسان العربي (5).
(1) البقرة 88.
(2)
انظر: تفسير الطبري (شاكر) 2/ 324، معجم القراءات لعبد اللطيف الخطيب 1/ 149.
(3)
يوسف 90.
(4)
المحرر الوجيز 9/ 369، وانظر مثالًا آخر في المحرر الوجيز 4/ 105.
(5)
انظر: شواهد الشعر في كتاب سيبويه 441 - 447.
ومن أمثلة تلك الشواهد. قول الشمَّاخِ بن ضرار: (1)
لَهُ زَجَلٌ كَأَنَّهُ صوتُ حَادٍ
…
إذا طَلَبَ الوَسِيقةَ أو زَمِيرُ (2)
وقد استشهد به سيبويه على هذه الرواية على حذف حركات الإشباع في الكلام، فالشاعر هنا حذف حركة الإشباع وهي الواو في «كأَنَّهُ» ، حيث أصلها «كأَنَّهو» (3). وتابعه على نقل هذه الرواية كثير من علماء اللغة (4)، والتفسير (5).
أما رواية الشاهد في ديوان الشماخ:
لَهُ زَجَلٌ تقولُ: أَصَوْتُ حَادٍ
…
إذا طَلَبَ الوَسِيقةَ أو زَمِيرُ (6)
وهي على رواية الديوان لا شاهد فيها، وأما على رواية سيبويه فيصح الاستشهاد بها. والذي ينبغي قوله هنا أن الرواية التي رواها سيبويه حجة، ورواية الديوان كذلك. فقد ثبت أن سيبويه شافه الأعراب، وسمع منهم، فالروايات التي يرويها يُحتج بها، ولا تُرَدُّ بِمَا خالفها في الديوان، مع الثقة بما في ديوان الشماخ لكونه من الدواوين التي حظيت بالتوثيق من قِبَلِ العلماء (7).
وقد أجاب السيرافي على مثل هذه المؤاخذات على سيبويه وغيره،
(1) هو معقل بن ضرار الغطفاني، شاعر مخضرم، وله صحبة، بعد عام 30 هـ. عده ابن سلام من الطبقة الثالثة من شعراء الإسلام. انظر: خزانة الأدب 3/ 196 - 197
(2)
انظر: ديوانه 155.
(3)
انظر: الكتاب 1/ 30، شرح أبيات سيبويه للسيرافي 1/ 437.
(4)
انظر: المقتضب 1/ 267، الإنصاف في مسائل الخلاف 406، الخصائص 1/ 127 و 2/ 17، 358، رصف المباني 109، خزانة الأدب 2/ 388، ديوان الشماخ بن ضرار 155 حاشية رقم 17.
(5)
انظر: الجامع لأحكام القرآن 9/ 27، البحر المحيط 5/ 243، الدر المصون 1/ 297.
(6)
يصف حِمارَ وحشٍ هائجًا، يقول: إذا طلب وسيقته وهي أنثاه صَوَّت بِها في تطريبٍ وترجيعٍ، كحادي الإبل، أو كصوت المزمار. انظر: ديوانه 155.
(7)
انظر: ديوان الشماخ 21 - 63.
فقال: «فلا ينبغي أن يذهب إنسان له علم وتحصيل إلى أن سيبويه غلط في الإنشاد، وإن وقع شيء مما استشهد به في الدواوين على خلاف ما ذكر، فإنما ذلك سمع إنشاده ممن يستشهد بقوله على وجه، فأنشد ما سمع؛ لأَنَّ الذي رواه قولهُ حجةٌ، فصار بِمَنْزِلةِ شعرٍ يُروى على وجهين» (1). ويقف السيرافي عند استشهاد سيبويه (2) بقول العجاج:
فقدْ رأَى الرَّاؤونَ غَيْرَ البُطَّلِ
…
أَنَّكَ يا مُعَاوِ يَا ابنَ الأَفْضَلِ (3)
فيقول: «هكذا وقع الإنشاد في الكتاب، وفي شعره:
فقدْ رأَى الرَّاؤونَ غَيْرَ البُطَّلِ
…
أَنَّكَ يا يزيدُ يَا ابنَ الأَنْحَلِ
إِذْ زُلْزِلَ الأَقدامُ لم تزلزلِ (4)
فهذا الذي رأيتُهُ في ديوانه، وليس هذا بمفسد لحجة سيبويه؛ لأنه لم ينقل الشواهد من الدواوين، إنما سمعها، والعرب بعضهم ينشد شعر بعض، فإذا غيَّرَ هذا عربيٌّ يحتج بقوله صار كأنه هو القائل، وليس يجوز أن يفعل مثل هذا رجل عالم؛ لأن سيبويه قد لقي مَنْ قوله حجة، ولم يأخذ من الصحف، فإذا سمع من يجوز أن يكون عنده حجة في كلامه نقل عنه، وإن لم يره أهلًا لذلك تركه
…
» (5).
وقد جاء البغدادي فشرح شواهدَ الرضي على الكافية في كتابه «خزانة الأدب» وكتابه «شرح أبيات المغني لابن هشام» ، فتتبع رواية الشاهد عند النحويين، وما يترتب على تعدد روايته من مناقشات ومشاحنات، ورمي بالتغليط والصنعة والوضع. وكان يقف على الكثير من تلك الروايات مبينًا الرواية التي يستقيم للعلماء من النحويين والمفسرين
(1) شرح أبيات سيبويه 1/ 304.
(2)
انظر: الكتاب 2/ 250.
(3)
ديوانه 158.
(4)
رواية الديوان: «يا ابن الأفحل» و «الأقوام» . انظر: ديوانه 186.
(5)
شرح أبيات سيبويه 1/ 457 - 459، وانظر: 2/ 96.