الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث التاسع: أثر الشاهد الشعري في بيان الأحوال التي نزلت فيها الآيات
.
عُني العلماء بِبَيان أسبابِ نُزولِ الآياتِ التي حُفظَ لها سببُ نُزول، حيث «إنَّ معرفةَ سببِ النُّزولِ يُعينُ على فهم الآية؛ فإن العلم بالسبب يُورثُ العِلمَ بالمُسَبَّبِ» (1)، وأسبابُ النُّزولِ لا تعرف إلا من طريق النقل، ولا مدخل للعقل فيها، وقد كان المفسرون يستشهدون بشواهد الشعر التاريخية، التي تُبَيّنُ أسبابَ نزول بعض الآيات، ومصدر هذه الشواهد روايات أهل السير والأخبار وكتبهم. وكانت السيرة النبوية لابن إسحاق وتهذيبها لابن هشام من المصادر المهمة للشواهد الشعرية التي تناولت كثيرًا من حوادث نزول القرآن الكريم في مواضع متفرقة.
وقد عني المفسرون بهذا النوع من الشواهد الشعرية لتقوية روايات أسباب النُّزول، وإيضاح ملابسات كثير منها. وأصحاب هذه الأشعار مِمَّن شاهدوا التَّنْزيل كحسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك وغيرهم من شعراء الصحابة رضي الله عنهم، ومَنْ عاصر تلك الحقبة من غيرهم من الشعراء.
كما استفاد المفسرون من هذه الشواهد الشعرية في معرفة كثير من أحوال العرب قبل الإسلام، وعادات أهل الجاهلية، وأشعارهم من خير ما يصور حالهم تلك. وقد تعددت فوائد هذه الشواهد الشعرية في إيضاح الأحوال التي نزلت فيها آيات القرآن الكريم، ومن هذه الفوائد:
(1) مقدمة التفسير لابن تيمية 47.
أَولًا: بَيانُ أَسبابِ النُّزولِ.
وذلك أن ينص المفسر أن الآية قد نزلت في كذا، ومما قيل في ذلك من الشعر كذا. ومن أمثلة ذلك:
1 -
ذكر الطبري عند تفسير قوله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)} [الحشر: 5](1) قصة قطع النبي صلى الله عليه وسلم لنخيل بني النضير، فقال: «عن ابن عمر، قال: قطع رسول الله نخل بني النضير، وفي ذلك نزلت:{مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} الآية، وفي ذلك يقول حسان بن ثابت:
وهَانَ على سَراةِ بَنِي لُؤَيٍّ
…
حَرِيقٌ بالبُوَيرةِ مُستطِيْرُ (2)». (3)
والبُوَيْرَة، تصغيرُ بُورة: موضعٌ كان به نَخْلٌ لِبَنِي النَّضِيرِ، وهو من منازِلِ اليَهُودِ. (4) والشعر في هذه المناسبات يعد تأكيدًا للحوادث، وتصديقًا للروايات، فالشعر سجل حافل بروايات التاريخ.
2 -
عند تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9](5)، أورد الطبري سبب نزول هذه الآية فقال: «جَلس رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في مجلسٍ فيه عبد الله بن رواحة، وعبد الله بن أُبيِّ بن سَلول، فلمَّا ذهب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قال عبد الله بنُ أُبيِّ بن سلول: لقد آذانا بَولُ حِمَارهِ، وسَدَّ علينا الرَّوْحَ، وكان بينه وبين ابنِ رواحةَ شيءٌ، حتى خَرجوا بالسِّلاحِ، فأتى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فحَجَزَ بينهم، فلذلك يقول عبد الله بن أبي:
متى ما يَكُنْ مَولاكَ خَصمُكَ جاهدًا
…
تُظَلَّمْ ويَصْرعكَ الذينَ تُصارِعُ (6)
(1) الحشر 5.
(2)
انظر: ديوانه 253.
(3)
تفسير الطبري (هجر) 22/ 511 وقد خرجه المحققون فقالوا: «أخرجه سعيد بن منصور في سننه (2642)، ومسلم (1746)، والبيهقي 9/ 83 وفي دلائل النبوة 3/ 184.
(4)
انظر: تاج العروس 1/ 462 (بور).
(5)
الحجرات 9.
(6)
انظر: السيرة النبوية 1/ 587.
قال: فأنزلت فيهم هذه الآية: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9]». (1)
3 -
عند تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال: 36](2) ذكر المفسرون سببَ نُزولِ هذه الآيةِ، وأَنَّها نزلت في أَبي سفيانَ وهو على الشرك يوم أُحُدٍ. قال سعيدُ بن جُبَيْر: «نزلت في أبي سفيانَ بنِ حربٍ، استأجرَ يوم أُحُدٍ ألفيْنَ من الأَحابيشِ (3) من بَنِي كنانةَ، فقاتل بِهمُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وهم الذين يقولُ فيهم كعبُ بن مالك:
وجِئْنا إِلى مَوجٍ مِن البَحْرِ وسْطَهُ
…
أَحابيشُ منهمْ حَاسِرٌ ومُقَنَّعُ
ثَلاثةُ آلافٍ، ونَحْنُ نَصِيَّةٌ
…
ثلاثُ مِئِيْنٍ إِنْ كَثُرنا وَأَرْبَعُ (4)». (5)
فقد بَيَّنَ كعبُ بن مالك عددَ جيشِ المشركين وأَنَّهم ثلاثة الآف، وأَنَّهم لِكثرتِهِم يَموجونَ كالمَوجِ، ما بينَ حاسِرٍ لا دِرعَ له، ولا بَيضَةَ على رأسهِ، ومُقَنَّعٍ لابسٍ للدِّرعِ، والبَيضةِ. ثُمَّ إِنَّ هذا الجيش لا يقابله إلا سبعمائة فارسٍ من المسلمين. ولكنهم صفوة الفرسان المقاتلين بدليل قوله «نَصِيَّةٍ» ، والنصيَّةُ من القوم هم الخيارُ (6).
فشواهد الشعر في هذه الآية وأمثالها شارحة لسبب نزول الآية، ومُبينَةٌ أحوالَ نزولِ القرآن في مواضع كثيرة، وقد عُنِيَ بِها الإمام الطبري في تفسيره.
(1) تفسير الطبري (هجر) 21/ 362 - 363.
(2)
الأنفال 36.
(3)
الأَحَابيشُ هم بنو الحارث بن عبد مناة بن كنانة، وعُضَل، والدّيش، من بَني الهون بن خُزيمة، والمصطلق، والحيا، من خُزاعة، سُمُّوا بذلك لاجتماعها وانضمامها محالفةً لقريش في قتالِ بني ليثِ بن بكرِ بن عبد مناة. انظر: المُحَبَّر لابن حبيب 246، نسب قريش 9.
(4)
انظر: السيرة النبوية 3/ 141، طبقات فحول الشعراء 183.
(5)
تفسير الطبري (شاكر) 13/ 530، المحرر الوجيز 8/ 61.
(6)
انظر: أساس البلاغة 637 (نصو)، لسان العرب 14/ 162 - 163 (نصص)، الروض الأنف 6/ 102.
] 4 - ذكر ابن عطية عند تفسير قوله تعالى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} [آل عمران: 151](1) ما حصل بين النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مع قريشٍ يوم أُحُدٍ، وكيف أَنَّ قريشًا بعد أن انتهت المعركة أخذت في طريقها إلى مكةَ، ثُمَّ بدا لهَم أن يعودوا لاستئصال المُسلمين مُستغلينَ جِراحاتِ جيش المسلمين، وكيف رَدَّهم معبدُ الخزاعي، وقال في ذلك أبياتًا من الشعر فقال ابن عطية: «فلمَّا سَمِعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم والناسُ بِمَا عزمت عليه قريشُ من الانصراف - أَي العودةِ للقتالِ، اشتدَّ ذلك عليهم، فسخَّرَ الله ذلك الرجلَ معبدَ بنَ أبي معبدٍ، وألقى بسببهِ الرعبَ في قلوب الكفار، وذلك أَنَّهُ لَمَّا سَمِعَ الخبرَ رَكبَ حتى لَحِقَ بأبي سفيانَ بالروحاءِ، وقريشٌ قد أَجْمعوا الرجعةَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فلمَّا رأى أبو سفيان مَعبدًا قال: ما وراءَك يا معبدُ؟ قال: مُحمدُ قد خرجَ في أصحابه يطلبُكُم في جَمعٍ لم أَرَ مثلَه قطُّ يتحرَّقونَ عليكم، قد اجتمعَ إليه مَنْ كانَ تَخلَّف عنهُ، ونَدِموا على ما صنَعوا، قال: ويلَك ما تقول؟ قال: والله ما أرى أن تَرتَحلَ حتى تَرى نواصيَ الخيلِ، قال: فوالله لقد أَجْمعنا الكرَّةَ عليهم لنستأصِلَ بقيتَهم، قال: فَإِنِّي أَنْهاكَ عن ذلك، والله لقد حَمَلني ما رأيتُ على أَنْ قلتُ فيه شعرًا، قال: وما قلتَ؟ قال: قلت:
كادَتْ تُهَدُّ من الأَصواتِ راحِلَتِي
…
إِذْ سالتِ الأَرضُ بالجُرْدِ الأَبَابِيْلِ
تَرْدِي بأُسْدٍ كِرامٍ لا تَنَابِلَةٍ
…
عندَ اللقاءِ، ولا مِيلٍ مَعازِيلِ
فَظَلْتُ عَدوًا أَظُنُّ الأرضَ مَائِلَةً
…
لَمَّا سَمَوا بِرئيسٍ غَيْرِ مَخذولِ (2)
إِلى آخرِ الشِّعْرِ.
(1) آل عمران 151.
(2)
الهَدُّ: الهدمُ الشديد، الجُرْدُ: جَمعُ أَجرَد، وهو الفَرَسُ الرقيقُ الشَّعَرِ، الأَبَابيلُ جَمع إِبَّالة: القطعة من الخيل والإبل، تَرْدِي: تَمشي مَشيًا فيه تبختر، التَّنَابِلَةُ: القِصَارُ، واحدهم تِنبال، مِيْلٌ: جَمعُ أَميل، وهو الذي يَميلُ على السرج ولا يستوي عليه، مَعازيلُ: ليس معهم سلاح. انظر: السيرة النبوية 2/ 128.
فوقعَ الرُّعبُ في قلوبِ الكفارِ، وقال صفوانُ بن أميةَ: لا ترجعوا فإني أَرى أَنَّهُ سيكونُ للقوم قتالٌ غير الذي كان، فنَزلت هذه الآية في هذا الإلقاء». (1) وهذه القصة على طولها تُبَيّنُ سببَ النّزول أَتَمَّ بيانٍ، غير أَنَّ شِعرَ معبد الذي قاله قد تناقلَهُ كُلُّ مَنْ ذَكرَ هذه القصة، توثيقًا لها، واستشهادًا بهذا الشعر على هذه القصة. (2)
وهذه القصة والأبيات ذكرها القرطبي عند تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)} [آل عمران: 172]. (3)
ثانيًا: بيان حال العرب قبل نزول القرآن وعاداتهم.
من الأهمية بِمكانٍ لكل مسلم معرفة ما كان عليه أهل الجاهلية في جَميع أمورهم إدراكًا لنعمة الله بهذا الدين، وحذرًا مِمَّا نَهى عنه الشرع القويم. وهذه المعرفة تزداد أهميتها للمفسِّر؛ إذ عليه أن يكون ملمًّا بعادات العرب في الجاهلية، مطلعًا على أقوالهم، متعرفًا على أفعالهم، واقفًا على حياتِهم الاجتماعيةِ، وأَيامهم، وحُروبِهم، وتاريخهم وأديانهم؛ لأن القرآن الكريم فيه آيات كثيرة تعرضت إلى ذلك، فإذا لم يكن المفسر عارفًا بأحوالهم حالةَ التنْزيلِ لم يفهم معاني الآيات على وجهها الصحيح، ولم يدرك الأثر العظيم الذي أحدثه القرآن في تغيير حياة العرب، وإبطال الفاسد من عاداتهم. (4) ولذلك قال الشاطبي وهو يبين أهمية معرفة سبب النُّزولِ للمفسِّر: «معرفةُ عاداتِ العَربِ في أقوالِها وأَفعالِها ومَجاري أَحوالِها حَالةَ التنْزيلِ - وإنْ لم يكن ثمَّ سببٌ خاصٌّ -
(1) المحرر الوجيز (قطر) 3/ 367 - 368.
(2)
انظر: السيرة النبوية 2/ 130.
(3)
آل عمران 172، انظر: الجامع لأحكام القرآن 4/ 278.
(4)
انظر: بحوث في أصول التفسير للصباغ 187، تفسير القرآن الكريم أصوله وضوابطه للدكتور العبيد 97.
لابُدَّ لِمَن أرادَ الخوضَ في عِلمِ القرآنِ منه، وإِلَاّ وقعَ في الشُّبَهِ والإشكالاتِ التي يتعذَّرُ الخروجُ منها إِلَّا بِهذهِ المعرفةِ». (1)
ومن ذلك بيان عادة العرب في النسيء والمقصود به من خلال أشعارهم الباقية المَحفوظة. ومن أمثلة ذلك:
1 -
قال ابن قتيبة عند تفسير قوله تعالى: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9)} [الجن: 9](2): «روى عبد الرزاقِ عن مَعْمرَ عن الزهريِّ عن علي بن حسين عن ابن عباس أَنَّهُ قال: «بينا النبي صلى الله عليه وسلم جالسٌ في نَفَرٍ من الأنصارِ إِذ رُمِيَ بنجمٍ فاستنارَ، فقالَ: ما كنتم تقولون في مثل هذا في الجاهلية؟ فقالوا: كنا نقول: يَموتُ عظيمٌ، أو يُولَدُ عظيم
…
في حديثٍ فيه طولٌ اختصرناهَ وذكرنا هذا منهُ؛ لِنَدلَّ على أَنَّ الرجمَ قد كانَ قبلَ مبعثهِ، ولكنهُ لم يكن مثلَهُ الآنَ في شدةِ الحراسةِ قبل مبعثهِ، وكانت تَسترقُ في بعضِ الأحوال، فلما بُعِثَ مُنعت من ذلك أصلًا، وعلى هذا وجدَنا الشعراءَ القدماء. قال بشرُ بن أبي خازمٍ الأسديِّ وهو جاهليٌّ:
والعَيْرُ يُرهِقُها الغُبَارُ وجَحْشُها
…
يَنْقَضُّ خَلْفَهُما انقضَاضَ الكَوكَبِ (3)
وقال أوسُ بن حَجَر وهو جاهلي:
وانقضَّ كالدُّريِّ يَتبعُهُ
…
نَقْعٌ يَثُورُ تَخالُهُ طُنُبَا (4)» (5).
فقد استشهد ابن قتيبة بِهذه الأبيات للاستدلال على الأحوال التي كانت في الجاهلية قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، وأَنَّ العَربَ كانتْ تعرفُ انقضاضَ الشُّهبِ، وقد شكَّكَ الجاحظُ في معرفة العرب لانقضاض
(1) الموافقات 4/ 154.
(2)
الجن 9.
(3)
رواية الديوان (الخَبَارُ) بدل (الغُبار)، والخَبَارُ هو أَرضٌ لينةٌ رِخوة تَسوخُ فيها القوائم. انظر: ديوانه 81.
(4)
انظر: ديوانه 89.
(5)
تأويل مشكل القرآن 429 - 430.
الكواكب، استشهادًا بشواهد لشعراء أدركوا مولد النبي صلى الله عليه وسلم كبشر بن أبي خازم، وأنه ليس من عادة العرب أَن يَصِفوا عَدوَ الحِمارِ بانقضاضِ الكوكبِ. (1)
2 -
وذكر الطبري عند تفسيره لقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219](2) منافعَ المَيسرِ فقال التي ذكرت في الآية فقال: «وأَمَّا منافعُ الميسر، فما يصيبون فيه من أنصباء الجزور، وذلك أَنَّهم كانوا يياسرون على الجزور، وإذا أفلجَ الرجلُ منهم صاحبَهُ، نَحَرَهُ، ثُمَّ اقتسموا أعشارًا على عَددِ القِداحِ، وفي ذلك يقول أعشى بني ثعلبة:
وجَزُورِ أَيسارٍ دَعوتُ إِلى النَّدَى
…
ونِياطِ مُقْفِرَةٍ أَخافُ ضَلالَها (3)». (4)
3 -
عند تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [التوبة: 37] الآية. (5) حيث ذكر المفسرون المقصود بالنسيء عند العرب قبل الإسلام ومعناه، فقال ابن عطية:«والنسيء هو فعل العرب في تأخيرهم الحرمة» (6)، أي حُرمةُ الأشهرِ الحرم. ثُمَّ استشهد بشواهد من الشعر ذكر فيها النسيء في الجاهلية فقال: «ومِمَّا وُجِدَ في أَشعارِها من هذا المعنى قولُ بعضهِم (7):
ومِنَّا مُنسئُ الشَّهرِ القَلَمَّس (8)
وقال الآخر (9):
(1) انظر: الحيوان 6/ 279.
(2)
البقرة 219.
(3)
رواية الديوان:
وجَزُورِ أَيسارٍ دَعوتُ لِحَتْفِها
انظر: ديوانه 77.
(4)
تفسير الطبري (شاكر) 327 - 328.
(5)
التوبة 37.
(6)
المحرر الوجيز (قطر) 6/ 489.
(7)
القَلمَّسُ هو حذيفة بن عبد بن فُقيم. انظر: الأوائل للعسكري 35.
(8)
انظر: الجامع لأحكام القرآن 8/ 138، نسب قريش 98.
(9)
لم أعرفه.
نَسئُوا الشُّهورَ بِها وكانوا أَهلَها
…
مِنْ قَبْلِكُمْ والعِزُّ لَمْ يَتَحوّلِ (1)
ومنه قول جِذْلِ الطَّعَّانِ (2):
وَقَدْ عَلِمَتْ مَعَدٌّ أَنَّ قَومِي
…
كِرامُ النَّاسِ إِنَّ لَهُمْ كِراما
فأَيُّ النَّاسِ فاتُونا بِوترٍ؟
…
وأَيُّ النَّاسِ لَمْ تَعْلك لِجاما؟
أَلسنا النَّاسئينَ على مَعَدٍّ
…
شُهورَ الحِلِّ نَجْعلُها حَراما؟ (3)». (4)
وأبو بكر بن الأنباري (ت 328 هـ) ذكرَ في صفة النسيء أَنَّهم كانوا إذا صدروا عن مِنى قامَ رجلٌ مِنْ بني كنانةَ يقالُ لهُ: نُعيم بن ثَعلبة، فقال: أَنا الذي لا أُعابُ، ولا يُرَدُّ لي قضاءٌ، فيقولونَ له: أَنسئِنا شَهرًا، أَي أَخِّر عنَّا حُرمةَ المُحرَّم فاجعلها في صَفَر؛ وذلك أَنَّهم كانوا يكرهونَ أَنْ تتوالى عليهم ثلاثةُ أَشهر لا تمكنهم الإغارة فيها؛ لأَنَّ معاشَهم كان من الإغارةِ، فيحلُّ لَهم المُحرَّم، ويُحرِّمُ عليهم صفرًا، فإذا كان في السنةِ المقبلةِ حَرَّمَ عليهم المُحرَّمَ، وأَحلَّ لهم صَفَرًا، فقال:{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: 37](5)، ثم ذكر شواهد الشعر التي أوردها ابن عطية، وأَحِسبُ أَنَّ ابنَ عطيةَ قد نَقلها عَن أمالي القالي، والقالي رواها عن شيخه أبي بكر بن الأنباري الذي اشتهر بحفظه الواسع لشواهد الشعر في تفسير القرآن، ومن مظان شواهد التفسير التي رواها ابن الأنباري غير كتبه المطبوعة، كتاب «أمالي القالي» لكونه يروي عنه كثيرًا منها. (6)
(1) انظر: أمالي القالي 1/ 4.
(2)
هو عُمَيْر وقيل عمرو بن قيس بن جذل الطِّعان. انظر: نهاية الأرب 1/ 160.
(3)
انظر: أمالي القالي 1/ 4، نهاية الأرب 1/ 160.
(4)
المحرر الوجيز (قطر) 6/ 489 - 490.
(5)
انظر عن النسيء ومذهب العرب فيه: الروض الأنف للسهيلي 1/ 242، نهاية الأرب 1/ 159، تاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي 8/ 488.
(6)
انظر: أمالي القالي 1/ 4، 9، 27، 2/ 268، 274، 281، 302، 303، 306 وغيرها.
وهناك أمثلة متفرقة في كتب التفسير، استشهد فيها المفسرون بشواهد شعرية تاريخية تعين على فهم كثير من أحوال العرب الذين نزل القرآن الكريم بلغتهم، وتكشف جوانب كثيرة من عاداتهم قبل الإسلام، تعين المفسر على فهم القرآن. (1)
* * *
(1) انظر: تفسير الطبري (شاكر) 2/ 94، 4/ 321، 9/ 61، 9/ 177، 9/ 472، 327، 12/ 377، 530، 13/ 530، 16/ 381، 14/ 249، (هجر) 17/ 217، 18/ 480، 22/ 296، 20/ 378، 22/ 310، 20/ 248، 23/ 270، الكشاف 1/ 261، 421، 2/ 662، 2/ 376، 1/ 507، 2/ 14، 2/ 118، 2/ 246، 2/ 187، المحرر الوجيز 8/ 61، 8/ 144، 16/ 19، 7/ 41، 7/ 93، 5/ 14، 4/ 214، 4/ 28، 7/ 114، 8/ 180، 13/ 19، 13/ 47، 11/ 60، الجامع لأحكام القرآن 1/ 115.