الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثالثًا:
هناك أسبابٌ أخرى تدعو إلى شرح الشاهد الشعري في كتب التفسير وإن لم تكن كثيرة الأمثلة كالسببين السابقين، غير أنه يحسن الإشارة إليها. ومنها:
-
انفراد الشاهد الشعري عند الاستشهاد به عن بقية أبيات القصيدة
.
فإن من أبرز خصائص الشاهد الشعري في كتب التفسير وغيرها من كتب اللغة والنحو، أنه يأتي في سياق الاستشهاد به مفصولًا عن القصيدة التي هو منها، وهذا يعرضه لسوء الفهم، وتعدد التأويلات، ولذلك أشار عدد من العلماء الذين قاموا بشرح الشواهد الشعرية في مصنفات خاصة إلى ما في فصل الشاهد الشعري عن سوابقه ولواحقه من تعريضه لكثرة التأويلات في شرحه وفهمه.
ومن ذلك قول البَطَلْيُوسيِّ في شرحه لأَبياتِ كتاب «أدب الكُتَّاب» : «وغرضي أن أَقْرِنَ بكل بيتٍ منها ما يتصلُ به من الشعر من قبلهِ ومن بعده، إلا أبياتًا يسيرةً لم أعلم قائلَها، ولم أحفظ الأشعار التي وقعت فيها، وفي معرفة ما يتصل بالشاهد ما يجلو معناه، ويعرب عن فحواه، فإنا رأينا كثيرًا من المفسرين للأبيات المستشهد بها، قد غلطوا في معانيها، حين لم يعلموا الأشعار التي وقعت فيها، لأن البيت إذا انفردَ احتملَ تأويلاتٍ كثيرةً» . (1) ونَبَّهَ إلى أنه ينبغي على المتكلم في معاني الأبيات المنقطعة عن صواحبها أن لا يقطع على مراد قائلها؛ لاحتمال اختلاف التأويل إذا عُرِفَ السَّابقُ أو اللاحق من الأبيات. (2) وفعل مثل ذلك شراح الشواهد كالسيرافي والبغدادي وغيرهم وإن لم ينصوا على
(1) الاقتضاب في شرح أدب الكتاب 3/ 5.
(2)
انظر: المصدر السابق 3/ 8، الحلل في شرح أبيات الجمل 13.
ذلك في مقدماتهم. (1) ولم يعتن بذلك الأعلم الشنتمري في شرحه لشواهد سيبويه. (2)
وقد ذكر المعري قصة تدل على أهمية معرفة ما قبل الشاهد ومابعده لفهم الشاهد فقال: «حدثني عبدالسلام البصري خازن دار العلم ببغداد - وكان لي صديقًا صدوقًا - قال: كنت في مجلس أبي سعيد السيرافي، وبعض أصحابه يقرأ عليه «إصلاح المنطق» لابن السكيت، فمضى بيت حميد بن ثور، وهو:
ومَطويَّةُ الأَقرَابِ أَمَّا نَهَارُهَا
…
فَسَبْتٌ، وأَمَّا لَيلُها فَذَمِيلُ
فقال أبو سعيد: ومطويةِ، أَصلِحْهُ بالخفضِ، ثُمَّ التفتَ إلينا، فقال: هذه واو رُبَّ، فقلتُ: أطال الله بقاء القاضي، إِنَّ قبلَهُ ما يدلُّ على الرفعِ. فقال: وما هو؟ فقلت:
أَتاكَ بيَ اللهُ الذي أَنزلَ الهُدَى
…
ونُورٌ وإِسلامٌ عليكَ دَليلُ (3)
ومَطويَّةُ الأَقرابِ .....
فعاد وأصلحه». (4) وإنما وقع السيرافي في هذا لعدم تنبهه لما قبل الشاهد من أبيات.
ومن الأمثلة على ذلك مما جاء في كتب التفسير، قول الشاعر (5):
مَعَاويَ إِنَّنا بَشَرٌ فَأَسْجِحْ
…
فَلَسنَا بِالجبالِ ولا الحَديدَا (6)
حيث ذكر الطبري أن قوله جلَّ ثناؤه: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة: 83](7) عطفٌ على موضعِ «أَنْ» المَحذوفة في {لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [البقرة: 83]،
(1) انظر: شرح السيرافي لأبيات سيبويه، خزانة الأدب، وشرح أبيات المغني كلاهما للبغدادي.
(2)
انظر: شواهد الشعر في كتب سيبويه لخالد جمعة 95.
(3)
ديوانه 116، إصلاح المنطق 11.
(4)
وفيات الأعيان 7/ 72.
(5)
هو عقبة أو عقيبة الأسدي، وقيل لعبدالله بن الزَّبير - بفتح الزاي - الأسدي.
(6)
الكتاب لسيبويه 1/ 67، معاني القرآن للفراء 2/ 348، خزانة الأدب 1/ 343.
(7)
البقرة 83.
وذلك في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى} [البقرة: 83] فكأن معنى الكلام: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل بأن لا تعبدوا إلا الله، وبالوالدين إحسانًا، فرفع {لَا تَعْبُدُونَ} لَمَّا حذفَ «أن» ، ثم عطف:{وَبِالْوَالِدَيْنِ} على موضعها. واستشهد بقول الشاعر:
مَعَاويَ إِنَّنا بَشَرٌ فَأَسْجِحْ
…
فَلَسنَا بِالجبالِ ولا الحَديدَا
فنصبَ «الحديدَ» على العطف به على موضعِ «الجبال» ؛ لأنَّها لو لم تكن فيها باء خافضة كانت نصبًا، فعطف بـ «الحديدِ» على معنى «الجبالِ» لا على لفظها، فكذلك قوله:{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} . (1) وهذا الذي ذهب إليه الطبري في توجيه الشاهد الشعري أحد قولين للنحويين، وهو قول سيبويه. (2)
والقول الآخر أن رواية البيتِ بِجَرِّ «الحديد» . قال العسكريُّ: «ومِمَّا غَلِطَ فيه النحويون من الشِّعْرِ ورووه موافقًا لما أرادوه، ما رُوِيَ عن سيبويه عندما احتج به في نسق الاسم المنصوب على المخفوض، وقد غلط على الشاعر، لأن هذه القصيدة مشهورة، وهي مخفوضة كلها. وهذا البيت أولها، وبعده:
فهبها مِدحةً ذهبتْ ضيَاعًا
…
يزيدُ أَميرُها وأبو يَزيدِ
أكلتُمْ أرضنَا فَجَرَدتُمُوها
…
فهلْ مِنْ قائمٍ أو مِنْ حَصيدِ». (3)
وهذا مثال يدل على أهمية معرفة الأبيات التي منها هذا الشاهد من
(1) انظر: تفسير الطبري (شاكر) 2/ 290 - 291.
(2)
استشهد به في أربعة مواضع على جواز العطف على الموضع. انظر: الكتاب 1/ 67، 2/ 292، 344، 3/ 91.
(3)
شرح ما يقع فيه التصحيف 421، خزانة الأدب 2/ 260 وقد نسبَ البغداديُّ للمُبرِّدِ رَدَّ رواية سيبويه، في حين قد استشهد المبرد بهذه الرواية أربع مراتٍ على جواز العطف على الموضع كما ذكر سيبويه كما في المقتضب 2/ 337، 3/ 281، 4/ 112، 371، تعليق المحقق الشيخ محمد عضيمة على الشاهد 2/ 337.