الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التجاوز على الحق والخروج على أصول البحث العلمي، الغلو في تقدير المنحول والمبالغة فيه اعتمادًا على فرضيات لم تثبت، ولم تصح تاريخيًا، ومن الخطأ الفاحش أيضًا أن تؤخذ فكرة الانتحال مركبًا ذلولًا لدفع كل ما يغمض على الدرس.
وإذا كان ابن سلام قد فتح للنقاد طريقًا يؤدي إلى تصحيح المخطوء ورد المنحول ومعرفة الحق من الباطل، فإنه كذلك حذر الباحثين ونبههم إلى أن ما اتفق عليه العلماء بالشعر، فليس لأحد أن يخرج منه (1). وذكر ابن سلام أن خلَاّدَ بن يزيد الباهلي قال لخلف بن حيان أبي محرز - وكان خلاد حسن العلم بالشعر يرويه ويقوله-: بأي شيء ترد هذه الأشعار التي تُروى؟ قال له: هل فيها ما تعلم أنت أنَّهُ مصنوعٌ لا خير فيه؟ قال: نعم، قال: أفتعلم في الناس من هو أعلم بالشعر منك؟ قال: نعم، قال: فلا تنكر أن يعلموا من ذلك أكثر مِمَّا تعلمُ أنت (2). فهذا دليل على عدم اعتبار ما أسقطه العلماء بالشعر، وأهل البصر بروايته.
ثانيًا: عند المعاصرين:
بقيت هذه القضية قضية علمية في حدودها المقبولة، تبحث في كتب الأدب وغيرها، حتى كان العصر الحديث فأثيرت قضية الانتحال مرة أخرى بصورة مغايرة، وتناولها المستشرقون والعرب، ومن هؤلاء المعتدل المنصف، ومنهم المشتط المسرف المتحامل، وقامت مناقشات، وكتبت ردود، وكان السبق في إثارة هذه القضية للمستشرقين ثم تبعهم العرب في تناول هذه القضية.
- فأَما المستشرقون فقد عرض المستشرق الفرنسي بلاشير قضية
(1) انظر: طبقات فحول الشعراء 1/ 7 - 8.
(2)
انظر: المصدر السابق 1/ 7.
الشعر الموضوع عند المستشرقين بشيء من الإيجاز في كتابه «تاريخ الأدب العربي» (1). فذكر أن أول من تناول الموضوع هو المستشرق الألماني تيودور نُولدكه (2) عام 1861 م (3)، ثم تلاه ألفرت (4) عام 1872 م (5)، وتابع هذين المستشرقين في آرائهما مستشرقون آخرون طوال ثلاثين سنة هم: موير، وباسيه، وبروكلمان، وليال (6)، وهوار الذي كتب مقالة بعنوان «مصدر جديد للقرآن» سنة 1904 م، على أن هؤلاء جميعًا لم يبلغوا في نظرية الانتحال من الشك والإسراف ما بلغه مرجليوث (7)،
فقد كتب عددًا من المقالات حول التشكيك في الشعر الجاهلي، كانت مقالته الأخيرة التي نشرها بعنوان «نشأة الشعر العربي» سنة 1925 م - وإن كانت متأخرة بالنسبة لغيرها - من أعمق دراسات المستشرقين في اتهام
(1) 197 - 208.
(2)
هو تيودور نولدكه (1836 - 1930 م) يعد شيخ المستشرقين الألمان لكثرة بحوثه ودقتها، من أشهر كتبه «تاريخ القرآن» الذي حصل به على الدكتوراه. انظر: موسوعة المستشرقين لبدوي 417 - 420.
(3)
انظر: دراسات المستشرقين حول صحة الشعر الجاهلي لعبد الرحمن بدوي 11.
(4)
هو المستشرق الألماني فلهلم ألفرت، ويكتب هو اسمه بالعربية على ما نشره من دواوين وليم ألورد (1828 - 1909 م) من أكثر المستشرقين عناية بالشعر الجاهلي، له كتاب «العقد الثمين في دواوين الشعراء الجاهليين» وله كتاب «ملاحظات على صحة القصائد العربية الجاهلية». انظر: موسوعة المستشرقين لبدوي 29 - 30.
(5)
انظر: دراسات المستشرقين حول صحة الشعر الجاهلي لعبد الرحمن بدوي 11 - 12.
(6)
تشارلز ليال، مستشرق إجليزي ولد سنة 1845 م وتوفي سنة 1920 م، عني بتحقيق ونشر بعض قصائد الشعر الجاهلي وترجمتها، ومنها كتاب المفضليات للمفضل الضبي، تتلمذ على تيودور نولدكه وأهدى له تحقيقاته لبعض الدواوين الشعرية. انظر: موسوعة المستشرقين لبدوي 353.
(7)
هو ديفيد صمويل مرجليوث (1858 - 1940 م)، مستشرق إنجليزي، عني بدراسة الشعر الجاهلي، كان أستاذًا في جامعة أكسفورد، له دراسات تسري فيها روح غير علمية ومتعصبة ضد الإسلام، حقق معجم الأدباء وغيره .. انظر: موسوعة المستشرقين لبدوي 379.
الشعر الجاهلي، ولذلك ذهب بعض الباحثين إلى أن هذه المقالة أول بحث منظم هاجم الشعر الجاهلي، وأنكر وجوده. (1) ورجح مرجليوث فيها أَنَّ الشعر الذي نقرأه على أنه شعر جاهلي إنما نُظِمَ في العصور الإسلامية، ثم نَحَله هؤلاء الواضعون المزيفون لشعراء جاهليين، وحشد أدلة لإثبات مزاعمه، وتحقيق غايته، وهذا تلخيص لأدلته (2):
أدلة مرجليوث على عدم صحة الشعر الجاهلي:
1 -
أن الشعر إما أن يحفظ بالكتابة، وإمَّا بالرواية، ورأي العلماء المسلمين أنه حفظ بالرواية في عهود الإسلام الأولى، ويستبعد أن يكون الشعر قد حفظ بالرواية لأسباب هي:
- عدم وجود جماعة متخصصة من رواة الشعر.
- أن الإسلام والقرآن ذم الشعراء، وهذا سبب قوي لنسيان الشعر إذا كان قد وجد.
- معظم الأشعار تتغنى بما يثير الشحناء، والإسلام جاء لتوحيد العرب، فحث على نسيان هذا الشعر.
الفرض الثاني أن يكون الشعر قد نقل عن طريق الكتابة، ومع إقراراه بوجود الكتابة قبل الإسلام فهو ينفي أن يكون الشعر قد حفظ بالكتابة لسببين:
- أن القرآن نفى أن يكون للجاهليين كتاب، ولو أن الشعر الجاهلي كان مكتوبًا لوصلت كثير من الكتب.
(1) انظر: المستشرقون والشعر الجاهلي 6، 14 - 48.
(2)
ترجم المقالة الدكتور عبدالرحمن بدوي بعنوان: «نشأة الشعر العربي» ونشرها في كتابه دراسات المستشرقين حول صحة الشعر الجاهلي 87 - 142، ونشرها الدكتور عبدالله المهنا ضمن كتابه «قضايا الأدب والشعر» 225 - 305، ونشرها الدكتور يحيى الجبوري مستقلة بعنوان:«أصول الشعر العربي» .
- أن الأدب يتطور من الشذوذ إلى الانتظام، وأن الشعر الذي قيل: إنه جاهلي هو مرحلة تالية للقرآن؛ لأن في القرآن سجعًا وبعض الآيات فيها وزن، فينبغي أن يكون الشعر تطورًا للقرآن لا سابقًا له.
- أن الإسلام حدث عظيم، وانفصال عن الماضي، ولم يكن الإسلام متسامحًا مع الوثنية بأي حال، في حين نجد الشعر لسان الوثنية، فكيف يحفظون أشعارًا تمجد نظامًا أبطله الإسلام.
ثم ساق أدلة على عدم صحة الشعر الجاهلي هي الأدلة الداخلية، وهي:
1 -
في الشعر إشارات إلى قصص ديني ورد في القرآن وفيه كلمات إسلامية، وأن الشعراء لا يمثلون الدين الجاهلي وليس فيه جو الآلهة المتعددة بل فيه توحيد، وأن هؤلاء الشعراء يُقسمون كالمسلمين بالله الواحد، وبالصفات التي ذكرها القرآن، وهؤلاء الشعراء موحدون ومطلعون على أمور لا يعرفها إلا القرآن.
2 -
الدليل الثاني هو اللغة، فاللهجات بين القبائل متعددة، والاختلاف بين لغة القبائل الشمالية، واللغة الحميرية الجنوبية كبير، في حين جاء الشعر كله بلغة القرآن، وليس هناك لغة أدبية موحدة قبل القرآن.
3 -
موضوعات القصائد تتفق في طرق موضوعات واحدة متكررة، مما يدل على أنها نظمت بعد القرآن لا قبله؛ لأنهم يبدأون قصائدهم بالغزل، والقرآن وصفهم أنهم في كل وادٍ يهيمون ويتبعهم الغاوون.
4 -
أن القرآن لم يشر إلى الموسيقى، وإذا كانت الموسيقى من مستحدثات العصر الأموي، فهل يعقل أن الوزن وجد عند العرب قبل الإسلام، وأن التسلسل يقتضي أن يكون الرقص ثم الموسيقى ثم الشعر، والممالك العربية ذات النقوش كانت ذات حضارة، ولكن ليس لها شعر،
فهل يكون للأعراب البدو شعر متطور، وليس للمتحضرين شعر؟ ويخلص إلى أن الشعر والنثر المسجوع مشتقان من القرآن وأن الأعمال التي سبقت القرآن يجب أن تكون أقل فنًا لا أكثر.
- وأما العرب فقد كان أول من بحث هذا الموضوع من المعاصرين هو مصطفى صادق الرافعي في كتابه «تاريخ آداب العرب» . سنة 1911 م، وقد روى ما قاله القدماء وتابع ابن سلام في آرائه، ووقف بالمسألة عند حدها التاريخي الأدبي ولم يزد على ذلك (1).
ثم جاء بعد ذلك طه حسين، فألف كتابه «في الشعر الجاهلي» سنة 1926 م، فأثار ضجة كبيرة لما فيه من آراء جريئة تعرض بعضها للدين والتشكيك في صدق القرآن، فقام بحذف ما أثار عليه العلماء، وزاد فيه شيئًا يسيرًا وأصدره سنة 1927 م بعنوان «في الأدب الجاهلي» ، وقد أخذ طه حسين أكثر مادته من روايات ابن سلام، واستنتاجات وآراء مرجليوث وغيره من المستشرقين، وتوسع فيها وعمم الأحكام الفردية، واتخذ الأمور الخاصة فصيرها قواعد عامة، حتى خرج بحكم مبالغ متعسف هو صياغة جديدة لآراء مرجليوث، حيث توصل إلى «أن الكثرة مما نسميه أدبًا جاهليًا ليست من الجاهلية في شيء، وإنما هي منحولة بعد ظهور الإسلام، فهي إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم، أكثر مما تمثل حياة الجاهليين» (2).
وقد قسم بحثه إلى ثلاثة أقسام: دوافع الشك في الشعر الجاهلي، وأسباب الوضع والنحل، ثم درس فريقًا من الشعراء وشك في نسبة الشعر إليهم.
تحدث في دوافع شكه فقال: إن الشعر الجاهلي لا يمثل الحياة الدينية، والعقلية، والسياسية، والاقتصادية للعرب الجاهليين، وإن هذا
(1) انظر: تاريخ آداب العرب 1/ 145.
(2)
في الشعر الجاهلي 19.
الشعر بعيد كل البعد عن أن يمثل اللغة العربية في العصر الجاهلي؛ لأن هناك خلافًا قويًا بين لغة حمير ولغة عدنان، وإن القبائل الشمالية والقبائل الجنوبية تختلف من حيث اللهجة، مع إن الشعر الذي وصلنا جاء بلهجة واحدة. وذكر أن فريقًا من العلماء اتخذوا الشعر الجاهلي مادة للاستشهاد على ألفاظ القرآن والحديث مع إن الشعر لم يصل مدونًا بل عن طريق الرواية الشفوية.
ويتحدث طه حسين عن أسباب الانتحال فيرجعها إلى:
- السياسة، ويعني بها العصبية القبلية، كما كان بين قريش والأنصار من عداء، وما كان بين القبائل من أحقاد، غير أنه لم يستشهد ببيت شعر جاهلي، بل استشهد بشعر إسلامي (1).
- الدين، وذكر أن الشعر الذي قيل قبل البعثة تبشيرًا بالنبي موضوع بعد الإسلام، وما جاء عند المفسرين من ذكر الأمم السابقة كذلك، وأن الديانة اليهودية والديانة المسيحية لم يظهر لهما أثر في الشعر الجاهلي مع مخالطة أصحابها في الجزيرة العربية (2).
- القصص، وتحدث عن القصاص، وما كانوا يضعون من شعر لتزيين القصص والأخبار، ويقسم ذلك القصص إلى أقسام (3).
- الشعوبية، وتحدث عن الخصومة بين العرب والموالي، وأن هؤلاء الشعوبية
(1) انظر: في الأدب الجاهلي 116.
(2)
انظر: المصدر السابق 132.
(3)
انظر: المصدر السابق 148.