الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الغيظِ والحُزْنِ. ثم ذكر أن أهل النظر من العلماء - ولعله يعني الفراء - يرون أن التاء في قوله: {يَكْبِتَهُمْ} منقلبة عن دال، وأن الأصل فيه: يكبدهم، أي يصيبهم في أكبادهم بالحزن والغيظ وشدة العداوة. ومنه قول العرب: فلان أحرق الحزن كبده، وأحرقت العداوة كبده. وهذه كناية عن شدة عداوته. واستشهد بشاهد بلاغي وهو قول الأعشى:
فما أُجْشِمْتِ مِن إِتيانِ قَومٍ
…
هُمُ الأعداءُ والأَكْبادُ سُودُ (1)
قال ابن قتيبة تعقيبًا على بيت الأعشى: «كأَنَّ الأكبادَ لَمّا احترقت بشدةِ العداوةِ اسودَّت» . (2) والشواهد البلاغية في كتب غريب القرآن قليلة.
ثانيًا: أمثلة الشواهد البلاغية في كتب المعاني
.
1 -
أشار الفراء إلى ما يُسمَّى عند البلاغيين بالمَجازِ المُرسَلِ عند تفسيره لقوله تعالى: {قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28)} [الصافات: 28](3) فقال في تفسيرها: «كنتم تأتوننا من قبل الدين، أي تأتوننا تخدعوننا بأقوى الوجوه. واليمين: القدرة والقوة. وكذلك قوله: {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93)} [الصافات: 93] (4) أي بالقوة والقدرة» . (5) ثم استشهد على صحة تفسيره هذا بقول الشمَّاخِ:
إذا ما رايَةٌ رُفعَتْ لِمَجْدٍ
…
تلقَّاها عَرابَةُ باليَمِيْنِ (6)
وقال في شرحه: «أي بالقدرة والقوة» . (7) وقد اختلف العلماء في تفسير اليمين في الآيات التي ذكرها الفراء على قولين: الأول القول الذي ذكره الفراء وهو القوة والقدرة، وقال به عدد من العلماء. (8)
(1) انظر: ديوانه 373.
(2)
غريب القرآن 111.
(3)
الصافات 202.
(4)
الصافات 93.
(5)
معاني القرآن 2/ 384.
(6)
انظر: ديوانه 336.
(7)
المصدر السابق 2/ 385.
(8)
انظر: تفسير الطبري (هجر) 19/ 572 - 573، المُبَرِّد كما في الجامع لأحكام القرآن 15/ 278، الخصائص لابن جني 3/ 249، جمهرة اللغة 3/ 181.
والقول الثاني أنها بمعنى اليد اليمنى، وقال به عدد من العلماء أيضًا. (1) وجَمَعَ بعضُهم بين القولين. (2) وقد أطال عبد القاهر الجرجاني الوقوف عند هذا الشاهد، وأن قول الشمَّاخ جاء على المَثَلِ، أي لما كانت المكارم تنقاد له، وهو يحوزها، وأنها تحصل له، ولا تمتنع عليه، كأَنَّ المجدَ مَثلُ الشيءِ في قبضةِ الآخذِ لَهُ، والجامعِ يَدَهُ عليه، وخَصَّ اليمينَ لأَنَّها تكونُ أفخمَ للمَثَلِ. وهو لا يُقِرُّ ما ذهبوا إليه مِنْ أَنَّ المراد بِها القوةُ؛ لأَنَّ المقام مقامُ مدحٍ بالجودِ والسخاء، ويرى أَنَّ المَجْدَ الذي تطاولَ لَهُ عَرابَةُ ومَدَّ إليه يدهُ مِن المَجدِ الذي أَرادهُ أبو تَمَّام بقوله:
تَوَجَّعُ أَنْ رَأَتْ جِسْمي نَحيلًا
…
كأَنَّ المَجْدَ يُدركُ بالصِّرَاعِ (3)
فالمقامُ ليسَ مقامَ بأسٍ وشدةٍ، ولو كان كذلك لكانَ حَمْلُ اليمين على صريح القوة أشبه. (4)
2 -
عند تفسير قوله تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157](5)، فسَّر ابنُ قتيبة الأغلالَ بأَنَّها ما حَرَّمَهُ اللهُ على بني إسرائيل، وأَحَلَّهُ لأُمَّةِ محمدٍ، وسُمِّي التحريمُ غُلًا «لأنَّ التحريمَ يَمنعُ كما يقبضُ الغُلُّ اليدَ فاستُعِيْرَ» . (6) ثم أورد شاهدًا شعريًا بلاغيًا يؤكد أن العرب تفعل ذلك في كلامها، وهو قول أبي خراش الهذلي:
فليسَ كَعَهْدِ الدارِ يا أُمَّ مالكٍ
…
ولكنْ أَحاطَتْ بالرِّقابِ السَّلاسِلُ
وعادَ الفتى كالكَهْلِ ليسَ بِقائِلٍ
…
سِوى العَدْلِ شيئًا فاستراحَ العَواذِلُ (7)
ثم شرح ابن قتيبة الاستعارة في هذا الشعر فقال: «يقول: ليس الأمرُ كعهدكِ، إذ كُنّا في الدار ونَحنُ نَتَبسَّطُ في كلِّ شيءٍ ولا نَتَوَقَّى،
(1) انظر: مقاييس اللغة 6/ 158، الجامع لأحكام القرآن 5/ 20.
(2)
انظر: شرح أدب الكاتب للجواليقي 59.
(3)
انظر: ديوانه بشرح التبريزي 2/ 336.
(4)
انظر: أسرار البلاغة 360 - 361.
(5)
الأعراف 157.
(6)
تأويل مشكل القرآن 148.
(7)
انظر: ديوان الهذليين 2/ 150.
ولكنْ أَسْلَمنا فَصِرْنا مِن موانِع الإسلامِ في مثلِ الأَغلالِ المُحيطةِ بالرقابِ، القابضةِ للأَيدي». (1)
3 -
وعند تفسير قوله تعالى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22)} [الواقعة: 17 - 22](2) ذكرَ أَنَّ الفاكهةَ واللحمَ والحُورَ العِيْنَ لا يُطافُ بِها، وإِنَّما يُطافُ بالأكوابِ والأباريقِ. وأَنَّ المراد: يؤتونَ بلحمِ طَيْرٍ وبِفاكهةٍ، ويُزوجونَ بِحُورٍ عِيْنٍ. وأن هذا أسلوب بلاغي عند العرب، وهو إيقاع الفعل على شيئين وهو لأحدهما، ويضمر للآخر فعله المناسب له. ومثل هذه الآيات أيضًا - كما ذكر ابن قتيبة - قوله تعالى:{فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} [يونس: 71](3) حيث إنَّ معناها: أَجْمِعوا أمرَكم، وادعوا شركاءَكم، وهي كذلك في مصحف عبد الله بن مسعود. (4) ثم استشهد ابن قتيبة بشواهد من الشعر على هذا الأسلوب البلاغي عند العرب، فذكر قول الشاعر (5):
تَراهُ كأَنَّ اللهَ يَجْدَعُ أَنْفَهُ
…
وعَيْنَيهِ إِنْ مولاهُ ثابَ لَهُ وَفْرُ (6)
قال ابن قتيبة: «أي: يَجدعُ أَنفَهُ، ويفقأُ عَينَيه» . (7) وهذا الشاهد يستشهد به النحويون (8) والبلاغيون (9) على إضمار الفعل بعد حرف العطف، ويذهبون في تقديره مذهب ابن قتيبة. وذكر بعد ذلك ثلاثة شواهد من الشعر تدل على أن هذا الأسلوب شائع عند العرب قبل نزول القرآن.
(1) المصدر السابق 149.
(2)
الواقعة 17 - 22.
(3)
يونس 71.
(4)
انظر: تفسير الطبري (هجر) 12/ 231.
(5)
هو خالد بن الطيفان.
(6)
ثاب: أي عاد ورجع، والوفر بالفتح: هو من المال والمتاع الكثير الواسع. انظر: الحيوان 6/ 40.
(7)
تأويل مشكل القرآن 213.
(8)
انظر: مجالس ثعلب 464، أمالي المرتضى 4/ 169.
(9)
انظر: الصناعتين للعسكري 181.
هذه هي أهم الأغراض التي أورد أصحاب غريب القرآن ومعانيه الشواهد الشعرية من أجلها، ولم أجد أمثلة للتمثل بالشعر في كتب غريب القرآن ومعانيه، لإيجازها الشديد، وعدم الاستطراد في قضايا تستدعي التمثل بالشعر كما مر في أغراض المفسرين من إيراد الشواهد الشعرية.
* * *