الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-
الاستشهاد لإيضاح غريب التفسير لا غريب القرآن:
قد يُفسر المؤلفُ لفظةً قرآنية، ويرد في أثناء كلامه وشرحه لها لفظة غريبة، فيستطرد المؤلف يشرحها وإيراد شاهد من الشعر يؤيد شرحه. وقد صنع ذلك أبو عبيدة وغيره، فإنه يشرح اللفظةَ الغريبة بكلامٍ من عنده، غير أنه يرد في شرحه لفظةٌ غريبةٌ، فيشرحها مستشهدًا على ذلك بالشعر.
ومن أمثلة ذلك قول أبي عبيدة في شرح قوله تعالى: {أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة: 204](1): «شديد الخصومة، ويقال للفاجر: أَبَلُّ وأَلَدُّ، ويقال: قد بلَلْتَ ولَدِدْت بعدي، مصدرهُ اللَّدَدُ، والجميع: قَومٌ لُدُّ، قال المُسيَّبُ بن عَلَس:
أَلا تَتقونَ اللهَ يا آلَ عامرٍ
…
وهلْ يَتَّقي اللهَ الأَبَلُّ المُصَمِّمُ (2)». (3)
فهو قد شرح معنى (الأَلَدِّ) في الآية بأَنَّهُ شديد الخصومة. غير أَنَّهُ شرح قول العرب للفاجر: أبلّ ألدّ مستشهدًا على ذلك بالشعر.
وأما أصحاب كتب معاني القرآن فقد ورد الشاهد الشعري اللغوي كثيرًا في كتبهم، ولكنه لم يكن غالبًا عليها، كما في معاني القرآن للفراء والأخفش والزجاج. ومن أمثلة الشاهد اللغوي في كتب المعاني ما يلي:
1 -
في تفسير الإيفاض في قوله تعالى: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43)} [المعارج: 43](4) قال الفراء: «الإيفاض: الإسراع. وقال الشاعر (5):
لأَنْعَتَنْ نَعامَةً مِيْفاضا
…
خَرْجاءَ ظَلَّتْ تَطلبُ الإِضاضا (6)
قال: الخَرْجاءُ في اللَّونِ، فإذا رُقِعَ القميصُ الأبيضُ برُقعةٍ حَمراءَ
(1) البقرة 204.
(2)
انظر: ديوانه 135.
(3)
مجاز القرآن 1/ 71.
(4)
المعارج 43.
(5)
لم أقف عليه.
(6)
انظر: تهذيب اللغة 12/ 82، تفسير الطبري (هجر) 23/ 285.
فهو أَخْرَج، تطلبُ الإضاضا: أَي تطلبُ مَوضعًا تدخلُ فيه، وتلجأُ إليه». (1)
2 -
وقال الفراء في تفسير قوله تعالى: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35)} [الرحمن: 35] في تفسير معنى النحاس: «الشُّواظُ: النارُ المَحضَةُ، والنُّحاسُ: الدُّخانُ. أنشدني بعضهم:
يُضِيءُ كَضوءِ سِراجِ السَّليـ
…
ـطِ لَمْ يَجْعلِ اللهُ منهُ نُحاسا (2)». (3)
3 -
ومن أمثلة الشاهد اللغوي في معاني القرآن للأخفش قوله: «قال الله تعالى: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25)} [الغاشية: 25](4)، وهو الرجوع، قال الشاعر (5):
فأَلْقَتْ عصاها واستَقرَّتْ بِها النَّوَى
…
كما قَرَّ عَيْنًا بالإِيابِ المُسافِرُ (6)». (7)
وهناك غرض يدخل في هذا وهو الاستشهاد بالشعر لغرض تأكيد الفهم الصحيح لشاهد شعري آخر، يكون عرضة لاختلاف الرواية في بعض مفرداته، ويمكن التمثيل له بقول ابن قتيبة عندما روى عن أبي حاتم السجستاني قول أمية بن أبي الصلت:
عَسَلٌ ما ومِثْلُهُ عُشَرٌ مَا عائِلٌ ما وعالتِ البَيْقُورا (8)
فعقَّب ابن قتيبة على رواية أبي حاتم بقوله: «هكذا رواهُ «عَسَلُ ما» ، وإِنَّما هو «سَلَعٌ ما»
…
والدليلُ على أَنَّ الروايةَ «سَلَعٌ ما» ، قولُ الآخرِ (9):
أَجاعِلٌ أنتَ بَيقُورًا مُسَلَّعَةً
…
ذَريعةً لكَ بَيْن اللهِ والمَطَرِ (10)». (11)
(1) معاني القرآن 3/ 186.
(2)
البيت للنابغة الجعدي.
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
الغاشية 25.
(5)
هو مُعَقِّرُ بن حِمار البارقي.
(6)
انظر: الأغاني 11/ 160.
(7)
معاني القرآن 1/ 213.
(8)
تقدم تخريجه وشرحه ص 375.
(9)
هو الشاعر الورل الطائي.
(10)
انظر: لسان العرب 5/ 140، شعراء طي وأخبارها 2/ 496.
(11)
تأويل مشكل القرآن 94 - 65.
فاستدل بشاهد شعري على صحة رواية شاهدٍ آخر، ومثل هذا المثال ليس بالكثير في كتب المعاني.
ومثله قول أبي عبيدة عند تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)} [الأعراف: 201](1) حيث فسر الطائف بأَنَّهُ اللَّمَمُ، واستشهد بقول الأعشى:
وتُصْبِحُ عَنْ غِبِّ السُّرَى وكأَنَّما
…
أَلَمَّ بِها مِنْ طائفِ الجِنِّ أَولَقُ (2)
ثم بين أن اسم الفاعل طائف مأخوذ من الفعل طاف يطيف، لا من طاف يطوف، فقال: «وهو من طفت أطيف طيفًا، قال (3):
أَنَّى أَلَمَّ بكَ الخيالُ يَطِيفُ
…
ومَطافُهُ لكَ ذِكْرَةٌ وشُغُوفُ (4)». (5)
فقد استشهد أبو عبيدة بشاهد شعري آخر ليبين أصل اشتقاق كلمة في شاهد شعري آخر، وهذا غرض من أغراض إيراد الشواهد الشعرية لإيضاح بعضها.
- كثرة إيراد الشاهد الشعري:
من المواطن التي يكثر فيها أهل المعاني والغريب الاستشهاد بالشعر:
1 -
مواطن الخلاف أو المناظرة العلمية، أو الردود. ومن ذلك قول الأخفش: «وقال: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37)} [فصلت: 37](6) لأَنَّ الجماعةَ منْ غَيْرِ الإنس مؤنثةٌ، وقال بعضهم: للذي خلق الآيات، ولا أراه قال ذلك إلا لجهله بالعربية. قال الشاعر (7):
إِذْ أَشْرَفَ الدِّيكُ يَدْعو بعضَ أُسْرَتِهِ
…
إلى الصِّياحِ وهُمْ قومٌ مَعازِيلُ (8)
(1) الأعراف 201.
(2)
انظر: ديوانه 271.
(3)
هو كعب بن زهير رضي الله عنه.
(4)
انظر: ديوانه 113.
(5)
مجاز القرآن 1/ 236 - 237.
(6)
فصلت 37.
(7)
هو عبدة بن الطبيب.
(8)
انظر: المفضليات 143.
فجعل الدجاج قومًا في جواز اللغة، وقال الآخر وهو يعني الذئب:
وأَنْتَ امرؤٌ تَعْدو على كُلِّ غِرَّةٍ
…
فَتُخْطِئُ فيها مَرَّةً وتُصيبُ (1)
وقال الآخر (2):
فَصَبَّحَتْ والطَّيْرُ لَمْ تَكَلَّمِ
…
جابيةً طُمَّتْ بِسَيْلٍ مُفْعَمِ (3)». (4)
2 -
ومن مواطن إكثار الاستشهاد بالشعر غرابة اللفظة، وقد بَيَّنَ الزجاجُ في كتابه «معاني القرآن وإعرابه» عِلَّةَ الإِكثارِ من الشواهد في بعض المسائل دون بعض فقال عند توجيهه لقراءة التخفيف في قوله تعالى:{أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النمل: 25](5): «ومَنْ قرأَ بالتخفيف - أَلا يَسْجدو (6) - فـ «ألا» لابتداء الكلام والتنبيه، والوقوف عليه أَلايَا - ثم يستأنفُ فيقول: اسجدوا لله .... ومثل قوله: {أَلا يا سْجُدوا} بالتخفيفِ قولُ ذي الرمَّةِ:
أَلا يَا اسْلَمِي يا دَارَ مَيَّ عَلى البِلا
…
ولا زَالَ مُنهَلاًّ بِجَرْعَائِكِ القَطْرُ (7)
وقال الأخطل:
أَلا يا اسْلَمِي يا هِنْدُ هِنْدَ بَنِي بَدْرِ
…
وإِنْ كَانَ حَيَّانَا عِدًى آخِرَ الدَّهْرِ (8)
وقال العجاج:
(1) البيت لعقبة بن كعب بن زهير بن أبي سلمى المزني. انظر: خزانة الأدب 9/ 153.
(2)
لم أقف عليه.
(3)
الجابية: الحوض الذي يجبى فيه الماء للإبل. انظر: دلائل الإعجاز 136.
(4)
معاني القرآن للأخفش 1/ 394 - 395.
(5)
النمل 25.
(6)
قرأ بها من العشرة أبو جعفر والكسائي ورويس عن يعقوب، وقرأ بها ابن عباس والزهري وغيرهم. انظر: السبعة 480، الكشف عن وجوه القراءات 2/ 156، حجة القراءات 526.
(7)
الجَرْعَاءُ من الرَّمْلِ رَابيَةٌ سَهْلَةٌ لَيّنَةٌ. ديوانه 1/ 559 - 560.
(8)
انظر: ديوانه 70.