الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
ثامنًا: مراعاة السياق في إيراد الشاهد الشعري:
مراعاةُ السِّيَاقِ العام للآيات عند تناول معانيها وتفسيرها أمرٌ لا بد منه لفهمها على وجهها الصحيح، وبِخاصةٍ عند الوقوفِ موقفَ الترجيح بين أقوالٍ شتَّى ذكرها المفسرون، ومن منهج المفسرين السديد مراعاةُ سياق الآياتِ عند الاستشهاد بالشواهد الشعرية، وذلك بأَنْ تكونَ مناسبةً للسياقِ الذي وردت فيه اللفظة في الآية، فيُستشهدُ في كل موضعٍ ترد فيه اللفظة القرآنية للمعاني المناسبة للسياق التي تدل عليها هذه اللفظة، ولا سيما إذا كانت اللفظة من باب المشترك اللفظي الذي يحمل دلالات متعددة، لا تتضح إلا من خلال سياق الكلام.
- ومن أمثلة ذلك قول الطبري وهو يفسر معنى الظلم: «وأصلُ الظُّلمِ في كلام العرب، وضعُ الشيء في غير موضعهِ (1)، ومنه قول نابغة بني ذبيان:
إِلَّا أَوَارِيَّ لأَيًا مَا أُبيّنُها
…
والنُّؤيُ كَالحَوضِ بِالمَظْلُومةِ الجَلَدِ (2)
فجعل الأرض مظلومةً؛ لأن الذي حفرَ فيها النؤيَ حفرَ في غير موضعِ الحَفْرِ، فجعلها مَظلومةً؛ لِمَوضعِ الحُفْرةِ منها في غيرِ مَوضعِها. ومن ذلك قولُ ابن قُميئةَ في صفةِ غَيْثٍ:
ظَلَمَ البِطَاحَ بِهَا انْهِلالُ حَريصةٍ
…
فصَفَا النِّطَافُ له بُعَيدَ المُقْلَعِ (3)
وظُلْمُهُ إِيَّاهُ مَجيئهُ في غَيْرِ أَوَانِهِ، وانصبابهُ في غير مَصبَّهِ .... وقد يتفرعُ الظلمُ من معانٍ يطول بإحصائها الكتابُ، وسنبينها في أماكنِهَا إذا
(1) لو قيد هذا بكونه على وجه التعدي لكان أدل على المعنى، إذ قد يوضع الشيء في غير موضعه جهلًا أو نحوه فلا يسمى ظلمًا. ولذلك قال ابن فارس فيه بعد أن ذكر أنه أصلان:«والآخر وضع الشيء في غير موضعه تعديًا» . انظر: مقاييس اللغة 3/ 470.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
انظر: ديوانه 207، ونسب للحادرة كما في ديوانه 48، ولعل كونه للحادرة أصح.
أتينا عليها إن شاء الله تعالى، وأصل ذلك كله ما وصفنا من وضع الشيء في غير موضعه». (1)
ثم أخذ الطبريُّ في كل المواضع التي ورد فيها ذِكْرُ الظلمِ بِمَعنى: وضع الشيء في غير موضعه يُحيلُ فيه إلى هذا الموضع بقوله: «وقد دللنا فيما مضى على معنى «الظلم» وأَصلهِ بشواهدهِ الدالة على معناه، فكرهنا إعادته في هذا الموضع». (2)
حتى إذا جاء إلى معنى جديدٍ من معاني الظلم وهو «النَّقْصُ» ، في قوله تعالى:{كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} [الكهف: 33](3) قال: «يقول: ولم تَنْقُص مِن الأُكُلِ شيئًا، بل آتت ذلك تامًا كاملًا، ومنه قولهم: ظَلَمَ فلانٌ فلانًا حَقَّهُ، إذا بَخَسَهُ ونَقَصَهُ، كما قالَ الشاعرُ (4):
تَظَلَّمَنِي مَالي كَذَا وَلَوَى يَدِي
…
لَوَى يَدَهُ اللهُ الذي هُوَ غَالِبُهْ (5)» (6).
فراعى الطبريُّ سياقَ الآيات، والمعاني التي تُفهمُ بناءً على السياق، وأورد الشاهد الشعريَّ المناسبَ لِمَعنى اللفظةِ في سياق الآيات التي يفسرها، فعندما ورد الظلم في الآية بِمعنى وضع الشيء في غير موضعه أورد من الشواهد الشعرية ما يشهد لهذا المعنى في لغة العرب، وكلما وردت آية، وذُكرَ فيها الظلمُ بِمعنى وضع الشيء في غير موضعهِ أحال إلى الموضع الأولِ الذي فَسَّرَ فيه معنى الظلمِ بشواهده من الشعر، فلما وردت كلمة الظلم بمعنى النقص، أورد لها من الشواهد الشعرية ما يدل على ورود الظلم في لغة العرب بِمعنى النَّقْصِ، وهذا من مراعاة السياق في التفسير والاستشهاد بالشواهد المناسبة للسياق من الشعر.
(1) تفسير الطبري (شاكر) 1/ 523.
(2)
تفسير الطبري (شاكر) 4/ 584، 5/ 384، 437.
(3)
الكهف 33.
(4)
هو أبو منازل فرعان بن الأعرف.
(5)
انظر: عيون الأخبار 3/ 87، لسان العرب 2/ 293 (جعد)، شرح ديوان الحماسة 3/ 1445.
(6)
تفسير الطبري (هجر) 15/ 258.
- ومن الأمثلة كذلك على مراعاة المفسرين للسياق عند إيرادهم للشاهد الشعري قول الطبري: «إن العرب قد تسمي اليقينَ ظنًا، والشك ظنًا، نظير تسميتهم الظلمة سُدْفةً، والضياءَ سُدفةً، والمغيثَ صارخًا، والمستغيث صارخًا، وما أشبه ذلك من الأسماء التي تُسَمِّي بها الشيء وضده. ومما يدل على أنه يُسمَّى به اليقينُ، قولُ دُريدِ بن الصِّمَّةِ:
فقلتُ لَهُمْ: ظُنُّوا بِأَلفَي مُدَجَّجٍ
…
سَرَاتُهُمُ في الفَارسيِّ المُسَرَّدِ (1)
يعني بذلك: تيقنوا ألفي مدجج تأتيكم. وقول عميرة بن طارق:
بِأَنْ تغتروا قَومِي وأَقْعُدُ فيكمُ
…
وأَجْعَلُ مِنِّي الظنَّ غَيبًا مُرَجَّمَا (2)
يعني: وأجعلُ مِنِّي اليقينَ غَيبًا مُرجَّمَا. والشواهد من أشعارِ العرب وكلامها على أَنَّ الظنَّ في معنى اليقينِ أكثرُ مِن أن تُحصى، وفيما ذكرنا لِمَن وُفِّقَ لفهمهِ كفايةٌ» (3).
ثم أحال في موضعٍ لاحقٍ وردَ فيه ذكرُ الظنِّ فقال: «وقد أتينا على البيان عن وجوه الظنِّ، وأَنَّ أحدَ معانيه العلمُ اليقينُ، بِمَا يدلُّ على صحة ذلك فيما مضى، فكرهنا إعادته» (4).
وفي المواضع التي يأتي فيها الظن بِمَعنى الشكِّ لم يورد شواهد من الشعر لأنه يرى أن شواهده من الشعر لا تُحصى، حيث يقول:«فأَمَّا الظنُّ بِمَعنى الشكِّ، فأكثرُ مِنْ أَن تُحصى شواهدُه» . وقال في موضع آخر: «والظنُّ في هذا الموضع الشك» (5).
فهو قد استشهد لمعنى الظن إذا ورد بمعنى اليقين وأحال في المواضع التالية إلى الموضع الأول الذي فسر فيه هذه اللفظة، فلما جاء
(1) انظر: ديوانه 47، والأصمعيات 23، والأضداد لابن الأنباري 14
(2)
انظر: شرح نقائض جرير والفرزدق 1/ 110، والأضداد لابن الأنباري 14
(3)
تفسير الطبري (شاكر) 2/ 17 - 18
(4)
المصدر السابق 5/ 352
(5)
المصدر السابق 2/ 265
الظن بمعنى الشك لم يورد عليه شاهدًا من الشعر لشهرته بهذا المعنى، وقناعته بأن ورود الظن بمعنى الشك أشهر وأظهر من أن يستشهد عليه بشواهد من الشعر. وفعل الطبري هذا دليل على استحضاره ومراعاته الدقيقة للسيق العام للألفاظ القرآنية، ومراعاة ذلك بدقة في الاستشهاد بالشواهد الشعرية.
- ومن الأمثلة كذلك على مراعاة المفسرين لسياق الآيات في إيراد الشواهد الشعرية قول ابن عطية وهو يشرح معنى الدِّيْنِ في اللغة وأنه يأتي لعدة معانٍ منها: الجزاء: «ومِنْ أَنْحاءِ اللفظةِ الدين: الجزاء، فمن ذلك قول الفِنْدِ الزِّمَّاني:
ولم يبقَ سِوَى العُدوانِ
…
دِنَّاهُمْ كَمَا دَانُوا (1)
أي: جازيناهم. ومنه قول كعب بن جعيل:
إذَا مَا رَمَونَا رَمينَاهُمُ
…
ودِنَّاهُمُ مثلَ ما يُقْرِضُونَا (2)
ومنه قول الآخر (3):
واعلَمْ يَقِينًا أَنَّ مُلككَ زَائِلٌ
…
واعلَمْ بِأَنَّ كمَا تَدِينُ تُدَانُ» (4).
ثم عقَّبَ ابنُ عطية على هذه الشواهد فقال: «وهذا النحو من المعنى هو الذي يصلح لتفسير قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} [الفاتحة: 4] (5) أي: يوم الجزاء على الأعمال والحساب بِهَا» (6). وهذا مِن الاحتكامِ لِسِيَاقِ الآيات في اختيار المعنى المناسب في تفسير الآية الكريمة، وإيراد الشواهد الشعرية المناسبة للدلالة على هذا المعنى
(1) انظر: تأويل مشكل القرآن 351، شرح الحماسة للمرزوقي 1/ 35.
(2)
انظر: تفسير الطبري (شاكر) 1/ 25.
(3)
هو ابن نفيل يزيد بن الصعق الكلابي كما في مجاز القرآن 1/ 23، الكامل 1/ 426، وقيل لجده خويلد بن نوفل الكلابي قاله للحارث بن أبي شَمِرٍ الغساني. انظر: لسان العرب 4/ 460 (دين).
(4)
المُحرر الوجيز 1/ 73.
(5)
الفاتحة 4.
(6)
المحرر الوجيز 1/ 73.
بعينه (1). والأمثلة على مراعاة السياق في الاستشهاد بالشاهد الشعري كثيرة (2).
هذه هي المناهج والطرق التي سار عليها المفسرون في كتب التفسير في عرضهم وإيرادهم للشاهد الشعري، وأرجو أن لا يكون قد فاتني من هذه المناهج والطرقُ شيء ذو بال.
(1) انظر: تفسير الطبري (شاكر) 2/ 449، 3/ 571، 14/ 149 تفسير الراغب الأصفهاني 2/ 1330 - 1331.
(2)
انظر: تفسير الطبري (شاكر) 4/ 550، 8/ 298، المحرر الوجيز 2/ 88، 6/ 78 - 79.