الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول: منهج الصحابة في الاستشهاد بالشعر في التفسير
.
مر الاستشهاد بالشعر في تفسير القرآن الكريم بثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: مرحلة الصحابة والتابعين:
كان القرآن الكريم في هذه المرحلة هو الحافز الأساسي لإحياء الشعر العربي القديم، وإعطائه مكانة هامة في الاحتجاج والاستشهاد، وهذه الظاهرة لم تنضج بشكل واضح إلا مع ابن عباس رضي الله عنهما في جواباته على أسئلة نافع بن الأزرق، حيث كان يستشهد على كل لفظة في آية سُئِلَ عنها بشاهد من الشعر. وأما المحاولات الأولى للاستشهاد بالشعر، فقد كانت في تفسير القرآن الكريم. مما يسجل سبقًا للمفسرين رحمهم الله تعالى.
المرحلة الثانية: مرحلة أتباع التابعين:
وكان يمثلها اللغويون، ولم تسلم هذه المرحلة من التأثُر بِمَا سار عليه ابن عباس في المرحلة الأولى، وكان يمثلها في القرن الثاني وبداية الثالث الهجري أبو عبيدة معمر بن المثنى، والأخفش، والفراء، حيث أسهم هؤلاء في قيام حركة تفسيرية جادة ومنظمة، ومليئة بكثير من شواهد الشعر.
المرحلة الثالثة: مرحلة تدوين اللغة والتفسير:
تبدأ منتصف القرن الثالث الهجري فما بعده، حيث لم تبق عملية الاستشهاد مقتصرة على جانب تفسير القرآن، بل أخذت تتسع وتتطور،
لتشمل جَميع القضايا العلمية الأخرى كالنحو، والبلاغة، وغيرها.
فأما المرحلة الأولى فلما كان النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه، فقد كان مرجعهم في تبيين الكتاب، ولم يكونوا يصدرون عن سواه فيه فقد كفاهم، ولأنَّه «مِمَّا ينبغي أن يُعْلَمَ أن القرآن والحديث إذا عُرِفَ تفسيرُهُ من جهة النبي صلى الله عليه وسلم
…
لم يُحْتَجْ في ذلك إلى الاستدلال بأقوال أهل اللغة ولا غيرهم» (1). ومن تمام تعليم رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن للناس بيان معانيه ومعرفة أحكامه، قال تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44](2)، ومن ثَمَّ «فإن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تُبَيّن القرآن، وتدل عليه، وتعبر عنه» (3). وقد كان الصحابة رضي الله عنهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاء الوحي انتظروا بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفسيره فيما يحتاجُ إلى شرح وبيان وهو قليل، وربما عمدوا إلى سؤاله عما يشكل عليهم من الوحي. كما أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أباح لهم أن يفهموا القرآن؛ لأن الآلة كانت متحصلة لهم، وصوَّب لهم خطأهم فيما يخطئون فيه، دون أن يلوم أحدًا منهم أو يؤاخذه على فهمه، كما في قصة نزول قوله تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82](4)، حين شقَّ ظاهرُها على الناس حتى كشف لهم النبي صلى الله عليه وسلم عن معناها كما في حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: لما نزلت {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: أيُّنا لا يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس هو كما تظنون، إنما هو كما قال لقمان لابنه: {يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] (5)» (6).
وكما في قصة عدي بن حاتم رضي الله عنه عند نزول: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187](7)، حيث قال عدي: لما نزلت (وذكر
(1) فتاوى ابن تيمية 13/ 27.
(2)
النحل 44.
(3)
فتاوى ابن تيمية 13/ 29.
(4)
الأنعام 82.
(5)
لقمان 13.
(6)
متفق عليه، أخرجه البخاري برقم 32 ومواضع أخرى، ومسلم برقم 124
(7)
البقرة 187.
الآية) عمدت إلى عقال أسود، وإلى عقال أبيض، فجعلتهما تحت وسادتي، فجعلت أنظر في الليل فلا يستبين لي، فغدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك، فقال:«إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار» (1).
وكان تعليم النبي صلى الله عليه وسلم القرآن لأصحابه يقتضي تفهم معانيه، كما كانت قراءة الصحابة القرآن تقتضي الوقوف على معانيه، يدل على ذلك قول أبي عبدالرحمن السلمي (ت 74 هـ):«حدثني الذين كانوا يقرئوننا: عثمان بن عفان، وعبدالله بن مسعود، وأبي بن كعب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرئهم العشر، فلا يجاوزونها إلى عشر أخرى حتى يتعلموا ما فيها من العمل، فتعلمنا القرآن والعمل جميعًا» (2).
وقد اختلف العلماء في مقدار التفسير الذي بينه النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة، فمنهم من قال: إنه فسر عددًا من الآيات (3)، ومنهم من قال: إنه بين للصحابة معاني القرآن كما بين لهم ألفاظه (4). والخلاف في هذه المسألة قد يكون لفظيًا؛ لأن القرآن الكريم أنزل بلغة العرب، وكان لسان المخاطبين به من الصحابة عربيًا، فلم يحتاجوا إلى السؤال عن معاني كثير من آيات القرآن، قال أبو عبيدة: «إنما أنزل القرآن بلسان عربي مبين
…
فلم يحتج السلف ولا الذين أدركوا وحيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يسألوا عن معانيه؛ لأنهم كانوا عرب الألسن، فاستغنوا بعلمهم به عن المسألة عن معانيه» (5).
وما قاله أبو عبيدة لا يعني أن الصحابة رضي الله عنهم لم يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1) متفق عليه أخرجه البخاري برقم 1817، 4239، 4240، ومسلم برقم 1090.
(2)
طبقات ابن سعد 6/ 172، السبعة 69.
(3)
انظر: تفسير الطبري (شاكر) 1/ 37، الجامع لأحكام القرآن 1/ 31.
(4)
انظر: مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية 35.
(5)
مجاز القرآن 1/ 8.
عن معنى شيء من القرآن، أو أنه لم يبين لهم من معاني القرآن شيئًا، فقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيَّن معاني كثير من آيات القرآن، لكنه لم يبين معاني جميع آياته؛ لأن من القرآن ما استأثر الله بعلمه، ومنه ما تعلمه العرب من لغاتها، ولا شك في أنه لم يفسر لهم ما يرجع فهمه إلى معرفة كلام العرب؛ لأن القرآن نزل بلغتهم، ولم يفسر لهم ما استأثر الله بعلمه، مما يجري مجرى الغيب التي لم يطلع الله عليها نبيه، وإنما فسر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خفي عليهم معناه، أو التبس المراد به، مما خصه الله بمعرفته، وأطلعه عليه (1).
ولم يدون شيء من التفسير في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن التدوين كان موجهًا إلى حفظ ألفاظ الوحي، وكان قد نهى أولًا عن كتابة شيء من كلامه غير القرآن، خشية اختلاطه بالقرآن، فقال:«لا تكتبوا عني شيئًا سوى القرآن، ومن كتب غير القرآن فَلْيَمْحُهُ» (2).
وقد نقل علماء الصحابة ما سمعوه من التفسير النبوي للقرآن الكريم، وقد حفظت تلك الروايات في كتب التفسير والحديث، وقد جمع السيوطي الروايات المنقولة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في التفسير، من كتب الحديث والتفسير، ورتبها على ترتيب سور المصحف، وقد بلغ مجموعها أكثر من مائتين وخمسين رواية بقليل (3). وقد كان التفسير اللغوي الذي حُفِظَ عن النبي صلى الله عليه وسلم قليلًا (4)، لما تقدم من فصاحة القوم، ولأن التطبيق العملي لأحكام القرآن الذي كانوا يشاهدونه ويشاركون فيه قد أغناهم عن السؤال عن معاني الآيات، ويمكن أن يضاف أمر آخر أسهم في تقليل مسائل الصحابة عن معاني القرآن هو قوة إيمانهم،
(1) انظر: التفسير والمفسرون 1/ 53.
(2)
صحيح مسلم بشرح النووي 18/ 129، المصاحف لابن أبي داود 4.
(3)
انظر: الإتقان 4/ 214 - 257.
(4)
انظر: التفسير اللغوي للقرآن الكريم للطيار 64 - 66.
وصفاء عقيدتهم، وعمق يقينهم، فكرهوا لذلك السؤال عما تشابه من آي القرآن مما استأثر الله بعلمه، فلم يرو عنهم أنهم سألوا عنه رسول الله، واتجهوا إلى الجانب العملي من القرآن والسنة فسألوا عما خفي منه، واشتغلوا بتعلمه وروايته لمن جاء بعدهم رضي الله عنهم.
ومن أمثلة ذلك تفسير النبي صلى الله عليه وسلم، تفسيره لمعنى الوَسَطِ في قوله تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143](1) بقوله: «الوسط: العدل» (2).
أما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فقد اتسعت البلاد، ودخل الناس في الإسلام أفواجًا، ودخلت العُجْمَةُ على الألسنة، فاحتاج المسلمون لشرح ما لم يكن الصحابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بحاجة إلى شرحه من القرآن والسنة، ففزعوا إلى خلفاء النبي صلى الله عليه وسلم في العلم من بعده من أصحابه، والذين صاروا أئمة الناس في شرائع الدين، وعنهم يصدرون، وبرز فيه منهم خلق كثير، رؤوسهم الخلفاء الأربعة، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، وأُبَيُّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وعائشة، وأبو موسى الأشعري، ومعاذ بن جبل، وأبو الدرداء، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وأنس بن مالك، وأم سلمة، وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم أجمعين (3).
أمَّا الخلفاء فأكثر من روي عنه منهم علي بن أبي طالب، والرواية عن الثلاثة نزرة جدًا، وكأن السبب في ذلك تقدمُ وفاتهم، فلا يُحفظ عن أبي بكر رضي الله عنه في التفسير إلا آثارٌ قليلةٌ جدًا لا تكاد تجاوز العشرة (4).
وأمَّا علي فرويَ عنه الكثير وقد روى معمر عن وهب بن عبد الله
(1) البقرة 143.
(2)
أخرجه البخاري 4/ 1632 برقم (4217)، وانظر: فتح الباري 8/ 21.
(3)
انظر: الإتقان في علوم القرآن 2/ 1227 - 1228.
(4)
انظر: المصدر السابق 2/ 1227.
عن أبي الطفيل قال شهدت عليًا يخطب وهو يقول: «سلوني عن كتاب الله، فإنه ليس من آية إلا وقد عرفتُ بليلٍ نزلت أم بنهارٍ، في سَهْلٍ أَم في جَبلٍ» (1).
أمَّا ابن مسعود فروي عنه أكثر مما روي عن علي وقد صحَّ عنه أنه قال: «والله الذي لا إله غيره ما أنزلت سورة من كتاب الله، إلا أنا أعلم أين أنزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيم أنزلت، ولو أعلم أحدًا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه» (2).
وأما أُبّيُّ بن كعب فعنه نسخة كبيرة يرويها أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عنه، وهذا إسناد صحيح، وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم منها كثيرًا وكذا الحاكم في مستدركه وأحمد في مسنده (3).
وقد ورد عن جماعة من الصحابة غَيرِ هؤلاء اليسيرُ من التفسير كأنس بن مالك، وأبي هريرة، وابن عمر، وجابر بن عبد الله، وأبي موسى الأشعري، وورد عن عبد الله بن عمرو بن العاص أشياء تتعلق بالقصص وأخبار الفتن والآخرة وما أشبهها بأن يكون مِمَّا سَأَلَ عنهُ أهلَ الكتاب (4).
- تفسير النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة:
فأما ما روي من التفسير النبوي فلم يكن فيه استشهاد بالشعر، وأَمَّا مَا نُقِلَ من تفاسير الصحابة رضي الله عنهم فلا يوجد بينها إلا قليل من الروايات التي ورد فيها الاستشهاد بالشعر في تفسير القرآن الكريم، وذلك لقلة الحاجة للتفسير ولا سيما اللغوي، فقد كانوا أهل الفصاحة، وأصل
(1) طبقات ابن سعد 2/ 338.
(2)
متفق عليه، أخرجه البخاري برقم 4716، ومسلم برقم 2463.
(3)
انظر: الإتقان 2/ 1228.
(4)
انظر: الإتقان 2/ 1229.