الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكذلك جَميعُ مَنْ تَكلَّمَ في شِعرهِ مِنْ الكُتَّابِ والشعراءِ، كالواحديِّ، وابن عَبَّادِ، والحاتِميِّ، وابنِ وكيعٍ، لا أَعلمُ لأحدٍ منهم اعتراضًا في هذا البيتِ، فدلَّ هذا على أَنَّ هذا لم يكنْ له أصلٌ عندَهم، فلذلك لم يتكلموا فيه» (1). وكلام البطليوسي هذا وجيه، غير أنه لا يصلح أن يكون قاعدة مع كل شاعرٍ مُحدَثٍ، فعنايةُ العلماءِ بشعرِ المُتنبي ليست كَعنايتهم بِشعرِ غَيْره، وقد نظر البطليوسي في القرائنِ المُحتفةِ بشعر المتنبي فدعاه إلى قوله هذا، وهذه النظرةُ النقديَّةُ للشاهدِ الشعري تَحتاجُ إلى توسعٍ وبسطٍ ليس هذا مَحلُّهُ؛ فإِنَّ شواهدَ المتقدمين يَعتري بعضها مِن الاختلالِ، والفسادِ أحيانًا ما يدعو العلماء إلى التوقف في قبولها، بل وردِّها في كثيرٍ من الأحيانِ، وسيأتي مَزيدُ بيانٍ لهذا في المبحثِ التالي.
ثانيًا - المعيار المكاني:
وهو ما يُمْكِنُ أن يُسمَّى مقياسَ «البداوة والتحضر» ، فبعد أن استقر رأي العلماء على صحة الاستشهاد بشعر الطبقات الثلاث الأولى، قام اللغويون بمراجعة أشعارهم للوقوف على بداوة هذا الشاعر وحضارة ذاك؛ لأن البداوة كانت شرطًا من شروط الفصاحة، فنتج عن هذه المراجعة أن حكموا على قسم من الشعراء بالضعف وعدم الفصاحة ولين اللسان، مِمَّا يُبعدُ شعرَهم عن الاستشهاد والاحتجاج، وذلك بسبب بعدهم عن البداوة، ومُخالطتِهم للحضر في المدن.
وقد كان لهذا العامل دور بارز في الاستشهاد، فقد مَجَّد العلماءُ الباديةَ، واتجهوا شطرها، ووثَّقوا أهلَها، فهي مَكمَنُ الفصاحةِ والبيان؛ ولذلك كانت العربُ في الحاضرة تُرسِلُ أبناءها للبادية للتربي على الفصاحة، ورُوي أَنَّ أبا عمرو بن العلاء ما كان يأخذُ لغتَه إلا من
(1) الاقتضاب 1/ 38 - 39.
أشياخِ العربِ، وأهل البَداوةِ (1)، وقد سأل الكسائيُّ الخليلَ بن أحمد: من أين أخذتَ علمك هذا؟ قال: مِن بوادي الحجازِ، ونَجدٍ، وتِهامة (2). وجعل الجاحظُ من تَمَامِ آلةِ الشِّعرِ أن يكون الشاعرُ أعرابيًّا (3). وذكر الفارابيُّ (4) علةَ ذلك بقولهِ:«ولَمَّا كانَ سُكانُ البَريَّةِ في بيوت الشَّعَرِ، أو الصوفِ والخيامِ والأَحسيةِ (5) من كل أمةٍ، أجفى وأَبعدُ من أن يَتركوا ما قد تَمكَّنَ بالعادة فيهم، وأَحرى أن يُحصِّنوا نفوسهم عن تَخيُّلِ حروفِ سائر الأمم، وألفاظهم، وألسنتهم عن النطق بها، وأحرى أَلَاّ يُخالطهم غيرُهم من الأمم، للتوحشِ والجفاء الذي فيهم، وكان سُكَّانُ المدن والقُرى وبيوتِ المَدَرِ منهم أَطبع، وكانت نفوسهم أشدَّ انقيادًا لنُطقهم بِما لم يتعودوه، كان الأفضلُ أن تؤخذ لغاتُ الأمَّةِ عن سكان البَراري منهم، متى كانت الأممُ فيها هاتان الطائفتان» (6)، بِخلافِ الحاضرةِ التي كانتْ مِظنَّة الخلطِ واللَّحنِ (7)، وقد أشار إلى ذلك أبو عمرو بن العلاء حينما قال:«لم أَرَ بدويًا أقامَ بالحَضَرِ إِلَّا فَسَدَ لِسانُهُ غَيْر رُؤبةَ والفرزدق» (8).
فعلى قدرِ توغُّلِ القبيلة في البداوة في وسط الجزيرة العربية -كبوادي نجد والحجاز وتهامة - تكون فصاحتها، ولذلك عَقَدَ ابنُ جني فصلًا بعنوان «بابٌ في ترك الأخذِ عن أهلِ المَدَرِ كما أُخِذَ عن أَهلِ الوَبَرِ» (9). كما افتخر بعض البصريين بِمَروياتِهم على الكوفيين، ويقولون:
(1) انظر: رسالة الغفران 177.
(2)
انظر: إنباه الرواة 2/ 258.
(3)
انظر: البيان والتبيين 3/ 142.
(4)
هو أبو نصر محمد بن محمد بن طرخان الفيلسوف، ولد سنة 260 هـ وتوفي بدمشق سنة 339 هـ. يعد من كبار الفلاسفة، ولقب بالمعلِّم الثاني لشرحه كتب أرسطو المعلم الأول عند الفلاسفة. انظر: وفيات الأعيان 5/ 153
(5)
هي الرمال، وهو يشير إلى الصحراء .. انظر: لسان العرب 3/ 182 (حسا).
(6)
الحروف والألفاظ 146.
(7)
انظر: البيان والتبيين 1/ 163.
(8)
شرح شواهد المغني 1/ 15، خزانة الأدب 1/ 220.
(9)
الخصائص 2/ 5.
ولم يكن الرفعُ من قيمةِ الباديةِ، والحطِّ من قيمةِ الحاضرةِ مقصورًا على هؤلاءِ فقط، فهناك ما يُشيْرُ إلى التفريقِ بينهما في العصرِ الجاهلي، وهو عصر الفصاحة والسليقة، فهذا عَديُّ بن زَيدٍ العِباديِّ المتوفى قبل الهجرةِ بِخمسٍ وثلاثين سنةً (2) لا يرى العلماء الاستشهاد بشعره (3).
ومثله أميَّةُ بن أبي الصَّلت المتوفى في السنةِ الثامنة من الهجرة (4)، حيث لا يَرى العلماءُ أَنَّ شِعرَهُ حُجَّةٌ (5).
وقد حرص العلماءُ وخاصةً أهلُ البصرةِ على تَحقُّقِ صفةِ البداوة فيمن يأخذون عنه، وكان ذلك مصدر فخر واعتزاز لهم، فهذا أبو عبيدة معمر بن المثنى عندما أتاه أبو عمر الجرمي بقطعة من كتابه «مجاز القرآن» ، وقال له:«من أين أخذت هذا يا أبا عبيدة؟ فإن هذا خلاف تفسير الفقهاء (6). فقال لي: هذا تفسير الأعراب البَوَّالِيْنَ على أعقابِهم، فإن شئتَ فخذهُ، وإن شئت فَذَرْهُ» (7).
يقول الفارابيُّ: «وبالجُملةِ فإِنَّهُ لم يُؤخَذ عن حَضريٍّ قط، ولا عن
(1) حَرَشة: جَمعُ حارشٍ، وهو صائدُ الضِّبابِ جَمع ضَبٍّ، واليَرابيعُ جَمعُ يَربوع من حيوانات الصحراء وهو يُشير بِهذا إلى بَداوتِهم. والكواميخُ: جَمعُ كَامخ، نَوعٌ من الإدامِ، وهو مُعَرَّبٌ، والشواريز: هو اللَّبَنُ بالفارسيَّةِ. انظر: أخبار النحويين البصريين 99، لسان العرب 12/ 155 (كمخ)، 3/ 123 (حرش)
(2)
هو عديُّ بن زيد بن حَمَّاد العِباديُّ التميميُّ، كان يسكن الحيْرَة، ويدخل الأرياف، فثقل لسانه، واحتمل عنه شيئ كثير جدًا، والعلماء لا يرون شعره حُجةً. انظر: الشعر والشعراء 1/ 225، الأغاني 2/ 17
(3)
انظر: طبقات فحول الشعراء 1/ 140، الشعر والشعراء 1/ 225، 230، الأغاني 2/ 89، شرح أبيات المغني 3/ 57
(4)
انظر: الشعر والشعراء 1/ 459
(5)
انظر: الشعر والشعراء 1/ 461، الأغاني 2/ 89.
(6)
يعني تفسير المفسرين.
(7)
طبقات النحويين واللغويين 176.
سكان البَراري، مِمَّنْ كان يسكنُ أطرافَ بلادهم التي تُجاورُ سائرَ الأمم الذين حولهم فإنه لم يؤخذ لا من لَخْم (1)، ولا من جُذام (2)؛ فإِنَّهم كانوا مُجاورِين لأهلِ مصرَ والقِبْط، ولا من قُضاعةَ (3) وغَسَّانَ (4)، ولا من إِياد (5)؛ فإِنَّهم كانوا مُجاورينَ لأهلِ الشامِ، وأكثرهم نصارى، يقرأون في صلاتِهم بغير العربية، ولا من تَغلبَ ولا النَّمر (6)؛ فإنهم كانوا مُجاورين للنَّبَطِ والفُرسِ، ولا من عبدِ القيس (7)؛ لأَنَّهم كانوا سكَّانَ البحرين،
(1) لخم بن عدي، بطن عظيم، ينتسب إلى لخم، وهو مالك بن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد بن زيد، من القحطانية، كانت مساكنهم متفرقة بين الرملة بفلسطين، ومصر، والجولان، ومنهم آل المنذر ملوك العراق. انظر: صفة جزيرة العرب للهمداني 129 - 31، نهاية الأرب للنويري 2/ 303.
(2)
جذام بن عدي، بطن من كهلان من القحطانية، وهم بنو جذام بن عدي بن الحارث، كانت تنزل بين مدين وتبوك، وحول الأردن، وهم أول من سكن مصر من العرب. انظر: صبح الأعشى 1/ 330، الاشتقاق 225.
(3)
قضاعة بطن عظيم من القحطانية على قول أكثر أهل النسب، وقد سكنوا أطراف الجزيرة من جهة الشام، وحاربهم النبي صلى الله عليه وسلم في ذات السلاسل، وكانت النصرانية منتشرة بينهم. انظر: صبح الأعشى 1/ 316، نهاية الأرب 2/ 294
(4)
غسان شعب عظيم، من قبائل اليمن، وهو مازن بن الأزد بن الغوث، وقيل: هو ماء بسد مأرب باليمن، وقيل: ماء في بلاد الشام نزله قوم من الأزد فنسبوا إليه. ومنهم بنو جفنة رهط الملوك. كانت ديارهم ببلاد الشام، جهة دمشق وما حولها. انظر: معجم قبائل العرب 3/ 884.
(5)
إياد بطن عظيم من العدنانية، وهم بنو إياد بن نزار بن معد بن عدنان، نزلوا أرض العراق، والموصل وما حولها، ودخل أكثرهم في الإسلام في عهد عمر بن الخطاب، ومنهم خطباء مشهورون كقس بن ساعدة، وعنهم وصلت أكثر أخبار الأمم السابقة كطسم وجديس .. انظر: نهاية الأرب 2/ 328، معجم قبائل العرب 1/ 52.
(6)
هم النمر بن قاسط، بطن من أسد بن ربيعة، من العدنانية. من أورديتهم العلاة باليمامة. انظر: الاشتقاق لابن دريد 202، الأغاني 9/ 82، 342، 343.
(7)
عبدالقيس بن أفصى، قبيلة عظيمة، تنتسب إلى عبدالقيس بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار، من العدنانية، كانت مواطنهم بتهامة ثم خرجوا إلى البحرين واستقروا بها. انظر: نهاية الأرب 2/ 329.
مُخالطين للهندِ والفُرسِ، ولا من أَزْدِ عُمان (1)؛ لِمُخالطتهم للهندِ والفُرسِ، ولا من أهل اليمن أصلًا؛ لمخالطتهم للهند والحبشة، ولولادة الحبشة فيهم، ولا من بَني حنيفة (2) وسُكَّانِ اليمامةِ، ولا من ثَقيفَ (3) وسكانِ الطائف؛ لمخالطتهم تُجَّار الأمم المقيمين عندهم، ولا من حاضرةِ الحجازِ (4)؛
لأنَّ الذين نقلوا اللغةَ صادفوهم حين ابتدأوا ينقلون لغةَ العرب قد خالطوا غيرَهُم من الأُممِ، وفَسَدَتْ ألسنتُهُم» (5).
كلُّ هذه النقول تدل على أَنَّ العلماء كانوا يَحرصون على الأخذ عن الشعراء الذين ينتمون إلى البادية، ويُضعِّفونَ ما عداهم، ولا يلجأون إلى الأخذ عن غيرهم إلا في أضيق الحدود. وهذا المعيارُ قد جعل العلماءَ يذهبون إلى أنه يُحتج بشعر الفصحاء من شعراء الحضر الجاهليين
(1) الأزد من أكبر قبائل العرب، وأزد عمان أحد بطون الأزد، وهي قبيلة قحطانية تنتسب للأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن كهلان، واستقر أزد عمان بعمان بعد تفرقهم وانهيار سد مأرب فنسبوا له، انظر: معجم قبائل العرب 1/ 15 - 18.
(2)
بنو حنيفة ينتسبوت لحنيفة بن لجيم بن بن صعب بن علي بن بكر بن وائل من العدنانية، وتتفرع لبطون كثيرة، وهي قبيلة محاربة، مساكنها في أوائل الإسلام أدنى بلاد الشام إلى الشيح والقيصوم، واثال من أرض اليمامة، وقد حاربهم أبو بكر في حروب الردة. انظر: صفة جزيرة العرب 161، صبح الأعشى 1/ 339.
(3)
قبيلة تنتسب لثقيف بن منبه، وهم بطن متسع من هوازن العدنانية، وهم بطون كثيرة، مواطنهم بالطائف، وحاربهم النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين في السنة. انظر: معجم قبائل العرب.
(4)
هي قريش.
(5)
الحروف للفارابي 147، وانظر: الاقتراح 44 - 45، والمزهر 1/ 211 - 212.
(6)
الحروف للفارابي 147، مقدمة ابن خلدون 509.