الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
معنى قوله: {وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} [يوسف: 49] إلى: وفيه يَنْجُونَ من الجَدْبِ والقَحْطِ بالغَيْثِ، ويزعم أنه من العَصَرِ والعُصْرَةِ التي بمعنى المنجاة، من قول أبي زبيد الطائي:
صَادِيًا يَستغيثُ غَيْرَ مُغَاثٍ
…
وَلَقَدْ كانَ عُصرَةَ المَنْجُودِ
أي المقهور، ومن قول لبيد:
فَبَاتَ وأَسْرَى القَومُ آخرَ لَيْلِهِمْ
…
ومَا كانَ وَقَّافًا بِغَيْرِ مُعَصَّرِ
وذلك تأويل يكفي من الشهادة على خطئه، خلافه قول جميع أهل العلم من الصحابة والتابعين» (1). فالطبري هنا يرد تفسير اللغة الذي ذهب إليه أبو عبيدة لمخالفته لتفسير الصحابة والتابعين، الذين فسروه بأن معناه تعصرون الزيت والسمسم، أو تحلبون الحليب (2). وهذا يعني أن التفسير اللغوي الذي ينفرد به أحد علماء اللغة كأبي عبيدة إذا خالف ما أجمع عليه السلف ممن قبله من الصحابة والتابعين وأتباعهم فإنه يرد، فالسلف هم أهل اللغة، وهم الذين شاهدوا التنْزِيل، وصحبوا الرسول صلى الله عليه وسلم، فكانوا أولى بإصابة الحق، وأولى بالاتباع، ولذلك قال الطبري في تعقبه لتفسير أبي عبيدة:«وذلك تأويل يكفي من الشهادة على خطئه، خلافه قول جميع أهل العلم من الصحابة والتابعين» (3).
ثانيًا: الاستدلال بالشاهد الشعري لبيان أساليب القرآن
.
عُنِيَ المفسرون بدراسة الأساليب القرآنية، ووازنوا بينها وبين الأساليب العربية في الشواهد الشعرية، وكثيرًا ما تقرأ قولهم:«وهذا نظير قول الشاعر» ، أو:«ومثله قول الشاعر» . وذلك لأن القرآن الكريم فيه: «ما في الكلام العربي من الغريب والمعاني، ومن المُحتمل مِن
(1) تفسير الطبري (شاكر) 16/ 131.
(2)
انظر: المصدر السابق 16/ 128 - 129.
(3)
تفسير الطبري (شاكر) 16/ 131.
مَجَازِ ما اخْتُصِرَ، ومَجَازِ ما حُذِفَ، ومَجَازِ ما كُفَّ عَن خَبَره، ومَجَازِ ما جاء لفظهُ لفظَ الواحدِ وَوَقَعَ على الجمع، ومَجازِ ما جاء على الجمعِ ووقع معناه على الاثنين» (1).
ومن الأمثلة على ذلك قول أبي عبيدة في تفسير قوله تعالى: {تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} [التوبة: 92](2): «والعرب إذا بدأت بالأسماء قبل الفعل جعلت أفعالها على العدد، فهذا المُستعملُ، وقد يجوز أن يكون الفعل على لفظ الواحد كأَنَّهُ مقدمٌ ومؤخرٌ، كقولك: وتفيض أَعينُهُم.
كما قال الأعشى:
فَإِنْ تَعْهَدِيْنِي وَلِيْ لِمَّةٌ
…
فَإِنَّ الحَوادثَ أَودى بِهَا (3)
ووجه الكلام أن يقولَ: أَودينَ بِهَا، فلما توسَّعَ للقافيةِ جازَ على النَّكْسِ (4). كأنه قال: فإنه أودى الحوادث بها» (5). وهو هنا يشير إلى حال الفعل مع الفاعل في حال المثنى والجمع، وهذا من الأساليب النحوية.
وربما اختلفَ المفسرونَ في حَملِ الآية على معنى بعض الشواهد من شعر العرب، ومن ذلك أن أبا عبيدة قد ذهب في تفسير قوله تعالى:{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [البقرة: 34](6) وأمثالها، إلى أن معناه:«وقلنا للملائكة، و «إذ» من حروف الزوائد، وقال الأسود بن يَعْفُر:
فَإِذَا وذلكَ لا مَهَاهَ لِذِكْرِهِ
…
والدهرُ يُعْقِبُ صَالِحًا بِفَسَادِ (7)
ومعناها: وذلك لا مَهَاهَ لِذِكْرِهِ، لا طعم ولا فضل، وقال عبد مناف بن رِبْعٍ الهُذَليُّ وهو آخر قصيدة:
(1) مجاز القرآن 1/ 18، وانظر: 1/ 8 - 17، وانظر: تأويل مشكل القرآن 20 - 21، 82، 86، 235.
(2)
التوبة 92.
(3)
انظر: ديوانه 221.
(4)
لعل معناها: عكس الكلام.
(5)
مجاز القرآن 1/ 267 - 268.
(6)
البقرة 34.
(7)
لا مَهَاه: أي لا بقاءَ، وهي بالهاء لا بالتاء. انظر: ديوانه 17، والمفضليات 220.
حتى إذَا أَسْلَكُوهُمْ في قُتَائِدَةٍ
…
شَلاًّ كمَا تَطردُ الجَمَّالةُ الشُرُدَا (1)
معناه: حتى أسلكوهم» (2). وهذان الشاهدان اللذان ذكرهما أبو عبيدة يصحان في (إِذَا) وليس في (إِذْ)، فالكلام هنا مختلف. وقد تعقبه الطبري فقال: «زعم بعض المنسوبين إلى العلم بلغات العرب من أهل البصرة، أن تأويل قوله:{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ} [البقرة: 30](3): وقال ربك. وأَنَّ (إِذْ) من الحروف الزوائد، وأن معناها الحذفُ. واعتلَّ لقوله الذي وصفنا عنه في ذلك ببيت الأسود بن يعفر
…
». ثم ساق الشاهدين. ثم عقب على ذلك بقوله: «قال أبو جعفر: والأمر في ذلك بخلاف ما قال، وذلك أنَّ (إِذْ) حرفٌ يأتي بمعنى الجزاء، ويدل على مجهول من الوقت، وغير جائزٍ إبطال حرف كان دليلًا على معنى في الكلام. إذ سواء قيلُ قائلٍ: هو بمعنى التَطوُّل، وهو في الكلام دليل على معنىً مفهوم - وقيلُ آخر في جميع الكلام الذي نطق به دليلًا على ما أريد به: هو بمعنى التطوُّل.
وليس لما ادعى الذي وصفنا قوله في بيت الأسود بن يعفر أن (إذا) بمعنى التطول وجه مفهوم، بل ذلك لو حذف من الكلام لبطل المعنى الذي أراده الأسود بن يعفر من قوله:
............................
…
فَإِذَا وذلكَ لا مَهَاهَ لِذِكْرِهِ
وذلك أنه أراد بقوله: «فإذا» : فإذا الذي نحن فيه، وما مضى من عيشنا. وأشار بقوله:«ذلك» إلى ما تقدم وصفه من عيشه الذي كان فيه «لا مَهَاهَ لذكره» يعني: لا طعمَ له ولا فضلَ؛ لإعقاب الدهر صالح ذلك بفساد. وكذلك معنى قول عبد مناف بن رِبْعٍ:
حتى إذَا أَسْلَكُوهُمْ في قُتَائِدَةٍ
…
شَلًّا .............................
(1) قُتَائِدَة أي: ثَنِيَّة، وكُلُّ ثَنِيَّةٍ قُتائدة، والجَمَّالَةُ: أصحاب الجمال. انظر: ديوان الهذليين 2/ 42.
(2)
مجاز القرآن 1 - 36 - 37.
(3)
البقرة 30.
لو أسقط منه إذا بطل معنى الكلام؛ لأن معناه: حتى إذا أسلكوهم في قتائدة سلكوا شلاًّ. فدل قوله: «أسلكوهم شلًّا» على معنى المحذوف، فاستغنى عن ذكره بدلالة (إذا) عليه فحذف، كما قد ذكرنا فيما مضى من كتابنا على ما تفعل العرب في نظائر ذلك، وكما قال النمر بن تولب:
فإِنَّ المنيَّةَ مَنْ يَخْشَهَا
…
فَسوفَ تُصَادفهُ أَيْنَمَا (1)
وهو يريد: أينما ذهب
…
الخ» (2).
وفي المثال السابق ما يدل على ما قد يقع من الخطأ في الاستشهاد بالشاهد الشعري، فأبو عبيدة قد استشهد بشواهد على «إذا» ، في موضع كان ينبغي له أن يورد فيه شواهد على «إِذْ» ، ولذلك تعقبه الطبري.
ومن أمثلة ذلك ما ذكره القرطبي حيث يقول: «قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ} [النساء: 83] (3) في «إذا» معنى الشرط، ولا يجازى بها وإن زيدت عليها «ما» وهي قليلة الاستعمال. قال سيبويه: والجيِّدُ ما قال كعب بن زهير:
وإذا مَا تشاءُ تبعثُ منها
…
مغربَ الشمسِ نَاشِطًا مَذعُورا (4)
يعني أن الجيد لا يجزم بإذا «ما» كما لم يجزم في هذا البيت» (5). فهو هنا قد اتخذ من الشاهد الشعري دليلًا على ما ذهب إليه من استحسان عدم الجزم بـ «إذا» كأسلوب من أساليب العربية، وأن الجيد هو رفع ما بعد إذا على ما يجب فيها، وهو أجود من الجزم بها (6). وهذا استدلال بالشاهد الشعري على الأسلوب اللغوي الجيد.
(1) البيت في الصناعتين 183، وخزانة الأدب 11/ 101.
(2)
تفسير الطبري (شاكر) 1/ 439 - 442.
(3)
النساء 83.
(4)
انظر: ديوانه 33.
(5)
الجامع لأحكام القرآن 3/ 188، 1/ 141.
(6)
انظر: الكتاب لسيبويه 3/ 62.