الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فالفراء والطبري قد تواردا على الاستشهاد بالشاهد الشعري السابق على مسألة صوتية وهي الإدغام في لفظتين من آيتين مُختلفتين من القرآن الكريم، غير أَنَّ وجهَ الاستشهادِ واحدٌ، ولم يستشهد السمين الحلبي بالشاهد الشعري مع عنايته بمسائل الصرف في كتابه.
5 - الشواهد البلاغية
.
وهي كل ما استشهد به المفسرون من الشعر لتوضيح وبيان مسألة بلاغية. وشواهد البلاغة لا تُعَدُّ شواهدَ بالمعنى الاصطلاحي الدقيق (3)، فكثير منها قد ورد من باب التمثيل للقواعد التي وضعها البلاغيون. وقد بدأ أبو عبيدة في «مجاز القرآن» بوضع اللبنات الأولى لعلم البلاغة بمباحثه المعروفة، وشاركه بعد ذلك الفراء في «معاني القرآن» ، وقد
(1) تفسير الطبري (شاكر) 2/ 224، 14/ 252، ومجاز القرآن 1/ 260. وانظر: معاني القرآن للفراء 2/ 204، المحرر الوجيز 11/ 45.
(2)
الدر المصون 1/ 434 - 435، 6/ 49، معجم مفردات الإبدال والإعلال في القرآن الكريم للخراط 343.
(3)
انظر: مقدمة شواهد العربية لعبدالسلام هارون 12.
استعان كل منهما بالشواهد الشعرية يستشهد بها على ما يذهب إليه، ويدعم بها رأيه وتفسيره. ثم جاء بعدهما الإمام ابن قتيبة ولا سيما في كتابه «تأويل مشكل القرآن» . فخطا بعلم البلاغة خطوة بعيدة، وقد استطاع أن يعيد تنظيم ما كتبه أبو عبيدة والفراء في كتابيهما، والاستشهاد على ذلك بشواهد من الشعر سبق أن استشهدا بها غير أنه أضاف إليها شواهد جديدة لم يسبق إليها، وقد تداولتها كتب البلاغة بعد ذلك، وأصبحت هي الشواهد السائرة لتلك المباحث البلاغية.
وقد عُنِيَ المفسرون بالشواهد البلاغية، وأوردوا كثيرًا منها في مواضع متفرقة من تفاسيرهم، وبعضهم كان أكثر عناية بها من غيره كالزمخشري في «الكشاف» ، الذي أشار في مقدمة تفسيره إلى أهمية علم البلاغة للمفسر، والحاجة الماسة إلى تعلمه لفهم كتاب الله، وقد شَنَّعَ على من يتصدى للتفسير وهو غيرُ بصيرٍ بهذا العلم (1).
وفي زمن أبي عبيدة (209 هـ) والفراء (207 هـ) لم تكن مصطلحات البلاغة قد اتضحت تمامًا واستقر عليها الأمر؛ ولذلك جاءت المباحث البلاغية في كتابيهما متفرقةً، غَيْر ملتزمةٍ بِمصطلحات البلاغةِ التي عُرِفت فيما بَعدُ، حيث يعدُّ كتابَ الأول منهما أولَ خطوةٍ وصلت في علم البلاغة، فقد تعرض لمباحث التقديم والتأخير، والتشبيه، والكناية، والتمثيل، والاستعارة، والالتفات (2).
ثم جاء بعدهما ابن قتيبة (276 هـ) فاستطاع في كُتبهِ وخاصةً كتابهُ «تأويل مشكلِ القرآنِ» أن يُجلي كثيرًا من مسائل علوم البلاغة، مستشهدًا على ذلك بعدد من الشواهد الشعرية البلاغية، مع بيان وجه الشاهد وتوضيحه، وقد دفعه إلى ذلك الرد على الملاحدة وأشباههم الذين كانوا
(1) الكشاف 1/ 3.
(2)
انظر: المباحث البلاغية في ضوء قضية الإعجاز لأحمد جمال العمري 42 - 49.
يطعنون في القرآن الكريم، ويتهمونه بالتناقض والفساد في النظم والإعراب، والناظر في كتابه يدرك بيسر وسهولة أنه قد استوعب ما ورد في «مجاز القرآن» لأبي عبيدة، و «معاني القرآن» للفراء وأخرجهما في ثوب جديد، أكثر ترتيبًا وتنظيمًا (1)، وتأثر به تلاميذه ومن جاء بعده من المفسرين (2). ولم يَخْلُ تفسير من التفاسير المطوَّلةِ والمتوسطة بعد ذلك من مباحثِ البلاغة، والاستشهاد عليها بشواهد الشعر البلاغية، كتفسير الطبري (310 هـ)، والزمخشري (538 هـ)، وابن عطية (542 هـ)، والقرطبي (671 هـ) وغيرهم.
فمن أمثلة الشواهد البلاغية في كتب الدراسات القرآنية ما ذكره أبو عبيدة في تفسير قوله تعالى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ} [التوبة: 1](3)، حيث قال: «{بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ} ثم خاطب شاهدًا فقال {فَسِيحُوا} [التوبة: 2](4)، مَجازُهُ: سِيْروا وأَقبِلوا وأَدبِروا، والعَربُ تفعل هذا، قال عنترة:
شَطَّتْ مزارُ العاشقين فأصبحتْ
…
عَسِرًا عليَّ طِلابُكِ ابنةَ مَخرمِ (5)» (6).
وهو يشير هنا إلى ما سَمَّاه البلاغيونَ «الالتفات» وهو «انصرافُ المتكلمِ عن المُخاطَبةِ إلى الإخبارِ، وعن الإخبار إلى المخاطبة وما يشبه ذلك» . (7) ومن أول من أشار إليه وإن لم يسمه باسمه أبو عُبيدة بقوله: «والعربُ قد تُخاطبُ فتُخبِر عن الغائبِ والمعنى للشاهدِ، فترجعُ إلى الشاهدِ فتخاطبه» (8)، كما أشار الفراء إليه وإن لم يسمِّه باسمه (9). ولعلَّ
(1) انظر: أثر النحاة في البحث البلاغي للدكتور عبدالقادر حسين 117.
(2)
انظر: نقد الشعر عند ابن قتيبة للدكتور عبدالكريم محمد حسين 396 وما بعدها.
(3)
التوبة 1.
(4)
التوبة 2.
(5)
انظر: ديوانه 16، شرح القصائد السبع الطوال 299.
(6)
مجاز القرآن 1/ 252، 2/ 139.
(7)
معجم المصطلحات البلاغية لأحمد مطلوب 174، الصناعتين للعسكري 392.
(8)
مجاز القرآن 2/ 139.
(9)
انظر: معاني القرآن للفراء 1/ 60، 195، 460.
أولَ من سَمَّاه التفاتًا الأصمعي (1)، ثم شرحه ابن قتيبة وأدخله في باب «مخالفة ظاهر اللفظ معناه» ، وقال: «ومنه أن تخاطب الشاهدَ بشيء ثم تجعلُ الخطابَ له على لفظ الغائب، كقوله عَزَّوَجَلَّ:{حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا} [يونس: 22](2)، قال الشاعر (3):
يا دارَ ميَّةَ بالعلياءِ فَالسَّنَدِ
…
أَقوتْ وطالَ عليها سالفُ الأَبَدِ (4)
وكذلك أيضًا تجعلُ خطابَ الغائبِ للشاهد، كقول الهذلي (5):
يا ويحَ نفسي كانَ جِدَّةُ خَالدٍ
…
وبياضُ وجهكَ للترابِ الأَعفرِ (6)» (7).
وانتفع المفسرون بعد ذلك بما سبق إليه هؤلاء فهذا الزمخشري يقول: «وقد التفت امرؤ القيس ثلاث التفاتات في ثلاثة أبيات
…
وتلك على عادة افتنانهم في الكلام وتصرفهم فيه، ولأن الكلام إذا نقل من أسلوب إلى أسلوب كان ذلك أحسن تطرية لنشاط السامع وإيقاظًا للإصغاء إليه من إجرائه على أسلوب واحد، وقد تختص مواقعه بفوائد» (8). والشواهد - كما قال الطبري - من الشعر وكلام العرب في الالتفات أكثر من أن تحصى (9).
ومن الأمثلة ما أورده الطبري عند تفسير قوله تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة: 93](10) وهو قول زهير:
فصحوتُ عنها بعدَ حُبٍّ داخلٍ
…
والحُبُّ تُشْرِبُهُ فؤادَك داءُ (11)
حيث استشهد به على أن معنى الآية: أُشْربوا حُبَّ العجل، وأنه ترك ذكر الحب اكتفاءً بفهم السامع لمعنى الكلام «إذ كان معلومًا أَنَّ
(1) انظر: الصناعتين 392.
(2)
يونس 22.
(3)
هو النابغة الذبياني.
(4)
انظر: ديوانه 14.
(5)
هو أبو كبير الهذلي.
(6)
انظر: ديوان الهذليين 2/ 101.
(7)
تأويل مشكل القرآن 289 - 290، تفسير الطبري (شاكر) 1/ 154.
(8)
الكشاف 1/ 14.
(9)
انظر: تفسير الطبري (شاكر) 1/ 154.
(10)
البقرة 93.
(11)
انظر: ديوانه 339.