الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السابع: أثر الشاهد الشعري في نسبة اللغات للقبائل في كتب التفسير
.
المُرادُ باللغةِ في هذا المبحث ما يُسمَّى حديثًا باللَّهجةِ، وهي «مَجموعةٌ من الصفاتِ اللغويَّةِ، تنتمي إلى بيئةٍ خاصةٍ، ويشترك في هذه الصفات جَميعُ أفرادِ هذه البيئة» (1)، وهي اللغة التي جبل عليها الإنسان فاعتادها ونشأ عليها؛ لأنها هي التي يعرف بها بين أبناء لغته (2).
وبيئةُ اللهجةِ جزءٌ من بيئةٍ أَوسعُ وأَشْمَلُ، وهي بيئة اللغة، وهي:«مجموعة من اللهجات، لكل منها خصائصها، ولكنها تشترك جميعًا في مجموعة من الظواهر اللغوية التي تيسر اتصال أفراد هذه البيئات بعضهم ببعض، وفهم ما قد يدور بينهم من حديث فهمًا يتوقف على قدر الرابطة التي تربط هذه اللهجات» (3)، فالعلاقة بين اللغة واللهجة بمعناهما الاصطلاحي هي علاقةٌ بين عامٍ وخاصٍ.
ويُعبِّر القدماءُ باللغةِ ويَعنونَ بِها ما يُسمَّى الآن باللهجة، فيُشِيْرُ أصحاب المعاجم إلى لغةِ تَميمٍ، ولغة طيء، ولغة هذيل، وهم يريدون بذلك اللهجات (4). وقد يعبّرون بكلمة اللسان، وهو تعبير القرآن: {وَمَا
(1) في اللهجات العربية للدكتور إبراهيم أنيس 16.
(2)
انظر: الحذف والتعويض في اللهجات العربية للدكتور سلمان السحيمي 49.
(3)
في اللهجات العربية 16.
(4)
انظر: الفائق للزمخشري 3/ 442، الإبدال لابن السكيت 138، الجنى الداني 508، شرح المفصل 1/ 42.
أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4](1)، وهو الذي تعرفه العربُ في كلامها، ولم أجد لفظةَ «اللغة» مستعملةً في كلام الاحتجاج بكثرةٍ، ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد في مسنده:«لم يبعث الله نبيًا إلا بلغة قومه» (2).
والقرآن الكريم نزل بلغةِ العَرَبِ، وقد ورد في آيات كثيرة وصف القرآن بالعربي من مثل قوله تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)} [يوسف: 2](3) وقوله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الشورى: 7](4)، وغيرها (5)، وقد تبيَّنَ من نتائج المباحث السابقة أن المفسرين قد استشهدوا بشعرِ جَميع شعراءِ القبائلِ، وأن المفسرين لم يفرقوا بين شعراء القبائل في الاستشهاد، ويُسمُّون كلَّ ما قاله شعراءُ الاحتجاج عربيةً، ويقولون: قالت العرب كذا.
وقد كان الشاهدُ الشعريُّ الحجةَ التي احتفظ بِها اللغويون عندما سَجلوا لغاتِ العرب، فلا تكادُ تَجدُ النصَّ على لهجةٍ من اللهجات إلا مصحوبًا بِما يشهد له من الشعرِ، فإِمَّا أَن يكونَ الشاهدُ لشاعرٍ من القبيلةِ، وإِمَّا أَن يكون أحد أفراد القبيلة قد أنشد بيتًا لشاعرٍ من غير قبيلتهِ غَيْرَ أَنَّه أَنشدَهُ على وجهٍ يُوافقُ لَهجتَهُ، فيستدل العلماءُ بإنشادهِ لهذا الشاهد، لفصاحته وسلامة لسانه، وكان هذا سببًا من أسباب تعدد روايات الشاهد الشعري في كتب التفسير واللغة. (6)
وقد رحل العلماء المتقدمون الذين وضعت قواعد العربية على أيديهم كأبي عمرو بن العلاء والخليل ويونس بن حبيب ومَنْ بَعدَهُم إلى البوادي فَجَمعوا لغات العرب وشواهدَها من الشعر، ودوَّنوا كلَّ ذلك،
(1) إبراهيم 4، وانظر: نزول القرآن على سبعة أحرف لمناع القطان 4.
(2)
مسند الإمام أحمد 5/ 158.
(3)
الزخرف 3.
(4)
الشورى 7.
(5)
انظر: الشعراء 192، طه 113.
(6)
انظر: المعايير النقدية في رد شواهد النحو الشعرية لبريكان الشلوي 1/ 33.
وتنافسوا في ذلك. وقد كان أبو عمرو بن العلاء وهو شيخُ الأصمعيِّ يَتنافسُ هو وتلميذه في كتابةِ اللغة عن العرب، وتتبع الغريب وتدوينهِ بشواهده (1)، ثم إن تلاميذ هؤلاء قد صنفوا كتبًا في معاني القرآن وغريبه، أودعوا فيها كثيرًا مِمَّا سَمعوه من لهَجاتِ العَربِ، وشواهدِ الشعرِ التي تؤيد كيفية نُطقِ هذه اللهجات المختلفة.
ونظرًا للعلاقةِ بَيْنَ اللهجاتِ وقراءات القرآنِ؛ إذ إِنَّ كثيرًا من أوجه الاختلاف بين القراءات وخاصة المخالفة للرسم العثماني، مع اتفاقها مع القراءة المشهورة في الأصل الاشتقاقي يَعودُ لِظواهر لَهجية كالإدغامِ والتسهيلِ ونَحوهاِ (2)، فقد تفرقت هذه اللهجات المنسوبة للقبائل العربية مَصحوبةً بالشواهد الشعرية التي تَشهدُ لها ولكيفيةِ نُطقِها في كتب التفسيرِ والقِراءات والمَعاني والغَريب. وكانَ كتابُ «معاني القرآن» للفراء، و «مجاز القرآن» لأبي عُبيدة من مصادر الشواهد الشعرية الخاصة باللَّهَجاتِ، واعتمد المفسرون عليهم في نقل هذه اللهجات وشواهدها الشعرية، بل إِنَّ الطبري قد اعتمد بشكل كبير على الفراء، وكثيرًا ما تقرأ في تفسيره عبارة «ذكر الفراء أَنَّ أَبا الجرَّاحِ أَنشدهُ» ، أو «ذَكر الفراءُ أَنَّ بعض العَربِ أَنشدهُ» ، أو غير ذلك من الصيغ والعبارات التي تدلُّ على اعتماد الطبري على الفراء، وقد يذكره الطبري تلميحًا كقوله:«وأَمَّا بعضُ نَحويي الكوفةِ» ، أو «وقال بعضُ نَحويي الكوفة .. وأنشد في ذلك» . ولعلَّ الطبريَّ قد قرأ كتب الفراء ورواها عن شيخه ثعلب (ت 290 هـ)، الذي ذكر عن نفسه أَنَّهُ حَفِظَ كتبَ الفراء حتى لَم يُبْقِ منها حرفًا ولَهُ خَمسٌ وعشرون سنة (3)، والطبريُّ قد لازم ثعلبًا، وأَخَذَ عنه اللغةَ والشِّعرَ
(1) انظر: إنباه الرواة 4/ 135.
(2)
انظر: القراءات القرآنية في ضوء علم اللغة الحديث لعبد الصبور شاهين 267، لغة القرآن الكريم 111.
(3)
انظر: الفهرست 116.
قبل أَن يزدحمَ الطلابُ على ثعلب بِمدةٍ طويلة (1)، والغريب أنك لا تجد لثعلب ذكرًا في تفسير الطبري، والطبري يوافق الفراء كثيرًا، ويُخالِفه أحيانًا (2).
وأما بقية المفسرين الذين شملتهم الدراسة فقد تأخروا عن الطبري، وتأخروا عن عصور الاحتجاج، فكان اعتمادهم على كتب الفراء وأبي عبيدة والطبري ظاهرًا، ولم تجد أثرًا للسماع ولا للرواية المباشرة عن العرب في تفاسيرهم، وقد تقدم بيان هذا في مصادر الشاهد الشعري في كتب التفسير، كما اعتمدوا على كتب النحويين كسيبويه وغيره.
والمفسرون ينصون على اسم القبيلة التي تتكلم باللهجة أحيانًا فيقولون: «هي لغةُ هُذيل» ، أو «لغةُ تَميم» ، ويُغفِلونَها أحيانًا، فيكتفون بقولهم:«وهي لغةٌ لبعضِ العرب» أو «وهي لُغةٌ» ، وقد اعتمد المفسرون على عَمَلِ اللغويين في نقل اللهجات العربية التي تتعلَّقُ بالقراءات القرآنية، ونقلوا شواهد الشعر التي تُمثِّلُ الحججَ والأدلة على صحتها.
وأمثلة تدوين اللهجات عند أبي عبيدة والفراء والأخفش متعددة، ولا سيما ما كانت شواهد الشعر هي الحُججُ الباقيةُ للاستشهاد عليه، وقد دونوا الكثيرَ من تلك اللهجات عند مناسبتها في تفسيرهم للقرآن الكريم، وأمثلة ذلك لدى أبي عبيدة والفراء متعددة. وإن كان أكثر لغات العرب قد ضاع، وذهب بذهاب أهله، كما قال أبوعمرو بن العلاء:«ما انتهى إليكمْ مِمَّا قالت العَرَبُ إِلَّا أَقلُّهُ، ولو جاءكم وافِرًا لَجاءَكمْ عِلمٌ وشِعْرٌ كثير» . (3)
ومن أمثلة إغفالهم لنسبة هذه اللغة لقبيلة بعينها قول أبي عبيدة في
(1) انظر: معجم الأدباء 18/ 60.
(2)
انظر: تفسير الطبري (شاكر) 4/ 312، 12/ 301.
(3)
الخصائص 1/ 386، المزهر 1/ 148.
تفسير قوله تعالى: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} [الأنعام: 113](1): «مِنْ «صَغَوتُ إليهِ» ، أي: مِلتُ إليهِ، وهَويتهُ، «وأَصْغَيتُ إليهِ» لُغَةٌ، قال ذو الرمة:
تُصْغي إذا شَدَّها بالرَّحْلِ جانِحَةً
…
حتى إذا ما استوى في غَرزِها تَثِبُ (2)». (3)
فأشار إلى أَنَّ «أصغيتُ إليه» لغةٌ لبعض العرب ولم يُسمِّها.
وذكر أبو عبيدة اللغات التي وردت في جَمع اسم الموصول (التي) فقال عند تفسير قوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} [النساء: 15](4): «واحدها التي، وبعض العرب يقول: اللواتي، وبعضهم يقول: اللاتي.
قال الراجز (5):
مِن اللَّواتي والتي واللَّاتي
…
زَعَمْنَ أَنِّي كَبِرَتْ لِداتِي (6)
أي: أَسنانِي، وقال الأخطل:
مِن اللَّوَاتي إِذا لانَتْ عَرِيكتُها
…
يَبْقى لَها بَعدَهُ آَلٌ ومَجلودُ (7)
آلُها: شَخصها، ومَجلودُها: جِلْدُها. وقال عمر بن أبي ربيعة (8):
مِن اللّاتِي لَمْ يَحْجُجْنَ يَبْغِيْنَ حِسْبَةً
…
ولكنْ لِيَقْتُلْنَ البَريءَ المُغَفَّلا (9)». (10)
(1) الأنعام 113.
(2)
انظر: ديوانه 1/ 48، الكتاب 3/ 60.
(3)
مجاز القرآن 1/ 205، وانظر: لسان العرب 7/ 353 (صغا).
(4)
النساء 15.
(5)
قال البغدادي عنه: «لا أعرف ما قبله ولا قائله مع كثرة وجوده في كتب النحو» . خزانة الأدب 6/ 156.
(6)
انظر: مجاز القرآن 1/ 119، الشعر للفارسي 2/ 425، أمالي ابن الشجري 1/ 34، الجامع لأحكام القرآن 5/ 83.
(7)
انظر: ديوانه 148.
(8)
الشاهد ليس في ديوان عمر بن أبي ربيعة، وهو في ديوان العرجي، وديوان الحارث بن خالد المخزومي.
(9)
انظر: ديوان العرجي 286، وديوان الحارث بن خالد المخزومي 142.
(10)
مجاز القرآن 1/ 119 - 120.
فقد ذكر اللغاتِ، دون أن ينصَّ على أَيِّ قبائل العرب تنطق بِهذه، وأيها تنطق باللغة الأخرى.
وأما أمثلة نسبتهم اللغة لقبيلة من العرب باسمها، فكثيرة منها قول ابن قتيبة عند تفسيره لقوله تعالى:{أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} [الرعد: 31](1): «أَي: أَفَلَمْ يعلم، ويقال: هي لُغَةٌ للنَّخَعِ، وقال الشاعر (2):
أَقُولُ لَهُمْ بالشِّعبِ إِذْ يَأْسِرُونَنِي
…
أَلَمْ تَيأَسُوا أَنِّي ابنُ فَارسِ زَهْدَمِ (3)
أي: ألم تعلموا». (4) بل رُبَّما ينصُّ المفسرونَ على تسميةِ لغةِ شخصٍ بعينهِ، كقول القرطبي: «إذا قلتَ لصاحبكَ يومَ الجمعةِ: أَنصت، فقد لغوتَ، ويُروى: لغيتَ، وهي لغةُ أَبي هُريرةَ، كما قال الشاعر (5):
ورُبَّ أَسرابِ حَجيجٍ كُظَّمِ
…
عَن اللَّغا وَرَفَثِ التَّكُلُّمِ (6)». (7)
فنسبها لأبي هُريرةَ دون سائرِ قبيلتهِ.
وأما أثر الشاهد الشعري في نسبة اللغات للقبائل في كتب التفسير فقد كان ظاهرًا، وأمثلة نسبة اللهجات التي عثرت عليها في تفسير الطبري وما بعده تذكرُ شواهدَ شعريةً تؤيدُ هذه النسبة، وهم كما تقدَّم ينقلون كثيرًا عن علماء اللغة الذين كتبوا في معاني القرآن كالفراء وأبي عبيدة والأخفش، وينقلون عن أهل العربية كأبي عمرو بن العلاء والخليل وسيبويه. والشاهد الشعري يأتي لتأكيد نسبة هذه اللغة للقبيلة، ويأتي ليبين كيفية النطق لبعض الألفاظ، ويأتي ليبين كيفية التركيب النحوي. هذه أهم الآثار التي يؤديها الشاهد الشعري عند الاستشهاد به على نسبة
(1) الرعد 31.
(2)
هو سحيم بن وثيل اليربوعي.
(3)
انظر: مجاز القرآن 1/ 332، تأويل مشكل القرآن 148، تفسير الطبري 13/ 103.
(4)
غريب القرآن 227 - 228.
(5)
هو العجاج بن رؤبه وقيل لرؤبة.
(6)
انظر: ديوانه 283.
(7)
الجامع لأحكام القرآن 11/ 126.
اللغات للقبائل العربية في كتب التفسير، بحسب الأمثلة التي جَمعتُها منها.
ومن أمثلة استشهاد المفسرين بشواهد الشعر لنسبة اللغات ما يأتي:
1 -
ذكر الفراء عند تفسير قوله تعالى: {قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} [طه: 63](1) وهو يذكرُ توجيهَ أَهلِ العربيةِ لقراءة تشديد «إِنَّ» ورَفع «ساحران» أَنَّ ذلكَ على وجهين، أحدهما: على لغةِ بني الحارث بن كعب ومَن جاورَهُم، يَجعلونَ الاثنين في رفعِهما ونصبِهما وخفضهما بالألف. وقال: «أنشدني رَجلٌ من الأَسْدِ (2) عن بعض بني الحارث بن كعب:
فأَطْرَقَ إِطراقَ الشُّجاعِ ولَو يَرَى
…
مَساغًا لِنَابَاهُ الشُّجاعُ لَصَمَّما (3)». (4)
وهذه الآية من المواضع التي كثر في توجيهها قول النحويين، قال الزجاج:«وهذا الحرف من كتاب الله عز وجل مُشكِلٌ على أهل اللغةِ، وقد كثر اختلافهم في تفسيره» . (5) ثم ذكر أقوال النحويين، وخَرَجَ برأيٍ ذَكرَ أَنَّهُ عَرضَه على المُبَرِّدِ والقاضي إسماعيل بن إسحاق (6) فارتضياه، وهو أنَ «أَنَّ» قد وقعت موقعَ «نعم» ، وأَنَّ اللامَ وقعت موقعها، وأَنَّ المعنى: هذانِ لَهُما سَاحِرَانِ. (7) وقد رد أبو علي الفارسي هذا الوجه (8).
وأما الطبري فقد اختار القول الذي ذكره الفراء فقال: «والصواب
(1) طه 63.
(2)
الأسد: لغة في الأزد، وهي بالسين أفصح، وبالزاي أكثر. انظر: الاشتقاق 482.
(3)
الشجاعُ: الحيَّةُ الذَّكَرُ، وصمَّمَ: عَضَّ ونَيَّبَ فلم يُفلت فريستهُ. والبيت للمُتَلَمِّسِ الضبعيِّ، انظر: ديوانه 34.
(4)
معاني القرآن 2/ 184، انظر: تأويل مشكل القرآن 50، تفسير الطبري (هجر) 16/ 98.
(5)
معاني القرآن وإعرابه 3/ 361.
(6)
هو إسماعيل بن إسحاق الجهضمي الأزدي، الفقيه المالكي، أسرته هي التي نشرت مذهب مالك في العراق، ولد في البصرة، وكان من نظراء المبرد. ولي قضاء القضاة، وتوفي فجأة سنة 282 هـ. له كتاب في أحكام القرآن يعد من أوائل ما صنف. انظر: تاريخ بغداد 6/ 284، الديباج المذهب 92.
(7)
انظر: معاني القرآن وإعرابه 3/ 363.
(8)
انظر: الإغفال 2/ 408.
من القراءة في ذلكَ عندنَا {إِنَّ} بتشديدِ نُونِها، {هَذَانِ} بالألف؛ لإجْماعِ الحُجةِ من القَرَأَةِ عليه، وأَنَّهُ كذلك هو في خَطِّ المصحف. ووجههُ إذا قرئ كذلك مُشابَهتهُ «الذين» ؛ إذ زادوا على «الذي» النون، وأُقِرَّ في جَميع أحوالِ الإعرابِ على حالةٍ واحدة، فكذلك {إِنَّ هَذانِ} زيدت على «هذا» نونٌ، وأُقِرَّ في جَميعِ أحوالِ الإعرابِ على حالةٍ واحدةٍ، وهي لُغةُ بلحرث بنِ كعبٍ، وخثعم، وزَبيد، ومَن ولِيَهُم من قبائل اليمن». (1)
والفراء يعتمد في مواضع كثيرة على الكسائي في نقل لغات العرب، ومن ذلك قوله عند تفسير قوله تعالى:{فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} [البقرة: 260](2): «ضَمَّ الصادَ العامَّةُ، وكان أصحاب عبد الله يكسرون الصاد، وهما لغتان. فأما الضم فكثير، وأما الكسر ففي هذيل وسليم. وأنشدني الكسائي عن بعض بني سليم:
وفَرْعٍ يَصِيْرُ الجِيدَ وَحْفٍ كأَنَّهُ
…
على اللِّيتِ قِنْوانُ الكُرومِ الدَّوَالِحِ (3)
ويُفَسِّرُ معناه: قَطِّعهنَّ، ويقال: وجِّههنَّ». (4)
2 -
ومن الأمثلة قول ابن قتيبة عند تفسير قوله تعالى: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57)} [الأنفال: 57](5): «أي: افعل بِهم فِعلًا من العُقُوبة والتنكيلِ يتفرَّقُ بِهم مَن ورائهم مِن أعدائِك. ويُقال: شَرِّدْ بِهِم، سَمِّعْ بِهم بلغةِ قريش. قال الشاعر (6):
أُطوِّفُ ما أُطوِّفُ كلَّ يومٍ
…
مَخافةَ أَنْ يُشَرِّدَ بِي حَكيمُ (7)». (8)
وحَكيمُ هو ابنُ أُميَّةَ بن حارثة بن الأَوقصِ، استعملتهُ قريش على
(1) تفسير الطبري (هجر) 16/ 101.
(2)
البقرة 260.
(3)
يُريدُ بالفرعِ الشَّعر التام، والوَحفُ: الأسودُ، واللَّيتُ: صفحةُ العُنُق، وقنوان الكروم: عناقيد العنب، والدوالح: المثقلات بحملها. انظر: معاني القرآن 1/ 174 ولم أجده عند غيره.
(4)
معاني القرآن 1/ 174.
(5)
الأنفال 57.
(6)
هو الحارث بن أمية الأصغر.
(7)
انظر: جمهرة نسب قريش 191.
(8)
غريب القرآن 156.
سُفهائِها، فأَحدثَ الحارثُ بن أميةَ حَدَثًا فَطَلَبَهُ، فَفَرَّ منه، فَهَدَمَ حكيمُ دارَه، فقال أبياتًا منها هذا البيت، ومعنى التَّنْكيلِ والطَّردِ من الدِّيارِ في الشاهدِ الشعريِّ أَولى مِن التَّسميعِ، ولذلك استشهد به القرطبيُّ على أَنَّ التَّشريدَ يأتي بِمَعنى التشريدِ عن الوطنِ والأَهلِ، غَيْرَ أَنَّهُ نَسَبَ الشاهدَ لشاعرٍ مِن هُذيلٍ (1)، وتفسير المفسرين للتشريد في الآية بالتنكيلِ، هو الذي عليه المفسرون، وهو تفسير الضحاك. (2)
3 -
وقال الطبريُّ عند تفسيره قوله تعالى: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل: 15](3) فقال: «بِمَعنى: أَنْ لا تَميدَ بكم. والعَرَبُ قد تَجزمُ مع «لا» - في مثل هذا الموضع - الكلامَ، فتقول: ربطتُ الفَرَسَ لا يَنْفَلِتْ، كما قال بعضُ بني عُقيل:
وحتى رَأَينَا أَحسنَ الوُدِّ بَينَنا
…
مُساكتَةً لا يَقْرِفِ الشَّرَّ قَارِفُ (4)
ويُروى: «لا يَقْرِفُ» رفعًا، والرفعُ لغةُ أهلِ الحجازِ فيما قيل». (5)
والطبري في هذا التخريج يسير على نهج الفراء، والشاهد الشعري رواه الفراء عن بعض بني عقيل، حيث قال في تفسيره للآية التي ذكرها الطبري: «ويصلح في (لا) على هذا المعنى الجزم. العرب تقول: ربطت الفرس لا ينفلت، وأوثقت عبدي لا يفرر.
وأنشدني بعض بني عُقَيل:
وحتى رَأَينَا أَحسنَ الوُدِّ بَينَنا
…
مُساكتَةً لا يَقرفُ الشَّرَّ قَارِفُ (6)
(1) انظر: الجامع لأحكام القرآن 8/ 31.
(2)
انظر: مجاز القرآن 1/ 248، معاني القرآن للفراء 1/ 414، تفسير الطبري (هجر) 11/ 236، معاني القرآن وإعرابه للزجاج 2/ 420، الجامع لأحكام القرآن 8/ 30.
(3)
النحل 15.
(4)
البيتُ سَمعَهُ الفراءُ من بعض بني عقيل كما في معانيه 2/ 383، وورد في ديوان الحماسة 2/ 131.
(5)
تفسير الطبري (هجر) 19/ 504 - 505.
(6)
انظر: شرح الحماسة للمرزوقي 3/ 1386.
وبعضهم يقول: لا يقرفُ الشرَّ، والرفعُ لغةُ أهل الحجاز، وبذلك جاء القرآن». (1) فقد نقل الطبري قول الفراء وشاهده دون أن يذكره باسمه، وكان إنشاد الشاهد الشعري هو الحجة لهذه اللغة العُقَيليَّةِ، وذكر الفراء أن البيت الشعري ينشد برفع الفعل بعد (لا) وأَنَّ هذه لغة أهل الحجاز، وهذا دليل على اعتبار لغة المنشد للبيت كما مَرَّ.
والطبري يعتمد كثيرًا على الفراء في نسبته اللهجات للقبائل العربية، وينقل شواهد الفراء غالبًا، وقد يذكر الفراء كما في قوله عند تفسير قوله تعالى:(2) ورُبَّما أَبدلوا الزاي التي في اللازبِ تاءً، فيقولون: طِيْنٌ لاتِبٌ، وذُكِرَ أَنَّ ذلك في قَيسٍ، زَعمَ الفراءُ أَنَّ أبا الجرَّاحِ أَنشدَهُ (3):
صُداعٌ وتَوصِيمُ العِظامِ وفَتْرَةٌ
…
وغَثْىٌ معَ الإِشراقِ في الجوفِ لاتبُ (4)
بِمَعنى: لازم». (5) وقد لا يذكره كما تقدم في المثال الأول.
4 -
وقال الزمخشري عند تفسير قوله تعالى: {قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} [طه: 61](6): «قُرِئ {فَيُسْحِتَكُمْ} والسَّحْتُ لغةُ أهلِ الحِجازِ، والإِسحاتُ لُغَةُ أَهلِ نَجدٍ وبَني تَميم. ومنه قول الفرزدق:
.......................
…
إِلَّا مُسْحِتًا أو مُجلَّفُ (7)
في بيتٍ لا تزالُ الرُّكَبُ تَصْطَكُّ في تسويةِ إعرابهِ». (8) والشاهد استشهاد الزمخشري بالشعر على لغة تميم، وأنها تقولُ: أَسحتَ يُسْحِتُ
(1) معاني القرآن 2/ 383.
(2)
الصافات 11.
(3)
انظر: معاني القرآن 2/ 384، الجامع لأحكام القرآن 15/ 69.
(4)
انظر: تاج العروس 8/ 167 (لتب).
(5)
تفسير الطبري (هجر) 16/ 511.
(6)
طه 61.
(7)
تقدم تخريجه، وتَمامهُ:
وعَضُّ زَمانٍ يا ابنَ مَروانَ لَم يَدَعْ
…
من المالِ إِلَّا مُسْحَتًا أَو مُجَلَّفُ
(8)
الكشاف 3/ 72، وانظر: معاني القرآن وإعرابه للزجاج 3/ 361.
إِسْحَاتًا، وأهل الحجازِ يقولون: سَحَتَ يَسْحَتُ سَحْتًا. قال الأزهري: «والسُّحْتُ: العّذابُ، قال: وسَحَتْناهم بلغنَا مَجهودَهم في المَشّقَّة عليهم، وأسْحَتْناهم لُغةٌ. وقال الفرّاء: قُرئ قَوْل الله جل وعزَّ: وقرئ: {فَيَسْحَتَكُم} بفتح الياءِ والحاء، قال: ويَسْحَتُ أكثر وهو الاستئصالُ. وأنشد قول الفرزدق:
وعَضُّ زَمَان يا ابنَ مروانَ لم يَدَعْ
…
من المال إلا مُسْحَتًا أو مُجَلَّفُ
قال: والعرب تقول: سَحَت وأسْحَت. ويُروى: إلا مُسْحَتٌ أو مُجَلَّفُ. ومن رواه كذلك جعل معنى لم يَدَعْ: لم يَتَقارّ، ومن رواه: إلا مُسْحَتًا، جعل لم يَدَعْ بِمعنى لم يترك، ورفع قوله: أو مُجَلَّفُ بإضمارٍ كأنه قال: أوهو مُجَلَّفٌ كذلك. وهذا قول الكسائي». (1)
5 -
وقال القرطبيُّ: «قوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 26] (2) لُغَةُ بَني تَميمٍ وبني عامرٍ في «أَمَّا» «أَيْما» ، يُبدلونَ من إحدى الميمين ياءً؛ كراهيةَ التضعيفِ، وعلى هذا يُنشَدُ بيتُ عمر بن أبي ربيعة:
رَأَتْ رَجلًا أَيْما إذا الشَّمسُ عارَضَتْ
…
فيَضْحَى وأَيْمَا بالعشيِّ فيَخْصَرُ (3)». (4)
وعمرُ بن أبي ربيعة حجازي من قريش، غير أنه قد روي البيت أيضًا على لغة تَميمٍ كما ذكر القرطبيُّ، وهو كذلك في إحدى روايات الديوان كما أَشار مُحقِّقهُ، وقد استدلَّ النحويونَ به على هذه الرواية على الإبدال. واستشهد به المُبَرِّدُ في ثلاثة مواضع، رواه في الموضع الأول بالإبدال على لغة تَميم (5)، وفي الموضعين الباقيين على لغة قريش بغَيْرِ إبدال (6)، وقال بعد أَن أنشدَ قَول جَميلِ بن مَعْمَر:
(1) تهذيب اللغة 4/ 284 - 285.
(2)
البقرة 26.
(3)
يَخْصَرُ مضارع خَصِرَ - من بابِ فَرِحَ - إذا أَصابَهُ البَرْدُ وآلَمَهُ. انظر: ديوانه 94.
(4)
الجامع لأحكام القرآن 1/ 244.
(5)
انظر: الكامل 1/ 98.
(6)
انظر: الكامل 1/ 384، 3/ 1153.
على نَبْعَةٍ زَوراءَ أَيْمَا خُطَامُها
…
فَمَتْنٌ وأَيْمَا عُودها فَعَتِيقُ (1)
شرحه فقال: «وقوله: «أَيْما» ، يريد «أَمَّا» ، واستثقلَ التضعيفَ، فأبدل الياءَ من إحدى الميمين، ويُنشدُ بيتُ ابن أبي ربيعة:
رَأَتْ رَجلًا أَيْما إذا الشَّمسُ عارَضَتْ
…
فيَضْحَى وأَيْمَا بالعشيِّ فيَخْصَرُ
وهذا يَقَعُ». (2) قال البغدادي معلقًا على قول المبرد: «وهذا يقع» : «وقوله: «وهذا يَقَعُ» يُريدُ أَنَّه نادر». (3) وإبدال الياء مَحلّ أحد المتماثلين لغةُ تَميمٍ وقيس. (4) واختلاف اللهجات سَبَبٌ من أسباب تعددِ رواية الشواهد الشعرية في كتب التفسير واللغة. (5) وأمثلة أثر الشاهد الشعري في تفسير القرطبي في نسبته اللغات للقبائل متعددة. (6)
وهناك من المفسرين من يرُدُّ بعضَ ما ورد من لغات العرب في الشواهد الشعرية، ويرى ذلك غلطًا من الشاعر، كما غَلَّطَ ابنُ عطية الشاعرَ الهُذلي في تسميته العَسَلَ بالسَّلوى، وذلك عند تفسيرِ السَّلوى في قوله تعالى:{وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} [البقرة: 57](7)، حيث قال ابن عطية: «والسَّلوى طَيْرٌ، بإجْماعٍ من المفسِّرينَ (8)
…
وقد غَلِطَ الهذليُّ، فقال:
وَقَاسَمَهَا بِاللهِ عَهْدًا لأنْتُم
…
ألّذُّ مِنَ السَّلْوَى إذَا مَانَشُورُهَا (9)
(1) انظر: ديوانه 150 - 151.
(2)
الكامل 1/ 97 - 98.
(3)
خزانة الأدب 11/ 368.
(4)
انظر: الممتع لابن عصفور 1/ 375، المحتسب 1/ 284، واللهجات في كتاب سيبويه لصالحة آل غنيم 228.
(5)
انظر: المعايير النقدية في رد شواهد النحو الشعرية لبريكان الشلوي 1/ 33 وما بعدها.
(6)
انظر: الجامع لأحكام القرآن 1/ 284.
(7)
البقرة 57.
(8)
انظر: تفسير الطبري (شاكر) 2/ 96، تفسير ابن أبي حاتم 1/ 178، النكت والعيون 1/ 124، الدر المنثور 1/ 171.
(9)
انظر: ديوان الهذليين 1/ 158، وجاء في شرحه:«نشورها: نأخذها، والشَّورُ: أخذ العسل من موضعها» .
ظنَّ السَّلوى العسلَ». (1) ولأَنَّ الشَّورَ لا يكونُ إلا للعسلِ، غلَّطَه ابنُ عطية في ذهابه بالسَّلوى إلى العَسَلِ، وهذا مِنْ تَخطئةِ العُلماءِ للشعراءِ، وهو مذهبٌ لبعضِ اللُّغويِّين، وقد تقدمت الإشارة لذلك في البحث.
وقد سبقه في تغليط الشاعر الزجاج، حيث قال تعقيبًا على البيت:«أخطأ خالدٌ، إِنَّما السَّلوى طائرٌ. وقال الفارسيُّ يردُّ على الزجاجِ: السَّلوى كُلُّ ما سلَاّكَ، وقيلَ للعسلِ: سَلوى لأَنَّه يُسلِّيكَ بِحلاوتهِ، وتأتيه عن غَيْرِه مِمَّا تَلحقُكَ فيه مَؤنةُ الطبخِ وغَيرهِ من أنواع الصناعة» . (2) ولم يرتض بعضُ العلماءِ تَخطئةَ الزجاجِ وابن عطية للشاعر، لكونهِ يتكلَّمُ بلهجتهِ ولغةِ قبيلتهِ، وليس إجْماعُ المفسرين على أَنَّ السَّلوى في الآية هي الطائرِ بِمانعٍ أَن تكونَ هذيلُ تُسمِّي العَسَلَ بالسَّلوى، ولا سيما إذا ثبتَ هذا عنها، ورواهُ أهلُ اللغةِ. هذا مع التسليم بدعوى الإجماع التي ذكرها ابن عطية. (3)
وقد ردَّ القرطبيُّ على ابن عطية في تخطئته للشاعر فقال: «ما ادَّعاهُ من الإجْماعِ لايصحُّ، وقد قال المؤَرِّجُ (4) أحد علماء اللغة والتفسير إنه العَسَلُ، واستدل ببيت الهذلي وذكَرَ أَنَّه كذلكَ بلغةِ كِنانة، سُمِّي به لأَنه يُسَلَّى بهِ، ومنه عَيْنُ السُّلوانِ، وأنشد:
لو أشربُ السُّلوانَ ما سَلَيْتُ
…
ما بِيْ غِنًى عنكِ وإنْ غَنِيْتُ (5)
وقال الجوهري: والسَّلوى العَسَلُ (6)، وذكر بيت الهذلي:
...........................
…
ألذُّ من السَّلوى إذا ما نَشورها
(1) المحرر الوجيز 1/ 306.
(2)
المحرر الوجيز (قطر) 5/ 459.
(3)
انظر: الإجماع في التفسير للخضيري 171 - 173.
(4)
هو مؤرج بن عمر السدوسي البصري، أحد أعيان أصحاب الخليل بن أحمد، توفي سنة 195 هـ. انظر: بغية الوعاة 2/ 305.
(5)
الشاهد للعجاج كما في ديوانه 406.
(6)
انظر: الصحاح 6/ 2381.
ولم يذكر غَلَطًا». (1) وردَّ قولَ ابن عطيةَ الثعالبيُّ في اختصاره فقال: «قد نقل صاحبُ المُختصرِ أَنَّهُ يُطلَقُ على العَسَلِ لُغةً، فلا وجهَ لتغليطهِ؛ لأَنَّ إجماعَ المفسرين لا يَمنعُ من إطلاقهِ لُغةً بِمَعنىً آخر في غير الآية» . (2) وقال ابن هشام: «والسَّلوى طَيْرٌ، واحدتُها سَلواة، ويُقال: إِنَّها السُّماني. ويقالُ للعَسَلِ أيضًا: السَّلوى، وقال خالدُ بن زُهَيْرٍ الهذلي:
وَقَاسَمَهَا بِاللهِ حقًا لأنْتُم
…
ألّذُّ مِنَ السَّلْوَى إذَا مَانَشُورُهَا
وهذا البيت في قصيدةٍ له». (3)
غير أَنَّ الزجاج في موضعٍ آخر يؤكدُ على أَنَّ الشاعر قد يقعُ في الخطأ، وليس بِمعصومٍ منهُ، ومثلهُ ابنُ فارس في كتابه «ذم الخطأ في الشعر» وفي غيره (4)، ولذلك فإِنه ينبغي التنبه عند الاستشهاد إلى مثل هذه الملحوظات.
يقول الزجاج وهو يرد استشهاد من وجه قراءة من قرأ {أَرْجِهْ} في قوله تعالى: {قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} [الأعراف: 111](5) بإسكان الهاء، وأنه جائز فقال: «وزعم بعض النحويين (6) أن إسكانها جائز، وقد رويت لعمري في القراءة (7)، إِلَّا أَنَّ التحريكَ أكثرُ وأَجودُ، وزَعَمَ أيضًا هذا أَنَّ هاءَ التأنيث يَجوزُ إِسكانُها، وهذا لا يَجوزُ. واستشهدَ في هذا بشعرٍ مَجهولٍ، قال أنشدني بعضهم:
لَمَّا رَأَى أَلَاّ دَعَهْ ولا شِبَعْ
…
مَالَ إِلى أَرطاةِ حِقْفٍ فالطَجَعْ (8)
وهذا شِعْرٌ لا يُعرفُ قائلهُ، ولا هو بشيءٍ، ولو قالهُ شاعرٌ مَذكورٌ
(1) الجامع لأحكام القرآن 1/ 407 - 408.
(2)
الجواهر الحسان 1/ 67 - 68.
(3)
السيرة النبوية 1/ 128.
(4)
انظر: الصاحبي 178.
(5)
الأعراف 111.
(6)
هو الفراء. انظر: معاني القرآن 1/ 388.
(7)
هي قراءة حمزة والأعمش، وحفص عن عاصم. انظر: معاني القرآن 1/ 388.
(8)
لم أعرف قائله، وكلهم يرويه عن الفراء.
لقيلَ: أَخطأتَ؛ لأَنَّ الشاعرَ قد يَجوزُ أَن يُخطئ. وأنشد أَيضًا آخرَ أَجهلَ من هذا، وهو قوله:
لست إذًا لزعبله ......
إِنْ لَم أُغَيّرْ بَكْلَتِي
…
إِنْ لَمْ أُساوَ بِالطوَلْ (1)
فجَزَمَ الهاءَ في زَعبَلَه، وجعلها هاءً، وإِنَّما هي تاءٌ في الوصلِ، وهذا مذهبٌ لا يُعَرَّجُ عليه». (2) والزجاج ممن يرى عدم الاحتجاج بالشاهد مجهول القائل. (3)
وقد يستطرد بعض أصحاب المعاني فيذكر لغات لبعض قبائل العرب في بعض ألفاظ القرآن لم يقرأ بِها أَحدٌ من القراء، ويستشهدُ لذلك بالشعر، كالفراء عند تفسير قوله تعالى:{وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ} [الحج: 25](4) حيث ذكر أنه: «قد قرأَ بعضُ القُراءِ (ومَنْ يَرِدْ فيهِ بإِلحادٍ) (5) من الوُرودِ، كأَنَّهُ أراد: مِن وَردهُ أو تَورَّدهُ» ثُمَّ قال الفراءُ: «ولستُ أشتهيها، لأَنَّ وَردتُ يطلبُ الاسمَ
…
وقد تَجوزُ في لغةِ الطائيينَ؛ لأَنَّهم يقولونَ: رغبتُ فيكَ، يُريدون: رغبتُ بكَ، وأَنشدني بعضُهُم في بنتٍ لَهُ:
وأَرغبُ فيها عَنْ لَقيطٍ ورَهْطهِ
…
ولكِنَّنِي عَنْ سِنْبِسٍ لَستُ أَرْغَبُ (6)
يعني: بِنتَهُ». (7) غيرَ أَنَّ الطبريَّ لا يرى صحة هذه القراءة التي
(1) زَعْبَلَةُ اسمُ رَجُلٍ، وزَعْبَلةٌ: الكثِيْرُ، البَكْلَةُ: الحال والخلطُ، بَكَلَ عليه وبَكَلَهُ إذا خَلط. قال ثعلب:«هكذا يُنشَدُ، وهو صدرُ بيتٍ وبيتٌ» . انظر: مجالس ثعلب 473.
(2)
معاني القرآن وإعرابه 2/ 365 - 366.
(3)
انظر: معاني القرآن وإعرابه 2/ 418، الإغفال للفارسي 2/ 285.
(4)
الحج 25.
(5)
هذه القراءة ذكرها الكسائي والفراء، ولم ينسباها، وقراءة الجماعة بخلافها. انظر: معاني القرآن 2/ 223، البحر المُحيط 6/ 363، تفسير الرازي 23/ 25، حاشية الشهاب 6/ 292، الدر المصون 5/ 141.
(6)
لم يذكره أحد قبل الفراء، ولم يذكر اسم القائل.
(7)
معاني القرآن 2/ 223.
ذكرها الفراء، فتعقَّبَه فقال: «وقد زَعمَ بعضُ أَهلَ المعرفة بكلامِ العربِ أَنَّ طيئًا تقول: رَغبتُ فيكَ، تريدُ: رغبتُ بِكَ، وذكرَ أَنَّ بعضَهُم أَنشدهُ بيتًا:
وأَرغبُ فيها عَنْ لَقيطٍ ورَهْطهِ
…
ولكِنَّنِي عَنْ سَنْبسٍ لَستُ أَرْغَبُ
بِمَعنى: وأرغبُ بِها. فإنْ كان ذلك صحيحًا كما ذكرنا، فإِنَّهُ يَجوزُ في الكلامِ، فأَمَّا القراءة به فغيرُ جائزةٍ». (1)
(1) تفسير الطبري (هجر) 16/ 511.