الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قول الأعشى: «بُعَيدَ النُّعاسِ وقبلَ الوَسَنْ» . ورواية الديوان للبيت: «وعندَ الوَسَنْ» . (1) بل إِنَّ تفسير الطبري للبيت أدق من تفسير شيخه ثعلب حيث قال في شرحه: «الوَسْنانُ: النَّاعس» . (2) والشاهد أن الطبري أخذ يتتبع المعنى ليتضح للقارئ بإيراده الشواهد الشعرية التي تدل على المعنى بدقة حتى اكتمل المعنى بتظافر هذه الشواهد الشعرية.
3 -
ومن الأمثلة التي يوازن فيها المفسرون بين أسلوب الآية وأسلوب الشاهد الشعري لتوضيح المعنى المراد ما ذكره أبو عبيدة شارحًا معنى قوله تعالى على لسان الملائكة: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة: 30](3): «جاءت على لفظ الاستفهام، والملائكة لم تستفهم ربها، وقد قال تبارك وتعالى:{إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30](4) ولكنَّ معناها معنى الإيجاب، أي أَنَّكَ ستفعلُ. وقال جريرُ فأوجبَ ولم يستفهمْ لعبد الملكِ بن مروان:
أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ المَطايا
…
وأَنْدَى العالَمِيْنَ بُطُونَ رَاحِ (5)». (6)
فقد تولى الشاهد الشعري إيضاح المعنى، وقد أضاف أبو عبيدة دليلًا آخر من واقع صنيع الممدوح بالشاعر حيث وهب عبد الملك بن مروان لجرير مائة من الإبل مكافأة له على مديحه، ولو كان استفهامًا فقط لم يعطه شيئًا. (7)
الثانية: إيضاح الآية بذكر الشاهد مباشرة
.
في هذه الطريقة يشرح المفسر الآية أو المفردة بذكره للشاهد
(1) انظر: الديوان 67.
(2)
شرح ديوان عدي بن الرقاع لثعلب 122. والطبري على الرغم من أخذه لدواوين العرب عن ثعلب، وقراءتها عليه، واشتهار ذلك عنه، إلا أنه لم يذكره في تفسيره، ولم ينقل عنه شرحه للشعر، وإن كان يوافقه في كثير منه بعد الموازنة بين شرحهما لكثير من الأشعار، ولم أجد جوابًا لصنيع الطبري هذا مع شيخه ثعلب.
(3)
البقرة 30.
(4)
البقرة 30.
(5)
تقدم تخريجه.
(6)
مجاز القرآن 1/ 35.
(7)
انظر: المصدر السابق 1/ 35.
الشعري مباشرة، دون ربطٍ بينهما، أو شرح للشاهد بما يوضح المراد من الآية. وهذا يدل على أن الشاهد في نظر المفسر أوضح من الآية، فيُحيل القارئَ إلى الشاهد لوضوحه، دون أن يتدخل بين القارئ وبين فهمه للشاهد الشعري. وأكثر من رأيته يفعل ذلك الزمخشري في الكشاف، فإنه صنف كتابه للمتقدمين الذين شدوا شيئًا من علم اللغة والتفسير والبلاغة يؤهلهم للربط بين الآية القرآنية والشاهد الشعري واستخراج المعنى المراد من خلال ذلك.
وقد كانت هذه الطريقة في الاستشهاد شائعة عند علماء اللغة المتقدمين، فقد ذكر أبو عُمَر الجَرميُّ أن سائلًا جاء إلى يونس بن حبيب النحوي وهو في حلقته في المسجد، فسأله عن معنى (التَّناوش) في قول الله تعالى:{وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52)} [سبأ: 52](1) قال: «فقال بيدهِ: التَّناولُ، وأنشدَ:
وهيَ تَنُوشُ الحَوضَ نَوْشًا مِنْ عَلا
…
نَوْشًا بهِ تَقطعُ أَجْوازَ الفلا (2)». (3)
فقد اكتفى يونس بعد بيانه للمفردة الغريبة في الآية، بذكر شاهدٍ شعري فهمه السائل دون شرح من يونس.
- ومن الأمثلة على ذلك عند الزمخشري قوله: «فإن قلت: لِمَ وَحَّدَ الراجعَ في قوله: {لِيَفْتَدُوا بِهِ} [المائدة: 36](4) وقد ذُكِرَ شيئان؟ قلتُ: نَحو قولهِ:
فإِنِّي وقَيَّارٌ بِها لَغَرِيبُ». (5)
وهو يعني الضمير في {بِهِ} ، حيث يعود على قوله:{مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ} وهما اثنان، فكان يقال:«ليفتدوا بهما» . غير
(1) سبأ 52.
(2)
هذا البيت من شواهد سيبويه في الكتاب 3/ 453، ولم ينسبه أحد غير ابن بري حيث نسبه لغيلان بن حريث الربعي. انظر: خزانة الأدب 9/ 437.
(3)
أخبار النحويين البصريين 85.
(4)
المائدة 36.
(5)
الكشاف 2/ 230 - 231.
أنه وحد الضمير فقال: {لِيَفْتَدُوا بِهِ} . ولم يشرح الزمخشريُّ العِلَّةَ، وإنما أحالَ بيانَها إلى شطرِ شاهدٍ شِعريٍّ نَحويٍّ مشهورٍ، وهو قولُ ضابئ البُرْجُميِّ:
فَمَنْ يَكُ أَمْسى بالمدينةِ رَحْلُهُ
…
فإِنِّي وقَيَّارٌ بِها لَغَرِيْبُ (1)
والشاهدُ فيه عند الزمخشري قوله: «لغَريبُ» ، وكان المتوقع أن يقول:«لَغريبان» ، كما قال أبو زيد:«ولو قال: «لغريبان» لكان أجود». (2) غير أن الزمخشري اكتفى في إيضاح سببِ توحيد الضمير في قوله تعالى: {لِيَفْتَدُوا بِهِ} مع تعدد ما يعود عليه هذا الضمير بإيراده للشاهد الشعري، وعدم التعليق عليه بشيء، ثقةً في فهم القارئ بأن ذلك من أساليب العرب في كلامها، ودليلًا على أَنَّ الزمخشريَّ صنَّفَ كتابَه «الكشاف» لطلبة العلم المتقدمين.
وقد تقدمت في أثناء البحث أمثلة متعددة أخرى للشواهد اللغوية والنحوية التي استعان بها المفسرون وأصحاب كتب غريب القرآن ومعانيه لإيضاح الدلالات اللغوية
للمفردات والتراكيب في القرآن الكريم، وكان لهذه الشواهد أثر واضح في تقريب المعاني وتوضيحها. ويتفاوت ظهور هذا الأثر للشواهد الشعرية في كتب التفسير، بحسب منهج المفسر الذي سار عليه، غير أن هذا الأثر كان جليًا في كتب التفسير والمعاني والغريب التي شملتها الدراسة، حيث وقع عليها الاختيار في بداية العمل لأسباب من أهمها عنايتها بالشاهد الشعري في مناهجها، وهناك من كتب التفاسير المختصرة من ظهر فيها أثر الشاهد الشعري ظهورًا متوسطًا كتفسير البيضاوي حيث كان مختصرًا من تفسير الزمخشري، وقد استبعد كثيرًا من شواهده، وأبقى منها 266 شاهدًا فقط، لم ير الاستغناء عنها
(1) انظر: الكتاب 1/ 38، خزانة الأدب 10/ 312.
(2)
النوادر لأبي زيد 20.
في مختصره لأهميتها في إيضاح المعاني. (1)
وهناك كتب مختصرة مثل اختصار ابن صُمادِح التُّجَيْبِي لتفسير الطبري، حيث أَخلاهُ من الشواهد الشعرية، وأبقى على المعاني التي اعتمدها الطبري بناءً على شواهد الشعر التي استشهد بها. (2) وفَعَلَ مثلَ ذلك الثعالبيُّ الجزائري في اختصاره لتفسير ابن عطية حيث «وضع لنفسه - وهو يَختصرُ تفسير ابن عطية - منهجًا يقوم في أغلب الأحيان على حذفِ الشواهدِ الشعريةِ، والوجوه النحوية» . (3) وفَعَلَ مثلَ ذلك مَنْ اختصرَ تفسيرَ القرطبي. (4) فتبقى قيمة هذه المختصرات في ارتباطها بالأصول، التي اعتمد أصحابها فيها على شواهد الشعر في تحقيق الدلالات اللغوية لمفردات القرآن الكريم وتراكيبه.
* * *
(1) انظر: القول الماضي في شرح شواهد تفسير القاضي للمحجوب بنسالك 1 - 2.
(2)
انظر: مختصر تفسير الطبري لابن صمادح 1/ 2.
(3)
منهج ابن عطية في تفسير القرآن الكريم للدكتور عبد الوهاب فايد 294.
(4)
انظر: مختصر تفسير القرطبي لتوفيق الحكيم / المقدمة.