الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قد نحلوا أخبارًا وأشعارًا وأضافوها إلى الجاهليين والإسلاميين، وكذلك فعل خصومهم، يقول:«وكانت الشعوبية تنحل من الشعر ما فيه عيب للعرب وغض منهم، وكان خصوم الشعوبية ينحلون من الشعر ما فيه ذود عن العرب ورفع لأقدارهم» (1). ولكن لم يقدم شاهدًا واحدًا على ذلك الشعر الذي صنعته الشعوبية، ونحلته العرب.
- الرواة:
وتحدث عن فساد مروءة بعض الرواة مثل حماد وخلف وأبي عمرو الشيباني، وأنهم كانوا ينحلون الأشعار ويعبثون بالشعر، وطائفة أخرى اتخذت الرواية مكسبًا من أولئك الأعراب الذين كان يذهب إليهم رواة الأمصار يسألونهم عن الشعر والغريب (2).
الرد على المشككين في صحة الشعر الجاهلي:
كانت مقالة مرجليوث حافزًا لكتابات كثيرة، لما حوته من آراء جريئة، ومزاعم وتصورات تخطئ الواقع التاريخي وحقيقة الحياة الجاهلية، فكان المستشرقون أنفسهم هم الذين ردوا عليه وناقشوا نظرياته ودحضوا مزاعمه، ولعله لم يتح للعرب أن يطلعوا على أفكاره تلك إلا في وقت متأخر، أو لم يكن لمن اطلع عليها ما يدفعه إلى الرد عليه، أو لغير ذلك من الأسباب. وكان أول المستشرقين الذين ردوا على افتراضات مرجليوث هو تشارلس ليال في المقدمة التي كتبها للجزء الثاني من المفضليات سنة 1918 م، فقد ناقش مرجليوث حول حماد الراوية وخلف الأحمر، فعرض سيرتهما وناقش الروايات التي قيلت حولهما، ثم عاد فتحدث عن الأمر مرة أخرى في مقدمة تحقيقه لديوان عبيد بن الأبرص، فقال: «أما صحة الأبيات فينظر إليها الأشخاص المختلفون من
(1) المصدر السابق 160.
(2)
انظر: في الأدب الجاهلي 168.
زوايا مختلفة بالطبع، ومن المؤكد أن قصائد البدو الوثنيين لم تنتقل إلينا مكتوبة، وإنما بالرواية، وكانت القصائد التي تسجل انتصارات القبيلة من أعز مآثرها، فترويها جيلًا عن جيل. وبالإضافة إلى هذا النوع من المعرفة بين القبيلة وُجِدَ الراوي، ومهمته أن يحتفظ بالأشعار كما تعيها ذاكرته، وفي العصور التي لا تستخدم فيها الكتابة إلا في المدن ولأغراض خاصة، يُعْنَى بالذاكرة عناية كبيرة، وتكون أقدر كثيرًا منها في العصور الحديثة، وليس من المدهش أن تتداول القصائد بهذه الطريقة قرنين أو ثلاثة من الزمان» (1).
ثُمَّ يشير إلى أن اختلاف الرواية أمر محتمل للاعتماد على الرواية الشفوية، غير أن هذا لا يكفي في إبطال هذا الكم من الشعر الجاهلي، فيقول:«ومن الطبيعي أن يظن المرء أن هذه القصائد اعتراها بعض التغيير في أثناء هذا الانتقال، فعدم تثبت الذاكرة يؤدي إلى إسقاط أبيات، أو اضطراب ترتيبها، أو إبدال عبارات منسية بعبارات من الراوي، ومثل هذه الظواهر مألوفة في كل مكان، ولكننا حين نختبر القصائد ذاتها، نجد قدرًا من الشخصية الذاتية يكفينا للقول بأنها في معظمها من عمل المؤلفين المنسوبة إليهم، فالمعلقات السبع مثلًا، كلها قصائد ذوات ذاتية ومزايا عالية، وتقدم لنا شخصيات شديدة التميز، ونفس الأمر نجده في القصائد الثلاث الباقية (للأعشى والنابغة وعبيد) التي عدها كثير من النقاد من المعلقات، فقد تركت شخصية امرئ القيس وزهير ولبيد والنابغة والأعشى طابعها على شعرها، ومن إفراط الخيال أن نظن أن معظم القصائد المنسوبة لهم منحولة في عصر متأخر، ومن تأليف أدباء عاشوا تحت ظروف مغايرة تمام المغايرة، وفي عالم شديد الاختلاف عن أيام الحياة البدوية في الصحراء العربية» (2).
(1) مقدمة ديوان عبيد بن الأبرص، تحقيق حسين نصار 21.
(2)
المصدر السابق 21.
ثم يذكر سببًا ثانيًا لصحة الشعر الجاهلي هو إِيمان شعراء القرن الأول الهجري بهذا الشعر، واستمرارهم على تقاليد الشعراء في العصر الجاهلي (1).
والسبب الثالث في إيمانه بصحة الشعر الجاهلي هو «أن القصائد القديمة كانت ملأى بألفاظ غريبة على العلماء الذين كانوا أول من عرض هذه القصائد لِمَحكِّ النقد، فقد كانت تنتمي لمرحلة قديمة من اللغة كانت غير مستعملة في الزمن الذي كتبت فيه القصائد، وجمعت في دواوين» (2).
وتناول مستشرقون آخرون الرد على مرجليوث، ودحض نظرياته، من أمثال جورجي ليفي دلافيدا، وجب، وبروكلمان، وبلاشير، وغيرهم، ذكروا ذلك في ثنايا كتبهم ولم يخصصوا لها فصولًا خاصة (3).
وأما طه حسين فقد أثار كتابه ثائرة العلماء والأدباء على حد سواء، فأما العلماء فلتعرضه للدين وتشكيكه في القرآن، وأما الأدباء فقد كشفوا زيف ما كتبه، وألفوا الكثير من الكتب في ردها ونقضها، وبيان بطلان منهجها، من أهمها كتاب «نقد كتاب في الشعر الجاهلي» لمحمد فريد وجدي، وكتاب «الشهاب الراصد» لمحمد لطفي جمعة، وكتاب «نقض كتاب في الشعر الجاهلي» لمحمد الخضر حسين، و «محاضرات في بيان الأخطاء العلمية والتاريخية التي اشتمل عليها كتاب في الشعر الجاهلي» لمحمد الخضري، وكتاب «النقد التحليلي لكتاب في الأدب الجاهلي» لمحمد أحمد الغمراوي، مع مقدمة وافية للأمير شكيب أرسلان، وفصول من كتاب «تحت راية القرآن» لمصطفى صادق الرافعي. وفصول من كتاب «مصادر الشعر الجاهلي» لناصر الدين الأسد. وتتفاوت
(1) انظر: المصدر السابق 22.
(2)
المصدر السابق 22.
(3)
انظر: أصول الشعر العربي لمرجليوث، ترجمة الجبوري 29.
هذه الكتب في أسلوبها ومنهجها العلمي، فمنها العلمي الدقيق المتزن مثل كتاب النقد التحليلي للغمراوي، وهو أوفاها وأشملها، ويأتي بعده ما كتبه محمد الخضر حسين، ثم بقية الردود.
ويمكن تلخيص ردود العلماء على كتاب طه حسين، ومآخذهم عليه في النقاط التالية:
أولًا: عدم فهمه منهج ديكارت فهمًا صحيحًا:
حيث قال في مقدمته: «أريد أن أصطنع في الأدب هذا المنهج الفلسفي الذي استحدثه (ديكارت) للبحث عن حقائق الأشياء في أول هذا العصر الحديث» (1). فنعى عليه محمد لطفي جمعة بأن منهج ديكارت لم يكن منهجَ شكٍ للشكِّ ذاته، وإنما يتخذ الشك وسيلة لليقين، فهو منهج إيجابي لا سلبي، يقول:«وقد آلى ديكارت على نفسه أن لا يقبل المعلومات مهما كانت صفتها وقوة الثقة الملازمة لها، ما عدا الحقائق الخاصة بالعقيدة، فإنه لم يطبق عليها هذه الطريقة» (2). في حين يذهب طه حسين إلى الشك للشك ذاته، وطبق ذلك على العقيدة نفسها، وهذا ما أثار عليه العلماء.
ثانيًا: مُخالفته لمنهج ديكارت:
حيث لم يمحص الروايات التي يحتج بها، يقول محمد الخضر حسين: «
…
على الرغم من قبضه على منهج ديكارت، ونعيه الاطمئنان إلى ما يقوله القدماء، قد اطمأن في كثير من هذا النحو الجديد من البحث إلى ما يرويه صاحب الأغاني وغيره
…
» (3).، ويفسر محمد فريد وجدي طريقة طه حسين في التنكر لمنهج ديكارت بقوله: «ولكنه بغلوه
(1) في الشعر الجاهلي 23.
(2)
الشهاب الراصد 23.
(3)
نقض كتاب في الشعر الجاهلي 11.
في تحري أسباب الاختلاق على الجاهليين التقط من كتب المحاضرات جميع ما فيها مما يتعلق بالاختلاق، وبالعوامل التي حملت عليه، وبالمطامع التي دفعت إليه، ولم يسر في ذلك على ما يقضي به عليه مذهب ديكارت من النقد والتمحيص، بل وثق به ثقة مطلقة مما حملته على إصدار الأحكام جزافًا» (1).
ثالثًا: ضعف الأدلة:
حيث إنه يفترض فرضًا، ثم يبني عليه فرضًا آخر، ويقرنه بفروض أخرى، ثم ينتهي بالقطع والجزم والثبوت، وقدموا لذلك أمثلة كثيرة منها: أنه يورد ثلاث جُمَلٍ، يبرهن على الأولى منها بقوله:«فليس يبعد» .، وعلى الثانية بقوله:«فليس ما يمنع» .، وعلى الثالثة بقوله:«فما الذي يمنع» . ويبني على هذه الكلمات الثلاث قوله: «أمر هذه القصة إذن واضح» . ويقول الخضري معقبًا على ذلك: «نعم قد اتضح بنفي البعد في الأولى، وعدم المانع في الأخريين، وما علمنا بمنطق في العالم يكتفي في إقامة البرهان على عدم صحة خبر من الأخبار بأنه لا يبعد ضده أو أنه لا مانع من ضده» (2).
رابعًا: التعسف والشك في كل شعر أو خبر فيه شبه بالقرآن:
يقول الخضر حسين: «من شاء أن ينظر إلى قاعدة تمتد إلى غير نهاية، ولا تتصل بما يمسكها أن تزول إلا إرادة المؤلف، فلينظر إلى هذه الفقرة التي تمثل قلمًا يشتهي أن يكتب فينتكس ويرمي بالحديث في غير قياس، كل شعر أو خبر أو حديث يضاف للجاهليين ويكون بينه وبين آية من القرآن شبه قوي أو ضعيف فهو مصنوع، أليس من الجائز أن ينطق
(1) نقض كتاب في الشعر الجاهلي 2.
(2)
محاضرات في بيان الأخطاء العلمية التاريخية التي اشتمل عليها كتاب في الشعر الجاهلي 8.
العرب بحكمة فيأتي القرآن بهذه الحكمة على وجه أبلغ وأرقى، أمن الحق أن ننكر أن العرب قالوا مثلًا:«القتل أنفى للقتل» . لمُجرد شبه بقول القرآن: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 179](1). أو من الحق أن ننكر أن زهيرًا قال:
وَمَنْ هَابَ أَسْبَابَ المَنَايَا يَنَلْنَهُ
…
وَلو رَامَ أَسْبَابَ السَّماء بِسُلَّمِ (2)
لأن له شبهًا قويًا أو ضعيفًا بقول القرآن: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 78](3)» (4).
ومما يتصل بمجافاة منهج ديكارت أنه عقد فصلًا عن (الشعوبية ونحل الشعر) ولكنه لم يأت برواية تدل على أن بعض الشعوبية نحل شعرًا جاهليًا، وقال الخضر حسين:«وقال المؤلف عن الشعوبية ما شاء أن يقول من كتاب الأغاني قصصًا عن أبي العباس الأعمى، وإسماعيل بن يسار، وقصارى ما تدل عليه هذه القصص، أن الأول كانوا يهجو آل الزبير، وأن الثاني كان يبغض آل مروان، وله شعر يفخر فيه بالأعاجم، وزعم أنه وصل بهذا إلى ما كان يريده من تأثير الشعوبية في انتحال الشعر، ولكنه لم يستطع أن يضرب لك مثلًا يريك كيف انتحلت الشعوبية شعرًا جاهليًا، فضاق بمنهج ديكارت» (5).
وكذلك أخذوا عليه في فصل السياسة ونحل الشعر أنه لم يأت بمثل واحد يمثل الانتحال يثبت فيه أن واحدًا من القرشيين أو الأنصار اختلق شعرًا ونسبه إلى شعرائه في الجاهلية.
خامسًا: التناقضُ:
فمرة يرى أن العرب: «لم يكونوا في عزلة سياسية واقتصادية بالقياس إلى الأمم الأخرى
…
بل كانوا أصحاب علم ودين وأصحاب
(1) البقرة 179.
(2)
انظر: ديوانه 24.
(3)
النساء 78.
(4)
نقض كتاب في الشعر الجاهلي 212.
(5)
المصدر السابق 247.
ثروة وقوة بأس وأصحاب سياسة متصلة بالسياسة العامة متأثرة بها مؤثرة فيها» (1). ومرة أخرى يرى أن العرب كانوا في عزلة حين يرى العزلة تخدم غرضه في نفي الشعر وتوحيد اللهجات، حيث يقول:«ولا سيما إذا صحت النظرية التي أشرنا إليها آنفًا وهي نظرية العزلة العربية، وثبت أن العرب كانوا متقاطعين متنابذين، وأنه لم يكن بينهم من أسباب المواصلات المادية والمعنوية ما يمكن من توحيد اللهجات» (2).
ويأخذ عليه الخضر حسين هذا التناقض فيقول: «أتدري ما هي نظرية العزلة التي أشار إليها آنفًا؟ هي تلك النظرية التي رماها على أكتاف الذين تعودوا أن يعتمدوا على هذا الشعر الجاهلي في درس الحياة العربية قبل الإسلام، وشن عليها الغارة بنكير لا هوادة فيه
…
أنكر المؤلف نظرية العزلة العربية حين رآها تعترض ما أراده من أن للجاهليين اتصالًا بالعالم الخارجي، وود في هذا الفصل أن تستقيم له لأنها تؤيد نظرية عدم التقارب بين لغات القبائل العربية» (3).
وأخذوا عليه إنكاره هجرة فريق من عرب اليمن إلى الشمال، وأن صحة يمانية من انتسب إلى اليمن من قبائل الشمال غير ثابتة، وهذا يسقط اعتراضه، فإنه إذا صح أن التاريخ القديم والتاريخ الحديث أجمعا على خطأ، فلم تكن هجرة ولم يكن في الشمال يمانيون، لم يكن هناك أدنى شبهة لغوية يمكن أن يعترض بها على صحة كلام امرئ القيس، إذ يصير امرؤ القيس ومن معه بذلك مُضَرِيِيْنَ، ويصير من السخف أن يقال بعد ذلك أن كلامهم وشعرهم منحول؛ لأن لغته ليست لغة نقوش حميرية اكتشفت في الجنوب، حتى ولو كانت لغة النقوش تمثل لغة اليمن في عصر امرئ القيس (4).
(1) في الشعر الجاهلي 65.
(2)
انظر: المصدر السابق 45.
(3)
نقض كتاب في الشعر الجاهلي 99 - 100، وانظر: النقد التحليلي للغمراوي 194.
(4)
انظر: النقد التحليلي 188.
سادسًا: التعسف في تفسير النصوص:
وتوجيهها إلى غير وجهتها، وإيرادها مقطوعة عن سياقها، والاستدلال بها على ما تدل عليه.
سابعًا: إغارته على كتب عربية وغربية:
والتقاطه منها آراء وأقوالًا نظمها في خيط من الشك، ونسبها إلى نفسه. ولا سيما مرجليوث، وقد لاحظوا أن أهم ما أخذه طه حسين منه هو مسألة الدين واللهجات.
ثامنًا: زعمه أن الشعر الجاهلي لا يمثل دين الجاهلية:
وأن القرآن هو مرآة الحياة الدينية في الجاهلية، وقد رفض الغمراوي هذا وقال إن هذا:«لا ينطبق إلا على أهل مكة والمدينة ومن حولهما، ولا ينطبق على من حولهما مثل ما ينطبق عليهما. ومكة والمدينة وما حولهما ليست هي كل بلاد العرب، وأهل مكة والمدينة ومن جاورهم لم يكونوا جملة العرب ولا جمهرتهم، فمن الخطأ الواضح إذن أن يجعل الدكتور ما ينطبق عليهم ينطبق على جميع العرب، وأن يستند في ذلك إلى القرآن» . ويرى محمد الخضر حسين أولًا أن هذه الشبهة مما استلبه المؤلف من مرجليوث، وثانيًا: أن معظم شعر العرب كان في الفخر والحماسة، وأن المسلمين صرفوا عنايتهم عن رواية الشعر الذي يمثل دينًا غير الإسلام، ولا سيما دين اللات والعزى، وعلى الرغم من هذا وصلت إلينا بقية من الشعر الذي يحمل شيئًا من الروح الديني نجده في كتاب الأصنام لابن الكلبي وغيره» (1).
تاسعًا:
أما فيما يخص الدين ونحل الشعر فيتعرض طه حسين إلى أمية بن
(1) النقد التحليلي 147.
أبي الصلت، وأن النبي نهى عن رواية شعره، ويرى أن هذا وحده كاف لأن يضيع هذا الشعر، فيرد عليه محمد الخضر حسين بأن في الحديث الصحيح أن النبي استنشد رجلًا شعر أمية فظل ينشده حتى أنشد مائة بيت (1)، ولو صح أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن شعره لكان هذا النهي مقصورًا على قصيدة أمية في رثاء قتلى قريش في بدر، ومع ذلك فإن هذه القصيدة التي يقولون أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن روايتها، واردة في بعض كتب السيرة والمغازي وقد رواها ابن هشام في نحو ثلاثين بيتًا (2).
أما محمد لطفي جمعة فيرد عليه من وجه آخر، وهو ما ورد في الشعر الجاهلي من نثر وشعر عن الجن ووجودها وأخبارها، ويقول: إن مؤلف كتاب الشعر الجاهلي يريد أن يوهم القارئ أن كل ما ورد عن الجن في الشعر والنثر إنما وضع بعد الإسلام وضعًا لتبرير سورة الجن التي جاءت في القرآن الكريم، وإن كل ما نسب إلى العرب في أدبهم من هذه الناحية إنما اصطنع اصطناعًا مجاراة للعقيدة التي اقتضتها هذه السورة، والحقيقة أن عرب الجاهلية كانوا يعتقدون بالجن، ونظموا شعرًا جاهليًا عن علاقة الجن بالشعر والشعراء، ولم تكن أمة سامية أو آرية تخلو من الاعتقاد بالجن أو الأرواح الخيرة والشريرة (3).
عاشرًا: خطؤه وغلوه:
في قوله: «فحرصوا أن يستشهدوا على كل كلمة من كلمات القرآن بشيء من شعر العرب يثبت أن الكلمة عربية لا شك في عربيتها» (4). فرأى الشيخ الخضري أن في هذه الجملة غلوًا وخطأ:
أما الغلو فإن الاستشهاد على كل كلمة لا يؤيده الواقع استنادًا إلى
(1) انظر: صحيح مسلم - كتاب الشعر 4/ 1767 (2255).
(2)
انظر: نقض كتاب في الشعر الجاهلي 220.
(3)
انظر: الشهاب الراصد 212.
(4)
في الشعر الجاهلي 90.
كتب التفسير التي اعتنت بالشواهد كتفسير الطبري وتفسير الزمخشري، فعدد شواهد الكشاف مثلًا 727 شاهدًا (1)، وليس هذا عدد كلمات القرآن.
وأما الخطأ ففي ظنه أن هذه الشواهد كلها جاهلية جيء بها لإثبات عربية القرآن، مع أن أكثر الشواهد لشعراء إسلاميين وقليل منها ما هو لشعراء جاهليين أو مجهولين، وما كان الاسستشهاد لإثبات عربية القرآن كما يزعم، وإنما هو لبيان مفهوم الكلمات التي يعدها الناس أحيانًا غريبة، وأن القرآن ليس بدعًا في اللغة، بل جاء بلغة العرب لم تشذ فيه كلمة عن مناهجهم (2).
ويمكن أن يقال إضافة لما ذكروا في الرد عليه: إنه قد مثَّلَ الشعرُ الجاهلي المنسوب الذي استشهد به المفسرون في كتب التفسير وكتب معاني القرآن وغريبه نسبةً كبيرة من شعر الشواهد، فقد مثَّلَ عند أبي عبيدة في مجاز القرآن ما يزيد على ثلث عدد الشواهد الشعرية (3)، في حين مثَّل عند الفراء في معاني القرآن أكثر من النصف تقريبًا (4)، وأما عند الطبري في تفسيره فقد بلغ عدد الشعراء الذين استشهد بشعرهم من شعراء الجاهلية خمسة وتسعين شاعرًا من بين عدد الشعراء الذين احتج بشعرهم وهم يصلون إلى ستين ومائتي شاعر، وسيأتي بيان ذلك.
ومما يدل على صحة الشعر الجاهلي أَنَّ جلة الصحابة استعانوا به في تفسير ألفاظ القرآن الكريم، وبيان معانيه، فقبل عصر الرواة المحترفين، وقبل قيام مدرستي الكوفة والبصرة، كان عمر بن
(1) في الإحصاء الذي قمت به 831 شاهدًا.
(2)
انظر: محاضرات في بيان الأخطاء العلمية التاريخية التي اشتمل عليها كتاب في الشعر الجاهلي 45.
(3)
198 شاهدًا من مجموع الشواهد المنسوبة الذي هو 550 شاهدًا شعريًا.
(4)
36 شاهدًا من مجموع الشواهد المنسوبة الذي هو 72 شاهدًا شعريًا.
الخطاب رضي الله عنه يحض على معرفة الشعر؛ لأنه ديوان العرب، وفيه تفسير كتاب الله، فقد نقل عنه أنه قال:«أيها الناس تمسكوا بديوان شعركم في جاهليتكم، فإن فيه تفسير كتابكم» (1). وكان ابن عباس وهو من هو علمًا بالشعر وأيام العرب والقرآن الكريم وتفسيره، وهو حبر الأمة، قد فسر القرآن الكريم واستدل على فهم معاني ألفاظه بالشعر الجاهلي، فقد حدَّثَ عكرمة، قال:«ما سمعت ابن عباس فسر آية من كتاب الله عَزَّوَجَلَّ إلا نزع فيها بيتًا من الشعر، وكان يقول: إذا أعياكم تفسير آية من كتاب الله فاطلبوه في الشعر، فإنه ديوان العرب» (2).
ولذلك فإن ما استدل به الصحابة والتابعون من الشواهد في تفسير القرآن الكريم، يعد من الأدلة الدامغة التي تدحض ما ذهب إليه منكرو الشعر الجاهلي، وقد ذكر ابن الأنباري أنه قد جاء عن الصحابة والتابعين كثيرًا الاحتجاج على غريب القرآن ومشكله بالشعر (3).
هذه قصة قضية الانتحال كما جاءت عند القدماء والمعاصرين من المستشرقين والعرب، وقد كان في إثارة هذه القضية خير كبير، فقد استقر الأمر على ضوء الدراسات الحديثة على تأصيل الشعر الجاهلي، ونفي المبالغة في وصمه بالانتحال والوضع، فقد ظهرت طيلة هذه الفترة التي امتدت منذ مقالة مرجليوث حتى اليوم دراسات كثيرة، فكتبت مباحث حول الشعر الجاهلي وموضوعاته وشعرائه، وحققت وطبعت دواوين أكثر الجاهليين، وقامت دراسات أكاديمية علمية حول تاريخ الجاهلية واللغة العربية واللهجات وأديان العرب، وكل الموضوعات التي أثيرت حولها الشبهات، كما ألفت كتب علمية حول أعلام الشعراء الجاهليين، والرواة الكبار، وبذلك لم يعد هناك مجال لرجم الشعر
(1) الموافقات 2/ 88.
(2)
شرح ديوان الحماسة للتبريزي 1/ 3.
(3)
انظر: إيضاح الوقف والابتداء 1/ 100.
الجاهلي بالوضع المبني على الظنون والشكوك والافتراضات. وقد مرت الكتب التي كتبت في الرد على طه حسين، وقد أفرد الدكتور ناصر الدين الأسد كتابًا لتوثيق الشعر الجاهلي أتى فيه على كل الشبهات وردها، وهو كتابه «مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية» .