الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: الشاهد الشعري المُحتجُّ بهِ في التفسير
.
كان لأهلِ العربيةِ سَبْقٌ وعنايةٌ بوضع المعايِيْرِ الدقيقةِ التي يُقبلُ الشاهدُ الشعري أو يُرفض بناءً عليها، وذلك للحدِّ من التوسعِ في قبَولِ ما لا يُطمأَنُّ إليهِ منها، ولم يَخرُج المفسرونَ في كتبهم عن تلك المَعايِيْر التي وضعها علماء اللغة؛ للعلاقة الوثيقة بين اللغة والتفسير، وأَهمُّ هذه المعايير هي:
أولًا - المعيار الزمني:
وُضِعَ حدٌّ زمنيٌّ لما يصح الاحتجاج به من أقوال العرب شعرًا أونثرًا، فاتُّفِقَ على جَعْلِ منتصف القرن الثاني للهجرة نِهايةً لعصر الاحتجاج بشعراء الحاضرة، وذكروا أَنَّ آخرَهمْ إبراهيمُ بنُ هَرْمَة (ت 176 هـ)(1)، وجَعْلِ منتصف القرن الرابع الهجري حدًا لشعراء البادية (2).
وقد حاول العلماء بالشعر واللغة، تصنيف الشعراء الذين يُحتجُّ بِهم إلى طبقاتٍ، كما صَنَعَ علماءُ الحديثِ (3)، وقد صنف في ذلك الأصمعي كتابه فحولة الشعراء، فقَسَّمَ الشعراء طَبَقتيْن: الفحول، وغير الفحول.
(1) هو إبراهيم بن علي بن سَلمة بن عامر بن هَرْمَةَ، ينتهي نسبه إلى الحارث بن فهر، وفهرُ أصلُ قريشٍ، شاعرٌ مشهورٌ من مُخضرمي الدولتين الأموية والعباسية، ولد سنة 90 هـ، ولشعره قيمةٌ عند اللغويين والنحويين، إذ وقفوا بالاستشهاد بالشعر على مسائل اللغة والنحو عنده، توفي سنة 170 وقيل 176 هـ. انظر: الشعر والشعراء 2/ 753، طبقات الشعراء لابن المعتز 20، الأغاني 4/ 367، الخزانة 1/ 204
(2)
انظر: المزهر 2/ 484
(3)
انظر: طبقات الشعراء في النقد الأدبي للدكتور جهاد المجالي 35.
فجاء بعده محمد بن سلَّام (ت 231 هـ)(1) واستفاد من تقسيم الأصمعي، وحذا حذوه في تخير طبقة الفحول من الشعراء، وقال:«فاقتصرنا من الفحول المشهورين على أربعين شاعرًا» (2). وقد قسم ابن سلَاّم الشعراءِ إلى طبقتين:
الأولى: طبقات فحولِ الجاهلية.
والثانية: طبقات فحول الإسلام.
وفرَّقَ الشعراءَ المخضرمين على هاتينِ الطبقتيْن (3). غير أن تقسيمه هذا لم يحظ بالقبول لكونه تقسيمًا رأسيًا مغلقًا (4). والذي استقرَّ عليه أمر تقسيمِ الشعراءِ حسبَ عصورهم الزمنية، هو تقسيمهم إلى أربع طبقات:
- الطبقة الأولى: طبقة الشعراء الجاهليين، وهم من عاش قبل الإسلام كامرئ القيس بن حُجر، وزُهَيْر بن أبي سُلْمى، وغيرهما.
- الطبقة الثانية: طبقةُ المخضرمين، وهم الذين أدركو الجاهلية والإسلام كلبَيدِ بن ربيعةَ، وحَسَّانِ بن ثابت رضي الله عنهما.
- الطبقة الثالثة: طبقة الإسلاميين، وهم الذين عاشوا في صدر الإسلام ولم يدركوا الجاهلية، كجرير، والفرزدق.
- الطبقة الرابعة: طبقة المُولَّدين، ويقال لهم المُحدَثون كبشارِ بن برُد (5)،
(1) هو أبو عبد الله مُحمَّدُ بن سلَاّم بن عُبيد الله بن سالم البَصريُّ الجُمَحيُّ، علَاّمةٌ بالشعر واللغة، من تلاميذه ثعلب وغيره، من أشهر كتبه المطبوعةِ كتاب طبقات فحول الشعراء، توفي سنة 231 هـ ببغداد. انظر: تاريخ بغداد 5/ 327، إنباه الرواة 3/ 143.
(2)
طبقات فحول الشعراء 1/ 24.
(3)
انظر: طبقات فحول الشعراء 1/ 24.
(4)
انظر: طبقات الشعراء في النقد الأدبي للدكتور جهاد المَجالي 67.
(5)
هو أبو معاذ، مولى بني عُقَيل، أحد الشعراء المطبوعين العُميان، ورأس الشعراء المُحدَثين، نشأ في البصرة وانتقل إلى بغداد، توفي سنة 168 هـ انظر: الشعر والشعراء 2/ 757، تاريخ بغداد 7/ 112.
وأبي نُواس (1)، وغيرهما. (2)
- فأَمَّا طَبقةُ الشعراءِ الجاهليين، والمُخضرَمين، فقد أَجْمعَ أهلُ العربيةِ على الاستشهادِ بشعرِهم، ونُقل الإِجْماعُ على ذلك (3).
- وأما طبقة الإسلاميين، فقد انقسم أهل العربية في صحة الاستشهاد بشعرهم إلى فريقين:
الأول: الذين يردُّونَ الاستشهاد بشعر هذه الطبقة. ويُمثِّلُ هذا الفريق أبو عمرو بن العلاء (4)، وعبدالله بن أبي إسحاق الحضرميُّ، والأصمعيُّ (5)، حيث كانوا يُلَحِّنونِ الفرزدقَ، والكُميتَ، وذا الرُّمَّةِ وأَضرابَهم، وهم من شعراء الإسلام (6). ويذكر الأصمعيُّ أَنَّهُ جلس إلى أبي عمرو بن العلاء ثَماني حِججٍ فما سَمعه يَحتجُّ ببيتٍ إسلامي (7). ويُعلِّقُ ابنُ رشيق على ذلك فيقول: «هذا مذهب أبي عمرو وأصحابه،
(1) هو الحسن بن هانئ، مولى الحكم بن سعد العشيرة، من اليمن، نشأ في البصرة، وطلب فنون العلم، أكثر من وصف الخمر وسبق إلى معان لم يسبقه إليها أحد في وصفها. انظر: الشعر والشعراء 2/ 796.
(2)
انظر: العمدة في صناعة الشعر ونقده 1/ 179، خزانة الأدب 1/ 5 - 6.
(3)
انظر: خزانة الأدب 1/ 4.
(4)
هو أبو عمرو بن العلاء بن عمَّار بن العريان التميمي، اختلف في اسمه على واحد وعشرين قولًا، منها: أبو العلاء، وزبان، والعريان، ويحيى. كان أعلم الناس بالقراءات، والعربية، والشعر، وأيام العرب، وهو أوثق رواة الشعر، وبلغت كتبه التي كتبها إلى سقف بيته، ثم تنسك فأحرقها. توفي عام 154 هـ. ومن تلاميذه أبو عبيدة والأصمعي، وغيرهما. انظر: طبقات اللغوويين والنحويين 35، معجم الأدباء 11/ 156، سير أعلام النبلاء 6/ 407، وقد كتب عنه الدكتور حسن بن محمد الحفظي رسالة الماجستير بعنوان «آراء أبي عمرو بن العلاء النحوية واللغوية» بكلية اللغة العربية بجامعة الإمام عام 1402 هـ.
(5)
انظر: العمدة في صناعة الشعر ونقده 1/ 90، وإنباه الرواة 4/ 133.
(6)
انظر: سؤالات أبي حاتم 69، الموشح 236، 238، 249، 250، 268، 282، وطبقات اللغويين والنحويين 244 - 245، ومجالس العلماء 150.
(7)
انظر: العمدة في صناعة الشعر ونقده 1/ 90، وإنباه الرواة 4/ 133.
كالأصمعيِّ وابنِ الأعرابيِّ، أَعني أَنَّ كلَّ واحدٍ منهم يذهبُ في أهلِ عصرهِ هذا المذهب، ويقدم من قبلهم، وليس ذلك إِلَّا لحاجتهم في الشعر إلى الشاهدِ، وقِلَّةِ ثقتهم بِما يأَتي به المُولَّدون، ثُمَّ صارت لجاجةً». (1) وقصةُ عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي مع الفرزدق مشهورة (2).
الثاني: الذين يرون صحة الاستشهاد بشعر هذه الطبقة، وهم جُمهورُ أهلِ اللغةِ كالخليلِ بن أحْمد (3)، ويونس بن حبيب، وسيبويه وغيرهم. فقد كان يونسُ يُفضِّلُ الفرزدق، ويقول:«لولا الفرزدقُ لذهب شعرُ العرب» (4). وابن سلَّام (231 هـ) يفضلُ جَريرًا والفرزدقَ، على ذي الرمةِ، ويقول عنه:«هو دُونَهما ويساويهما في بعضِ شعره» (5). ويقول البغداديُّ: «وقد أَجْمعَ علماءُ الشِّعْرِ على أَنَّ جريرًا والفرزدق والأخطلَ، مُقدَّمونَ على سائر شعراء الإسلام» (6).
والذي استقرَّ عليه الأمرُ، وسار عليه المفسرون واللغويون، جوازُ الاستشهاد بشعر هذه الطبقة، وهو ما سار عليه أهل العربية (7)، وكثير من شواهد التفسير منسوبةٌ لشعراءِ هذه الطبقةِ، فهم في كتب التفسير يكادون
(1) العمدة في صناعة الشعر ونقده 1/ 91.
(2)
انظر: الشعر والشعراء 1/ 89، 480، معاني القرآن للفراء 2/ 183، وخزانة الأدب 5/ 144 - 145.
(3)
احتجَّ الأصبهانيُّ على أَنَّ كتاب العين لم يكن كُلُّه من تصنيف الخليل بقوله: «ومِمَّا يدلُّ على هذا استشهادهم بأشعارِ المولَّدين، مِمَّا لم يكن الخليلُ يلتفت إليه، ولا يَستشهدُ بِمِثلهِ. وقد علَّمت في العين والحاء والراء وغيرها على أكثر من أربعين بيتًا للمحدثين، مثل سليمان بن يزيد العدوي، وصالح بن عبدالقدوس، وسابق وبشار ومن في طبقتهم، بل وجدت فيه شيئًا من شعر أبي دلامة، والحسن بن هانئ، وهذا أدل دليل على أنَّ الكتابَ مُفْسَدٌ مَزيدٌ فيه» . انظر: شرح ما يقع فيه التصحيف 58 - 59.
(4)
خزانة الأدب 1/ 220.
(5)
طبقات فحول الشعراء 2/ 550 - 551.
(6)
خزانة الأدب 1/ 76.
(7)
انظر: خزانة الأدب 1/ 5.
يتساوون - من حيث عدد الشواهد - مع طبقة الجاهليين، ويزيدون على طبقة المخضرمين (1).
ففي «مجاز القرآن» لأبي عبيدة احتج بثلاثةٍ وخَمسينَ شاعرًا من طبقة الإسلاميين، في حين احتجَّ بِخمسةٍ وستين شاعرًا من طبقةِ الجاهليين، وواحدٍ وأربعين شاعرًا من المُخضرمين. واحتجَّ الفراء في «معاني القرآن» باثني عشر شاعرًا إسلاميًا، مقابلَ الاحتجاج بتسعةِ شعراء من العصر الجاهلي وثَمانيةٍ من المخضرمين. والطبريُّ في تفسيره احتجَّ بثلاثةٍ وستينَ شاعرًا إسلاميًا. ولذلك يقول البغدادي عن طبقة الإسلاميين:«والصحيحُ صحةُ الاستشهاد بكلامها» (2).
والمظنونُ بالعلماء الذين لم يستشهدوا بشعر هؤلاء الشعراء أَنَّهم إِنَّما كانوا يُظهِرونَ التعصبَ للمُتقدمين ترغيبًا للناس في حفظ أشعارهم، وروايتِها؛ لأنَّها حُجةٌ في لغةِ العَربِ، فإِنَّ الشعرَ القديمَ - حتى الردئَ منهُ - صالِحٌ للاحتجاجِ به في تثبيتِ اللغةِ وقواعدِها، وتفسير القرآن والسنة، بِخلافِ شعر المتأخر فإِنَّهُ وإن كانَ جيّدًا لا يصلحُ للحُجةِ، فكان العلماء يرون أَنَّ حفظ أشعار المتقدمين والترغيب في حفظها وروايتها وإِنْ كان فيها ما هو رديءٌ من الفروض المتعينة لحفظ لغة القرآن، بِخلاف أشعار المتأخرين، يدلكَ على هذا أَنَّ العلماء كانوا يعيبون كثيرًا من أشعار المتقدمين من شعراء الجاهلية ومَنْ بعدَهم كما تراه في كتاب الموشح للمرزباني، وفي صدر كتاب الوساطة للجرجاني (3). ويدلك على ذلك أَنَّ رجلًا أَنشدَ ابنَ الأعرابيِّ شِعرًا لأبي نُواس، فسكتَ ابنُ الأعرابي، فقال له الرجلُ: أَما هذا مِنْ أحسنِ الشِّعرِ؟ قال: بَلى، ولكنَّ القَديمَ أَحبُّ إليَّ (4).
(1) انظر: «مدى اعتماد المفسرين على الشاهد الشعري» من هذا البحث ص 207.
(2)
خزانة الأدب 1/ 6.
(3)
انظر: الموشح 1، الوساطة 4 - 5.
(4)
انظر: الموشح 384.
- وأما الطبقة الرابعة وهي طبقة المولَّدينَ فلم يستشهدوا بشعرهم (1)، وقد نقل السيوطيُّ الإجْماعَ على ذلك (2). والمولَّدون هم الذين لم يتمحضوا للعرب من الشعراء، فـ «رجلٌ مولَّد، إذا كان عربيًا غيرَ مَحضٍ» (3)، «وإِنَّما سُمِّي المُولَّدُ من الكلامِ مُولَّدًا إذا استحدثوهُ، ولم يكنْ من كلامهم فيما مَضى» (4). «والمُولَّدُ المُحدَثُ من كل شيء» (5). وهذا يدلُّ على أَنَّ المولَّدَ يُقصدُ به الشخصُ المُحدَثُ أيضًا، سواءً أكانَ عربيَّ النَّسبِ صراحةً أم لا، فقد كان أبو عمرو بن العلاء (154 هـ) يَعُدُّ الأخطلَ وجريرَ والفرزدق من المُحدَثين، ولم يَرْضَ الاستشهادَ بشعرهم. ومثله أبو عمرو الشيباني (206 هـ) الذي يقول:«لولا أَنَّ أبا نواس (198 هـ) أفسدَ شِعرَهُ بهذه الأقذارِ لاحتَجَجْنا به؛ لأَنَّهُ مُحكمُ القولِ لا يُخطئ» (6). وأبو عبيدة مَعْمرُ بن المُثَنَّى (210 هـ) يقول: «افتتح الشعرُ بامرئِ القيسِ، وخُتِمَ بابنِ هَرْمة (176 هـ)» (7). والأصمعي (216 هـ) يقول: «ساقةُ الشعراء ابن ميَّادةَ، وابنُ هَرْمَة، ورؤبة، وحَكَمُ الخُضَريُّ (150 هـ) (8)، ومَكينُ العذري (160 هـ)، وقد رأيتهم أجمعين» (9). في حين أَنَّهُ يَمنعُ الاستشهاد بشعر شعراء قبل هؤلاء مثل الكميت والطرمَّاح.
ومن خلال أقوال أهل العربية في التحديد الزمني لنهاية عصر الاحتجاج بالشعر، وجواز الاستشهاد به في اللغة والتفسير، يظهر اختلافهم في وضعِ تاريخٍ دقيقٍ، يكون فاصلًا بين مَنْ يصحُّ الأخذُ عنهم،
(1) انظر: خزانة الأدب 1/ 4.
(2)
انظر: الاقتراح 54.
(3)
الصحاح 2/ 554.
(4)
لسان العرب 3/ 469 (ولد).
(5)
لسان العرب 3/ 467 (ولد).
(6)
خزانة الأدب 1/ 348.
(7)
المزهر 2/ 484.
(8)
هو الحَكَمُ بن معمر بن قنبر من قيس عيلان، شاعر إسلامي هجَّاء، كان يهاجي ابن ميادة توفي سنة 150 هـ. انظر: الأصمعيات 32، الأغاني 2/ 94، معجم الأدباء 10/ 240.
(9)
الشعر والشعراء 2/ 753، وخزانة الأدب 1/ 8، 425.
ومَن لا يصحّ، ولذلك يُمكنُ القول: إِنَّ المعتدلين مِنْ أهلِ العربيةِ قد ارتضوا تاريخًا وَسَطًا على وجه التقريبِ بين ذي الرمةِ المتوفى سنة 117 هـ من جهةٍ، وإبراهيم بن هَرمة المتوفى سنة 176 هـ من جهة أخرى، فجعلوا سنة 150 هـ وهي منتصف القرن الثاني الهجري فيصلًا في خلافهم، يأخذون بشعر مَنْ عاشَ قبل هذا التاريخ، ويُعرِضونَ عن شعر من عاش بعده، وعلى هذا يكون الشاعرُ ابن ميادة المتوفى سنة 149 هـ (1) آخرَ شعراءِ العربية الذين يَجبُ أَنْ يُتوقفَ عندهُ في الاحتجاج والاستشهادِ، وإن كان الأصمعي يرى التوقف عند ابن هَرْمَة.
غير أَنَّ هذا الإجِماعَ الذي ذكره السيوطي على عدم الاستشهاد بشعر المولَّدين قد خرَجَ عليه بعض العلماء، فقد نقلَ عَن عددٍ من أهل العربية الاستشهاد ببعض الشواهد لشعراء من هذه الطبقة، غير أَنَّهُ لم يكن اعتمادًا كليًا على هذه الشواهد، وإِنَّما هو أشبهُ ما يكون بالاستئناس، حيث يرد الشاهد مقترنًا بغيره، أو بقراءةٍ شاذةٍ، فضلًا عن أَنَّها شواهدُ قليلةٌ لا تُمثِّلُ نسبةً ذات دلالة في هذا الشأن. فقد استشهد أبو عبيدة عند تفسيره لقوله تعالى:{لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47)} [الصافات: 47](2) بأَنَّ معناها: ليس فيها غَول، والغَولُ أَن تغتالَ عقولَهم. واستشهد بقول مطيع بن إياس (3):
ومَا زالتْ الكأسُ تغتالُنا
…
وتذهبُ بالأَولِ الأولِ (4)
(1) اختُلف في سنة وفاة ابن ميادة (الرماح بن أبرد الرياحي)، فقيل سنة 136 هـ، وقيل سنة 149 هـ، وقيل غير هذا. وقد ناقش هذه الأقوال الدكتور حنا جميل حداد (محقق شعر ابن ميادة) وأثبت صحة قول من قال إنه توفي سنة 149 هـ. انظر: ابن ميادة وشعره 50 - 53.
(2)
الصافات 47.
(3)
هو مطيع بن إياس الكنائي، من بني ليث بن بكر، مدح المنصور وابنه جعفر، وهو من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية، توفي سنة 166 هـ انظر: معجم الشعراء للمرزباني 454، خزانة الأدب 9/ 449.
(4)
مجاز القرآن 2/ 169.
ومُطيعُ بنُ إياسٍ من المولَّدين، وقد تابع أبا عبيدة في الاستشهاد بهذا الشاهد الطبريُّ (1)، والقرطبيُّ (2) عند تفسيرهما للآية.
وأمَّا الفراء فلم يرد في معانيه الاستشهادُ بشعر المولَّدين إلا بشاهدٍ للشاعر إبراهيم بن هرمة (3)، وشاهدٍ للقاسم بن مَعْنٍ (4)، وبقية الشواهد لشعراء من الطبقات الثلاث الأولى.
وأما الطبري في تفسيره فقد التزم بالاستشهاد بأشعار الطبقات الثلاث الأولى بصرامة، وآخر الشعراء الذين استشهد بشعرهم هم إبراهيم بن هرمة (5)، وابن ميادة الذبياني (6)، وأبو نُخيلة السعدي الراجز (7). وهؤلاء من الذين ذكر العلماء أنه قد خُتِمَ بِهم الشعرُ، وشاهدٍ واحد لمطيع بن إياس لم ينسبه الطبري (8).
وأما ابن قتيبة فلم يستشهد في كتابيه «تأويل مشكل القرآن» و «غريب القرآن» بأي شاهدٍ لشاعر مولَّد، مع أنه قد أورد عددًا كبيرًا من أشعارهم في كتبه الأخرى مثل «عيون الأخبار» و «الشعر والشعراء» .
وأَمَّا الزمخشريُّ فقد احتج ببيت لأبي تمام على تعدية الفعل «أظلم» عند تفسيره لقوله تعالى: {وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} [البقرة: 20](9)، حيث قال: «وأظلم: يحتمل أن يكون غير متعدٍ وهو الظاهر، وأن يكون متعديًا منقولًا من ظلم الليل، وتشهد له قراءة يزيد بن قطيب:(أُظْلِمَ) على ما لم يسم فاعله (10).
(1) انظر: تفسير الطبري (هجر) 19/ 532.
(2)
انظر: الجامع لأحكام القرآن 15/ 54.
(3)
انظر: معاني القرآن 1/ 57.
(4)
انظر: معاني القرآن 1/ 136.
(5)
انظر: تفسير الطبري (شاكر) 7/ 386، تفسير الطبري (هجر) 16/ 324، 17/ 30.
(6)
انظر: تفسير الطبري (شاكر) 11/ 511.
(7)
تفسير الطبري (شاكر) 1/ 421.
(8)
انظر: تفسير الطبري (هجر) 19/ 532.
(9)
البقرة 20.
(10)
نقلها أبو حيان عن الزمخشري في البحر المحيط 1/ 90، وفي النهر الماد كذلك له =
وجاء في شعر حبيب بن أوس (1):
هُما أظلما حاليَّ ثُمَّتَ أَجليَا
…
ظلاميهما عن وجهِ أمردَ أشيبِ (2)
وهو وإن كان مُحْدَثًا لا يُستشهد بشعره في اللغة، فهو من علماء العربية، فاجعل ما يَقولهُ بِمَنْزِلةِ ما يرويه. أَلا ترى إلى قول العلماء: الدليلُ عليه بيت الحماسةِ، فيقتنعون بذلك لوثوقهم بروايته وإتقانه» (3). فهو هنا أورد البيت بعد القراءة الشاذة، فهو لم يورده بِمُفرده مع أنه احتج لما ذهب إليه باعتماد العلماء لروايته، فقاس على ذلك لغته، والغريبُ أَنَّ الزمخشريَّ مع قوله هذا في أبي تَمَّام قد خَطَّأَ أَبا نُواس في بعضِ شعرهِ مع فصاحته وتقدُّمِه (4). ومهما يكن من أمر فإن عدد الشواهد التي أوردها العلماء من أشعار المولدين لا تُمثِّلُ شيئًا، بالنسبة للأبيات التي وردت لمن قبلهم.
ويَحسُنُ التنبيه إلى أَنَّ عدم الاستشهاد بشعر المولَّدينِ لا يعني عدَمَ فصاحتهم، فقد نُقِلَتْ نقولٌ كثيرة عن أئمة علماء اللغة تُزَكِّي شعرَ هؤلاء المولَّدين. ومن ذلك تزكية أبي عمرو بن العلاء لشعر بشار بن برد (5). وعندما أنشدَ مروانُ بن أبي حفصةَ (ت 182 هـ) بعضَ شعرهِ لِخَلف
= 1/ 68، وفي المحرر الوجيز 1/ 139 نسبها للضحاك. ولم يتعرض لها ابن جني في كتابه «المحتسب» .
(1)
هو حبيب بن أوس الطائي المعروف بأبي تمام، شاعر عباسي توفي سنة 231 هـ. انظر: وفيات الأعيان 2/ 11
(2)
ديوان أبي تمام 31، وفي شرح التبريزي لديوان أبي تمام 1/ 150:«جعل (أظلم) ها هنا متعديًا، وذلك قليل في الاستعمال، وهو في القياس جائز، وهو على قياس من قال: ظَلَمَ الليلُ، في معنى أظلمَ. فإن ادّعي أن (أظلم) ها هنا غير متعدٍ، وأن (حاليَّ) منصوب كانتصاب الظرف، فإن قوله أجليا ظلاميهما يدفع ذلك؛ لأنه عدَّى (أجليا) إلى الظلامين» .
(3)
الكشاف 1/ 86 - 87.
(4)
انظر: خزانة الأدب 8/ 315 - 316، وشرح أبيات المغني 6/ 74.
(5)
انظر: الأغاني 3/ 143.
الأَحْمر، ويونس بن حبيب، أثنيا عليه ثناءً عاطرًا، بل فضَّلاه على بعض شعر الأعشى، حتى أَنَّ مروان نفسه قد أنكر ذلك التفضيل (1).
ويقول أبو عبيدة: «ذهبت اليمنُ بِجيِّد الشعرِ في قَديمِه وحديثه، امرؤ القيس في الأوائل، وأبو نواس في المُحدَثين» (2). ويقول: «أبو نواس في المُحدثين مثل امرئ القيس في المتقدمين، فَتَحَ لهم هذه الفِطَنَ، ودَلَّهمْ على المعاني، وأَرشدَهُم إلى الطريقِ، والتصرفِ في فُنُونِه» (3). ويقول الجاحظُ: «ما رأيتُ أحدًا كان أعلمَ باللغةِ من أبي نواس، ولا أفصحَ لَهجةً، مع حلاوةٍ ومُجانبةٍ للاستكراه» (4). وقال ابن قتيبة عن أبي نواس: «وقد كان يُلَحَّنُ في أشياءَ من شِعْرِهِ، لا أُراه فيها إلا على حجة من الشعر المتقدم، وعلى علة بينةٍ من عللِ النحو» (5).
بل إِنَّ ابن السِّيدِ البَطَليوسي قد ذهب إلى أنه يكون للاستشهاد بشعر بعض المولَّدين وجهٌ مقبولٌ، وإن كان يتَّفق مع جُمهورِ العلماء في أَنَّ الأصلَ عدمُ الاحتجاج بشعرهم. فقال بعد أن استشهدَ بعددٍ من الشواهد الجاهلية التي تؤيد صحة القول بصواب إضافة لفظةِ «الآل» إلى الضمير في الصلاة على النبي وآَلِهِ. قال: «وقد قال أبو الطيب المتنبي، وإن لم يكن حُجةً في اللغة:
واللهُ يُسعِدُ كُلَّ يَومٍ جَدَّهُ
…
ويَزيدُ مِنْ أَعدائِهِ في آَلِهِ (6)
وأبو الطيّب وإِن كان مِمَّن لا يُحتجُّ به في اللغةِ، فإنَّ في بيته هذا حُجةٌ من جهةٍ أُخرى. وذلكَ أَنَّ النَّاس عُنوا بانتقادِ شعرهِ، وكان في عصرهِ جَماعةٌ من اللغويِيْنَ والنَّحويِيْن، كابنِ خالويهِ، وابن جِنِّي وغَيْرِهما، وما رأيتُ منهم أحدًا أنكرَ عليه إضافةَ «آل» إلى المُضمرِ،
(1) انظر: الأغاني 10/ 102 - 103.
(2)
الأغاني 25/ 38.
(3)
الأغاني 25/ 39.
(4)
الأغاني 25/ 13.
(5)
الشعر الشعراء 2/ 818.
(6)
انظر: ديوانه 1/ 421.