الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فالشواهد الشعرية التي استشهد بها أبو عبيدة، والفراء، والأخفش استشهد بها الطبري وابن عطية والقرطبي بعد ذلك، مع الإشارة إلى مصدرها أحيانًا، وإغفالها في أحيان كثيرة.
ويمكن الحديث عن توثيق أصحاب غريب القرآن ومعانيه للشاهد الشعري في كتبهم من جانبين:
الأول: توثيق الشواهد الشعرية من حيث الرواية. وهو العناية بصحة نسبة هذه الشواهد إلى قائليها، أو إلى قبائلهم، ومقدار ما نسبه أصحاب هذه الكتب من الشواهد، ومنهجهم في ذلك.
الثاني: توثيق الشواهد الشعرية من حيث الدراية. ويدخل فيه جهودهم في ضبط ألفاظ الشواهد، وشرح غامضها، ونقد رواياتها من حيث متونها.
القسم الأول: توثيق الرواية:
1 - نسبة الشاهد إلى قائله:
عُنِيَ بعضُ المصنفين في معاني القرآن وغريبه بتوثيق نسبة الشواهد الشعرية إلى قائليها، وأغفل بعضهم هذا التوثيق. وقد قمتُ بعمل جدول إحصائي للنظر في جهود هؤلاء العلماء في نسبة الشواهد الشعرية لقائليها، مع استبعاد ما نسبه المحققون لهذه الكتب من الشواهد، فكانت على النحو التالي:
م
…
الكتاب
…
عدد شواهده
…
المنسوب
…
غير المنسوب
…
نسبة المنسوب
1
…
مَجاز القرآن لأبي عبيدة
…
952
…
551
…
401
…
57.88 %
2
…
معاني القرآن للفراء
…
785
…
72
…
713
…
9.17 %
3
…
تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة
…
361
…
296
…
65
…
81.99 %
4
…
غريب القرآن لابن قتيبة
…
182
…
149
…
33
…
81.87 %
5
…
معاني القرآن للأخفش
…
317
…
30
…
287
…
9.46 %
ومن هذا الجدول الإحصائي يمكن الخروج بالنتائج التالية:
1 -
يُعَدُّ أبو عبيدة أكثر المصنفين حرصًا على نسبة الشواهد الشعرية للشعراء في كتبه، وخاصةً كتابه «مَجاز القرآن» ، وقد كان للشواهد الشعرية التي اشتمل عليها هذا الكتاب أَهمية كبيرة في كتب غريب القرآن ومعانيه، وكتب التفسير التي صنفت بعده وغيرها من العلوم الأخرى مثل اعتماد البخاري عليه في غريب القرآن من كتاب التفسير من صحيحه.
ولذلك فإن أبا عبيدة قد أرسى بما أورده في كتابه المجاز دعائم قوية للاستشهاد بالشاهد الشعري في التفسير، انتفع بها كُلُّ مَنْ سار على هذا المنهج اللغوي في تفسير القرآن، أو كان لهذا المنهج جانب من العناية فيه، كما في تفسير الطبري وابن عطية والقرطبي وغيرهم. وقد كثرت تعقبات الطبري وابن عطية وغيرهما لبعض تفسيرات أبي عبيدة اللغوية لمفردات القرآن الكريم، غير أن هذا لم يمنعهم من السير على المنهج اللغوي الذي سار عليه أبو عبيدة، والاستشهاد بالشعر في تفسير معاني الألفاظ القرآنية.
2 -
يأتي بعد أبي عبيدة في العناية بنسبة الشواهد الشعرية إلى قائليها ابن قتيبة في كتابيه «غريب القرآن» و «تأويل مشكل القرآن» ، وهو وإن كانت شواهده أقل من حيث العدد من أبي عبيدة والفراء إلا أن نسبة الشواهد التي نسبها لقائليها كبيرة، فقد نسب من شواهده في غريب القرآن ما نسبته 81.87 % من مجموع شواهده التي بلغت 182 شاهدًا. وفي تأويل مشكل القرآن بلغت شواهده 361 شاهدًا نسب منها 81.99 %، وهي نسبة كبيرة تدل على عنايته بتوثيق شواهده الشعرية ونسبتها لقائليها. وليس ذلك غريبًا عليه، فقد كان واسع الرواية للشعر عن شيخه أبي حاتم السجستاني، وقد صنف تصانيف كثيرة في أخبار
الشعر والشعراء تدل على سعة روايته واطلاعه ومعرفته بالشعر. (1)
3 -
يأتي بعد ذلك الفراء في كتابه «معاني القرآن» ، حيث جعل الشاهدَ الشعريَّ دليلًا قويًا يستند إليه في شرح غريب ألفاظ القرآن، وشرح تراكيبه، وإن كان الشعر عنده يأتي في مرتبةٍ متأخرةٍ بعد استشهاده بآيات القرآن والمنقول في التفسير عن السلف. غير أن الفراء قد أغفل نسبة معظم الشواهد الشعرية في كتابه المعاني، ولم يُعْنَ بتوثيق نسبتها لقائليها، فقد نسب الفراء ما نسبته 9.17 % فقط من مجموع شواهده التي بلغت 785 شاهدًا، وهي نسبة ضئيلة، مِمّا جعل بعضَ الباحثين يذهب إلى أنَّ الفراء كان هو رائدَ هذا المنهج الذي سار عليه كثير من المفسرين بعد ذلك، وهو عدم العناية بنسبة الشواهد الشعرية لقائليها كما عند الزمخشري في الكشاف، فقال: «ويبدو أن الفراء كان صاحب الأثر الأكبر في هذا الأمر؛ لأنه لم ينسب أكثر أبياته التي رواها وتوسع في الأخذ بها عن الأعراب، فظلَّ صنيعهُ في المُفسِّرينَ سنةً قائمةً، ومعظم شواهده التي رواها في التفسير غير منسوبة». (2) ولكن بعد طباعة معاني القرآن للأخفش، وموازنته بكتاب الفراء يظهر أن الأخفش هو صاحب هذا المنهج في إغفال نسبة الشواهد الشعرية، فقد ظهر بإحصاء نسبة الشواهد المنسوبة في كتابه أنه لم ينسب من شواهده التي بلغت 317 شاهدًا إلا ثلاثين شاهدًا، وأغفل 287 شاهدًا، ونسبة المنسوب لديه لا تمثل إلا 9.46 % من مجموع شواهده، وهي نسبة تكاد تتطابق مع نسبة ما نسبه الفراء بعده وهي 9.17 % من مجموع شواهده. وذلك لأن الفراء قد بنى كتابه على كتاب الأخفش كما ذكر الأخفش نفسه، حيث سئل عن
(1) انظر: أبو حاتم السجستاني الراوية للدكتور سعيد الزبيدي 44، عيون الأخبار لابن قتيبة 4/ 19 - 37، كتاب المعاني الكبير له 1/ مقدمة المعلمي، الشعر والشعراء 1/ 48.
(2)
الأدوات النحوية في كتب التفسير لمحمود الصغير 797.
ذلك، فذكر اتصاله بالكسائي وقال:«فلما اتصلت الأيام بالاجتماع سألني - أي الكسائي - أن أؤلف له كتابًا في معاني القرآن، فألفت كتابًا في المعاني، فجلعه أمامه، وعمل عليه كتابًا في المعاني، وعمل الفراء كتابًا في ذلك عليهما» . (1) مِمَّا يعني سَبْقَ كتاب الأخفش على كتابي الكسائي والفراء، وتأثر الفراء بكتاب الأخفش في المنهجية، حتى في توثيقه للشاهد الشعري الوارد فيه، فقد سار على طريقتهِ في إغفالِ مُعظمِ شواهدهِ، وقد قَبِلَ العلماءُ ما رواه الفراء عن العربِ ثقةً بنقلهِ وعدالته.
4 -
يُعَدُّ أصحاب كتب غريب القرآن - أبو عبيدة، وابن قتيبة- أكثر عناية بنسبة الشاهد الشعري لقائله كما اتضح من الجدول، في حين لم يَنْسِب أصحابُ معاني القرآن - وهم الفراء، والأخفش - إلا عددًا قليلًا من شواهدهم الشعرية. فقد نسب الفراء ما نسبته 9.17 % من مجموع شواهده التي بلغت 785 شاهدًا، ولم ينسب الأخفش إلا ما نسبته 9.46 % من مجموع شواهده التي بلغت 317 شاهدًا، واختلف عنهم ابن قتيبة في تأويل مشكل القرآن فنسب ما نسبته 81.99 % من شواهده التي بلغت 361 شاهدًا، فاختلف بذلك عن أصحاب كتب المعاني، وهو ليس من كتب المعاني على وجه الدقة، ولم يعده أحد منها، وإنما أضفته للدراسة لكونه مُكمِّلًا لكتابه الآخر غريب القرآن من جهة، ولكونه قد عُني بِجانب الدراسة البلاغية من جهةٍ أخرى بطريقةٍ سار عليها مَنْ بعده في دراسة أساليب القرآن الكريم كما فعل ابن فارس في كتابه «الصاحبي» (2) مع اعتماده في ذلك على الشاهد الشعري.
(1) بغية الوعاة 1/ 590.
(2)
طُبِعَ الصاحبي عدة طبعات، منها طبعة البابي الحلبي بتحقيق السيد أحمد صقر، وطبعة بدران للنشر ببيروت بتحقيق مصطفى الشويمي، وانظر بحث بعنوان: «الصاحبي لأحمد بن فارس: دراسة تحليلية مقارنة في أصول نشره ومنهج تحقيقه للدكتور عبد العزيز بن عبد الكريم التويجري، بمجلة الدرعية، العدد 29، ص 189 - 242.
وأَمّا الأخفشُ في كتابه «معاني القرآن» الذي سبق الفراء والكسائي بتأليفه، فقد ذكر المُحقِّقُ عدد شواهده الشعرية فقال:«يُمثِّلُ الشاهدُ من الشعر في «معاني القرآن» رُكنًا مُهمًّا من أركانه، ففي ثَمانٍ وثَمانين ومائة ورقة جرى الاستشهاد بالشعر في سبعة عشر وثلاثمائة موضع
…
ومن هذا يتضح أن الاستشهاد كان بمعدل ستة عشر موضعًا في كل عشر ورقات. وإذا كان التكرار في الاستشهاد قد حدث ستًا وثلاثين مرة، يصبح مجموع الشواهد واحدًا وثمانين ومئتي شاهد وهو عدد ضخم». (1)
ثُم أوضح المُحققُ منهجَ الأخفش في نسبة شواهده الشعرية فقال: «ولكن الأخفش أغفل عزو معظم هذه الشواهد، وقد أمكن والحمد لله تخريج سائرها، ولم يشذ عن هذا إلا القليل منها، أَمّا ما عزاه الأخفشُ فكان عدده ضئيلًا، ولم يتعد ذلك ثلاثين موضعًا» . (2)
5 -
كان اعتماد المؤلفين في غريب القرآن ومعانيه في نسبة الشواهد الشعرية على روايتهم الخاصة عن العرب والرواة والشعراء، ويُعَدُّ أبوعبيدة مِمَّن كان له سبقٌ في نسبة كثيرٍ من شواهدِ الشعر، اعتمدَ عليه مَنْ جاء بعدَه في تلك النسبة. بل إِنَّه روى عن العرب الأساليب النثرية المشهورة واعتمد العلماء نقله لها، مثل قولهم:«أكلوني البراغيث» . فقد سَمِعَه أبوعبيدة من العرب فقال: «العربُ تُجوِّزُ في كلامهم
…
أن يقولوا: أكلوني البراغيثُ، قال أبوعبيدة: سَمعتها من أبي عمرو الهذلي في منطقهِ». (3)
وهذا الشاهد النثري دائر في كتب النحو من غير نسبةٍ لقائلٍ حتى تندَّرَ به بعضهم على النحوييْن وأمثلتهم، قال الطناحيُّ رحمه الله تعليقًا على
(1) معاني القرآن للأخفش بتحقيق عبد الأمير الورد 1/ 57.
(2)
المصدر السابق 1/ 57.
(3)
مجاز القرآن 1/ 101، 174، 2/ 34.
هذا الشاهد: «ولم أجده منسوبًا لقائل، في واحدٍ من هذه الكتب التي أعرفها، وأولُ من رأيته نسبه إلى قائلٍ أبو عبيدة معمر بن المثنى
…
وإِنَّ في وجود هذا الشاهد وعزوه، في كتاب أبي عبيدة مَعْمَر بن المثنى، المتوفى بين سنتي 208 - 213 دليلًا على أَنَّ هذا الشاهد قديمٌ في كلام العرب، وأَنَّه ليس مِنْ صُنْعِ النحاةِ، حتى يُتَّخذَ مادةً للسخرية والإضحاك البارد! ». (1) وقد ذكره قبل أبي عبيدة وبعده عددٌ من النحويين دون عزوه إلى قائله. (2)
ومثل أبي عبيدة في الرواية عن العرب الفراءُ والأخفشُ، فمِمّا رواه الفراء عن العرب قول الشاعر:
علفتُها تِبنًا وماءً باردا
…
حتى شَتَتْ هَمّالةً عيناها
وهذا الشاهدُ غيرُ منسوبٍ لقائلٍ، وقد استشهد به المفسرون في مواضع كثيرة، وذكره الفراء فقال: «وأنشدني بعض بني أسد يصف فَرَسَهُ:
عَلفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً باردَا
…
حَتى شَتَتْ هَمَّالةً عيناها». (3)
وهذا الشاهد من الشواهد السائرة في كتب النحو والتفسير، والشاهد فيه «وماءً» حيث نصبَ الماءَ بفعلٍ مقدرٍ هو «أَسْقَيْتُها» ، ولم يذكره؛ لكون الماء لا يُعلفُ وإِنّما يُشرَبُ. وقد نقله واستشهد به معظم النحويين والمفسرين بعد ذلك. (4)
(1) كتاب الشعر للفارسي 2/ 473 تعليق رقم 4.
(2)
انظر: الكتاب لسيبويه 1/ 78، 3/ 209، الأصول لابن السراج 1/ 71، 136، كتاب الشعر للفارسي 2/ 473 تعليق رقم 4 فقد استوفى المحقق تخريج هذا الشاهد من كتب النحو.
(3)
معاني القرآن 1/ 14.
(4)
انظر: الخصائص 2/ 431، شرح شذور الذهب 240، شرح الأشموني 2/ 140، الإنصاف 488، خزانة الأدب 3/ 139 - 140 وقال: ولا يعرف قائله، ورأيت في حاشية نسخة صحيحة من الصحاح أنه لذي الرمة، ففتشت ديوانه فلم أجده فيه، معجم شواهد النحو الشعرية 773 رقم 3716، تفسير الطبري (هجر) 1/ 271، الجامع لأحكام القرآن 1/ 191، 12/ 27، 17/ 260.