الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وبالتخفيف يدلُّ على مَنْ قد ماتَ ومَنْ لَم يَمت بعدُ. قال ابن عطية: «هكذا هو استعمالُ العرب، ويشهد بذلك قول الشاعر .. ثم ذكره وشرحه فقال: «استراحَ: من الراحةِ، وقيل: من الرائحةِ، ولم يقرأَ أحدٌ بالتخفيف فيما لم يَمُت إلا ما رُوى البزيُّ عن ابن كثيرٍ: {ومَا هُوَ بِمَيْتٍ} والمشهورُ عنه التثقيلُ» (1).
ويظهر الفرق جليًا بين إيراد القُشيريِّ للشاهد الشعري اللغوي، وصرفهِ إلى معناهُ الإشاريِّ البعيدِ لتأييدِ تفسيره الإشاري الصوفي للآيات، وبين إيراد غيره من المفسرين لهذا الشاهد الشعري، واستشهادهم اللغوي به (2).
7 - الشواهد التاريخية:
كان تاريخ مغازي الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته مادةً من مواد المفسر يلجأ إليها حين يعرض لأسباب نزول الآية، أو للأخبار والحوادث المتصلة بها، وكل ذلك ينقل فيه أبيات من الشعر حجة لإثبات الخبر أو نفيه، أو لضبط زمانه، أو مكانه.
وقد كانت السيرة والتاريخ مجالًا واسعًا للاستشهاد بالشعر، بل لقد كان الشعر ضرورةً لازمةً لها يزينها ويكسبها ثقة وقوة في نفوس المستمعين والقارئين، كأنما كان الشعر دليلًا على صدق ما يروى من خبر، حتى لقد رووا أنَّ معاويةَ بن أبي سفيانَ رضي الله عنه طلب من عَبِيد بن شَريَّةَ (3) - حينما كان يقص عليه أخباره المتضمنة في كتاب «أخبار عبيد بن
(1) المُحرر الوجيز 2/ 48.
(2)
الكشاف 1/ 201، 303، 471، 2/ 518، المحرر الوجيز 3/ 59، الجامع لأحكام القرآن 16/ 59.
(3)
هو عَبِيْدُ بن شَريَّة الجُرهُمي، من المعمَّرين والقصاص المشهورين، عاش في الجاهلية وأدرك الإسلام وأسلم، وجالس معاوية رضي الله عنه بعد أن استقدمه من صنعاء إلى دمشق، وإن صح خبره فهو أول من دون الكتب من العرب، فقد أملى كتابين هما كتاب =
شرية» - أَنْ يُوردَ في أخباره وقصصهِ كلَّ ما يتصل بها مِن شعرٍ، وقال له: وسألتكَ أَلا تَمرَّ بشعرٍ تَحفظهُ فيما قالهُ أَحدٌ إلا ذكرتَه.
ومع أن عبيدًا كان لا يقصر في الاستشهاد بالشعر، فقد عاد معاوية يُلحِفُ عليهِ بقولهِ: وسألتك إِلا شددتَ حديثك ببعض ما قالوا من الشعرِ ولو ثلاثة أبيات. وحينما ذكرَ عَبيدُ أَنَّ يَعْرُبَ كان يقولُ الشعرَ قال له معاويةُ: اذكر الشعرَ الذي قال يَعْرُبُ. وكان معاويةُ كلما سَمِعَ الشعر الذي قيل في إحدى الحوادثِ اطمأَنَّ إلى صحةِ الخَبَرِ، وقال لعَبيد: لقد جئتَ بالبُرهانِ في حديثك يا عبيد، أو للهِ درُّكَ فقد جئت بالبُرهان (1).
وهذا الشعبيُّ (2) يسأل ابن عباس رضي الله عنهما عن أول الناس إسلامًا، فيجيبه ابن عباس: أو ما سَمِعتَ قول حسان بن ثابت:
إذا تذكرتَ شَجْوًا مِنْ أَخِي ثِقَةٍ
…
فاذكرْ أخاكَ أَبَا بَكْرٍ بِمَا فَعَلا
خَيْرَ البَرِيَّةِ أَتقاها وأعدَلَهَا
…
بعدَ النَّبِيِّ وأَوفَاهَا بِمَا حَمَلا
الثاني التالي المحمود مشهده
…
وأول الناس منهم صدق الرسلا (3)
وهذا هو المقصود بالشاهد الشعري التاريخي، وقد وردت في كتب التفسير كثيرٌ من الشواهد التي تشهد لوقائع تاريخية، وقد أوردها بعض المفسرين عند حديثهم عن الحوادث التاريخية في كتب التفسير.
ومن هذه الشواهد التاريخية الغريبة في كتب التفسير ما أورده
= الملوك وأخبار الماضين، وكتاب التيجان وملوك حمير، وقد طبعا باسم أخبار عبيد بن شرية في أخبار اليمن وأشعارها وأنسابها، والثاني كتاب الأمثال. وقد عاش إلى زمن عبد الملك بن مروان. انظر: المعمرون لأبي حاتم السجستاني 22، معجم الأدباء 12/ 72 - 78.
(1)
انظر: مصادر الشعر الجاهلي 599 - 600.
(2)
هو التابعي الجليل عامر بن شراحيل الشعبي. انظر: سير أعلام النبلاء 4/ 294.
(3)
الجامع لأحكام القرآن 8/ 236، تاريخ الطبري 2/ 214، محاضرات الأدباء للراغب الأصفهاني 4/ 474، والأبيات في ديوان حسان بن ثابت 177.
الطبري في تفسيره وفي تاريخه كذلك عن آدم عليه السلام حيث نقل الطبري عن علي بن أبي طالب رضوان الله عليه: لَمَّا قتلَ ابنُ آدم أخاه بَكى آدمُ فقال:
تَغَيَّرتِ البلادُ ومَنْ عَليها
…
فَلَونُ الأَرضِ مُغْبَرٌّ قَبيحُ
تَغيَّرَ كلُّ ذِي لونٍ وطعمٍ
…
وقَلَّ بشاشةَ الوجهُ المليحُ
فأجيب آدم عليه السلام:
أَبا هابيلَ قَد قُتِلا جَميعًا
…
وصَارَ الحَيُّ كالميتِ الذَّبيحِ
وجاءَ بِشِرَّةٍ قد كان منها
…
على خَوفٍ فجاءَ بِها يَصيِحُ (1)
قال ابن عطية: «وكذا هو الشعر بنصب بشاشة، وكف التنوين» (2). وهذا الشعر مِمَّا انتُقِدَ على ابن إسحاق إيراده له، إذ كيف يكون حُفِظ عن آدم شعرٌ؟ ! (3)
ومن الأمثلة على هذا النوع من الشواهد عند المفسرين ما نقله القرطبي عن ابن إسحاق في قصة غزوة أحد: «قال ابن إسحاق: فبقرت هند عن كبد حمزة فلاكتها ولم تستطع أن تسيغها، فلفظتها ثم علت على صخرة مشرفة فصرخت بأعلى صوتها فقالت:
نحنُ جزيناكمْ بيوم بدرِ
…
والحرب بعد الحرب ذات سعرِ
ما كان عن عتبة لي من صبرِ
…
ولا أخي وعَمِّهِ وبِكْرِي
شفيتُ نفسي وقضيتُ نذري
…
شَفيتَ وَحشيُّ غليلَ صدري
فشكرُ وحشيٍّ عليَّ عُمري
…
حتى تَرِمَّ أعظمي في قبري»
ثم ذكر بعد ذلك أشعارًا تاريخية كثيرة حول هذه الغزوة (4).
(1) تفسير الطبري 10/ 209، وتاريخ الطبري 1/ 92.
(2)
المحرر الوجيز 5/ 80 - 81.
(3)
طبقات فحول الشعراء 1/ 7 - 8.
(4)
الجامع لأحكام القرآن 4/ 121 - 122، 12/ 133.