الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السادس: أثر الشاهد الشعري في بيان الأساليب القرآنية
.
الأساليب جَمعُ أُسلُوب، والأُسلُوبُ يُطلَقُ على أمورٍ منها: الطريق، والوجه، والمذهب، والفنّ. يقال: أنتم في أُسلوب شَرٍّ، أي في طريقِ شرٍّ. (1) ويقال: أَخَذ فلانٌ في أَسالِيبَ من القول أَي أَفانِينَ منه. (2)
وقد عُنِيَ العلماءُ بدراسة أساليب القرآن الكريم قَديمًا وحديثًا؛ لمعرفةِ أوجهِ بلاغتهِ وبَيانِهِ وإعجازهِ؛ لأن القرآن نزل بلغة العرب، ولا بد أن يكون موافقًا لأساليبهم في البيان ليفهموا معانيه. وقد قرر هذا الإمام الطبري فقال:«فالواجب أن تكون معاني كتابِ الله المُنَزَّلِ على نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم لِمعاني كلامِ العَرَبِ موافقةً، وظاهرُه لظاهر كلامها مُلائمًا» . (3)
وكان الشاهد الشعري من أَدلةِ قياس مدى موافقةِ أسلوب القُرآنِ لأساليبِ العَرَبِ في كلامها، وكثيرًا ما يُنَظِّرونَ بينَ أسلوبِ الشاهدِ من الشِّعرِ وأسلوب الآية القرآنية. وكان علماء السَّلَفِ حفاظًا للقرآن وللشِّعرِ، وكان استحضار الشواهد منهما سهلًا قريبًا عند الحاجة إليه. ومن أمثلة ذلك أَنَّ أبا الأسود الدؤلي قال في شعرٍ لهُ يشير إلى آل عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنهم، ومَحبتهِ لهم:
فإِنْ يَكُ حُبُّهُمْ رُشْدًا أُصِبْهُ
…
ولَستُ بِمُخطئٍ إِنْ كانَ غَيَّا (4)
(1) انظر: تهذيب اللغة 12/ 435.
(2)
انظر: لسان العرب 6/ 319 (سلب).
(3)
تفسير الطبري (شاكر) 1/ 13.
(4)
انظر: ديوانه 154.
فقيل له: شَكَكْتَ في حبهم إذن؟ فاستشهد بقول الله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24](1) وقال: أفترونَ اللهَ شكَّ؟ (2) وهذا يدل على حضور القرآن الكريم على قلبه ولسانه، يتناول الشاهد منه بيسر وسهولة.
وهذا المبحث يدخلُ تَحتهُ الشواهدُ البلاغيةُ التي استشهد بِها المفسرون في كتب التفسير؛ لعنايتها بالأساليب، من حيث دراسة المعاني التي تؤديها هذه الأساليب والتراكيب في صورها المختلفة. (3) وقد عُنِيَ علماءُ السلف بدراسة أساليب القرآن، والنظر في أساليب العرب في كلامِها، والبحث فيه عن شواهد شعرهم التي تشهد لهذه الأساليب، وقد أَشارَ أبو عُبيدةَ، والفراءُ، وابنُ قتيبةَ، والطبريُّ وغيرهم إلى كثير من الأساليب القرآنية، واستشهدوا لمعرفة العرب لها بشعرهم المحفوظ عنهم، ولا سيما شعر الجاهلية، فجاء أَثَرُ الشاهدِ الشعريِّ ظاهرًا للدارس المتتبع في معرفةِ أَساليبِ العَرَبِ، وأُسلوبِ القرآن.
فقد تكلَّمَ أبو عبيدةَ عن أساليبَ قرآنية كثيرة، وأوردَ مِن شعرِ الاحتجاجِ ما يُماثِلُها، وإنْ كان يُعْوِزُهُ الشعرُ في بعض المواضع، فيضطرُّ للتمثيل بكلامٍ من عنده، ويكتفي بقوله: إِنَّ العربَ تفعلُ ذلك. (4) وأبو عبيدة حريص على أن يؤكد صلةَ أسلوب القرآن، وفنون التعبير فيه بأَساليبِ العَرَبِ وفُنونِهم، والاستشهاد على ذلك بالشعر ما وجد شاهدًا. (5)
ومن أمثلة ذلك عند أبي عبيدة، أنه عند تفسير قوله تعالى: {ذَلِكَ
(1) سبأ 24.
(2)
انظر: الكامل 2/ 131، أمالي المرتضى 1/ 213، إنباه الرواة 1/ 17، مجالس ثعلب 1/ 132.
(3)
انظر: ص 69 من البحث.
(4)
انظر: مجاز القرآن 1/ 38، 213، 274.
(5)
انظر: منهج الزمخشري في تفسير القرآن للصاوي 280.
الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2]} (1) أشارَ إلى أسلوب العرب في خِطابِها للشاهدِ خطابَها للغائبِ، فقال: «معناه: هذا القرآنُ، وقد تُخاطبُ العربُ الشاهدَ فَتُظهِرَ لَهُ مُخاطبةَ الغائبِ. قال خُفافُ بن نُدْبَة السُّلَميُّ:
فإِنْ تَكُ خَيْلِي قَدْ أُصِيبَ صَمِيمُها
…
فَعَمْدًا على عَيْنٍ تَيمَّمْتُ مالِكا
أَقُولُ لَهُ والرُّمحُ يَأْطُرُ مَتنَهُ
…
تَأَمَّلْ خُفافًا إِنَّنِي أَنا ذَلكا (2)». (3)
وردَّ الطبريُّ هذا التفسيرَ، ذاهبًا إلى أَنَّه لا يشبهُ أسلوبُ الشاهدِ الشعريِّ أسلوبَ الآية. (4) قال ابن كثير عند تفسيره لهذا الحرف:«قال ابن عباس: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} هذا الكتاب، وكذا قال مجاهدُ، وعكرمةُ، وسعيدُ بن جُبير، والسُّديُّ، ومُقاتلُ بن حيَّان، وزَيدُ بن أَسلَم، وابنُ جُريجٍ، أَنَّ «ذلك» بِمعنى «هذا» ، والعَرَبُ تُقارِضُ بين هذين الاسمين مِن أَسماءِ الإشارة، فيستعملونَ كُلًا منهما مكانَ الآخرِ، وهذا معروفٌ في كلامِهم». (5) والذي يبدو أن قول أبي عبيدة، وتفسير ابن عباس، وتلاميذه الذي ذكره ابن كثير وغيره، ليس معناه ما ذكره ابن كثير من أَنَّه مِن بابِ تعاقبِ أَسْماءِ الإشارة وتقارضها، دونَ أَن يدلَّ ذلك الاستعمالُ على غَرضٍ بلاغيٍّ، غير أَنَّ تفسيرَ السَّلفِ مُوجَزٌ مُختصرٌ، يَحملُ معاني كثيرة، وهم أعلمُ بالِّلسانِ مِمَّنْ بعدهم.
وإِنَّما قَصَدَ أبو عبيدة ومن قبله تفسير المعنى الظاهر للحرف، وأَن التعبير بذلك هنا بِمعنى هذا، وإِنْ كانَ استعمالُ اسم الإشارةِ الدالِّ على البعيدِ في هذا الموضع لهُ وجهٌ بلاغيٌّ يدلُّ على عُلوِّ مكانةِ هذا الكتاب العظيمِ، وهذا تفسير عامة المفسرين في كتبهم، وهذا راجعٌ إلى الخلافِ بين المفسرين في مرجع الضمير في قوله:
(1) البقرة 2.
(2)
انظر: ديوانه 13، الأغاني 2/ 329، خزانة الأدب 5/ 438 - 440.
(3)
مجاز القرآن 1/ 28 - 29.
(4)
انظر: تفسير الطبري (هجر) 1/ 230 - 231.
(5)
تفسير ابن كثير 1/ 60.
«ذلك» (1) والقول بأن «ذلك» هنا على بابِها تُشيرُ إلى البعيد، وإن كان قريبًا للدلالةِ على علوِّ مكانتهِ ومقامهِ هو قول كثير من أهل اللغة والبلاغة والتفسير ومنهم الطبري، من أول ما صرح به المُبَرِّدُ (2).
والأمثلة التي بدأ أبو عبيدة بها في «مَجاز القرآن» لاستنباط الخصائص التعبيرية للأسلوب العربي، والاستشهاد عليها بشعر العرب، وموازنة ذلك بأسلوب القرآن الكريم، مُحاولةٌ رائدةٌ، رغمَ ما وقع فيها من قُصورٍ لا يسلم منه عملُ الروَّادِ، غَيْرَ أَنَّ الغايةَ من الكتابِ قد تَحقَّقتْ، وحيث إِنَّهُ لم يُسبَق في هذا - والله أعلم - فقد كانت مُحاولتهُ نِبْراسًا لِمَن بعده، وأمثلة ذلك في كتابه كثيرة. (3)
وقد ذكرَ أَحَدُ الباحثينَ أَنَّ الفكرةَ التي كانت تُراودُ أبا عبيدةَ وهو يؤلِّفُ كتابَه كانت «فكرةً مدرسيَّةً، يُحاولُ أَن يضعَ أمامَ طبقة المستعربين صورًا من التعبير في القرآن، وما يقابله من التعبير في الأدب العربي شِعرًا ونثرًا، وبَيَّنَ ما فيه من التجاوزِ أو الانتقالِ من المعنى القريبِ أو التركيبِ المعهود للألفاظ والعباراتِ إلى معانٍ وتراكيب أخرى اقتضاها الكلام» . (4)
ثُمَّ جاء الفراء (ت 207)، وهو معاصر لأبي عبيدة (ت 210)، وتوفي قبله، غير أَنَّ كتابَ أبي عبيدةَ قديمُ التأليف، وقد اطَّلعَ عليه الفراءُ، وعَرَّضَ بهِ في مواضعَ مِن كتابهِ دون أَن يُسمِّيه (5)، وبالموازنةِ بين
(1) انظر: معاني القرآن للزجاج 1/ 67، معاني القرآن للنحاس 1/ 78، زاد المسير 1/ 23، المحرر الوجيز 1/ 97، البحر المحيط 1/ 61، روح المعاني 1/ 105، التحرير والتنوير 1/ 220.
(2)
انظر: المقتضب 3/ 275، شرح التسهيل لابن مالك 1/ 293، الجنى الداني 238، المساعد على تسهيل الفوائد 1/ 1/190، أوضح المسالك لابن هشام 1/ 136.
(3)
انظر: مجاز القرآن 1/ 32، 39، 172، 47، 101، 247، 65، 143 وغيرها.
(4)
أثر القرآن في تطور النقد العربي لمحمد زغلول سلام 43 - 44.
(5)
انظر: معاني القرآن 1/ 8، ووازنه بِما في مجاز القرآن 1/ 25.
الكتابَيْنِ تَبيَّن أَنَّ الفراء يستنكفُ أن يستشهدَ بشواهدِ أبي عبيدة الشعرية، ويَلتمسُ مِن شعر العرب غَيْرَها (1)، وإِن استشهدَ بشواهدِ أبي عبيدة فَعَلى وجهٍ غَير وجهِ أَبي عُبيدة (2)، ورُبَّما ذَكرَ أبو عبيدة رأيًا دونَ شاهدٍ، فيذكره الفراء وياتي له بشاهدِ (3)، ورُبَّما أَعوَزهُ الشاهد فترك شاهدَ أبي عبيدة وجاء بِمثالٍ من عنده (4)، ونَحوِ هذه الظواهر التي تدلُّ على اطلاعِ الفراءِ على كتابِ المَجازِ وانتفاعه بهِ، وبشواهدهِ. وهذا دليل على أهمية كتاب أبي عبيدة، وسبقه، وأَنَّ المفسرينَ وأصحاب المعاني والغريب عيالٌ على شَواهدِه الشعريَّة، رغم اعتراضهم على بعض تفسيراته للقرآن أو للشواهد الشعرية، ولا سيما شواهده اللغوية لغريب القرآن، حتى الفراء استشهد بشواهد أبي عبيدة على الغريب (5).
والفراء كان يرى أَنَّ «كتابَ الله أَعربُ وأَقوى في الحُجَّةِ من الشعرِ» (6)، ولذلك كان «يُقلِّلُ من الشاهدِ الشعريِّ، ولا يُفسِّرُ به الآياتِ تفسيرًا مباشرًا» (7) كما صنع أبو عبيدة قبله. وقد أضاف الفراء في دراسته لأساليب القرآن على ما ذكره أبو عبيدة، واستشهد على ذلك بشواهد الشعر، ومِنْ أَهمِّ أمثلةِ ما أضافهُ الفراءُ حديثهُ عن أسلوبِ الإضمارِ إذا اجتمع الكلامُ، ودلَّ أولهُ على آخرهِ، فإنَّ العربَ تُتبعُ آخرَ الكلامِ بأولهِ، وإِنْ لَم يَحسُنْ في آَخرِهِ ما حَسُنَ في أَولِهِ.
وقد ذكر الفراء ذلك عند توجيهه قراءة قوله تعالى: {وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة: 22](8)، ووجه رفعِها، مَع كونِها معطوفةً على مَجرورٍ قبلَها فقال:
(1) انظر: معاني القرآن 1/ 230، 2/ 6.
(2)
انظر: معاني القرآن 1/ 99.
(3)
انظر: معاني القرآن 1/ 105 - 106.
(4)
انظر: معاني القرآن 1/ 14.
(5)
انظر: معاني القرآن 2/ 385، 3/ 117.
(6)
معاني القرآن 1/ 13.
(7)
أثر القرآن في تطور النقد العربي لمحمد زغلول سلام 52.
(8)
الواقعة 22، قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم ويعقوب وشيبة {وَحُورٌ عِيْنٌ} برفعهما، وقرأ عبد الله بن مسعود وأصحابه، والكسائي، وحمزة {وَحُورٍ عِيْنٍ} بجرهما عطفًا على ما قبلها. انظر: السبعة 622، التيسير 207، النشر 2/ 383.
«أكثرُ القراءِ على الرَّفعِ؛ لأَنَّهم هابوا أَنْ يَجعلوا الحُورَ العِيْنَ يُطافُ بِهنَّ، فرفعوا على قولكَ: ولَهم حُورٌ عِيْنٌ، أو عندهم حُورٌ عِيْنٌ. والخَفضُ على أَن تُتْبِعَ آخرَ الكلامِ بِأَولهِ، وإِن لم يَحْسُنْ في آخرهِ ما حَسُنَ في أولهِ، أنشدني بعضُ العَربِ:
إِذا ما الغَانِياتُ بَرَزْنَ يَومًا
…
وزَجَّجْنَ الحواجِبَ والعُيونا (1)
فالعَيْنُ لا تُزَجَّجُ، إِنَّما تُكَحَّلُ، فردَّها على الحواجب؛ لأنَّ المعنى يُعرفُ، وأنشدني آخرُ:
ولَقيتُ زَوجَكِ في الوَغَى
…
مُتَقَلِّدًا سَيفًا ورُمْحًا (2)
والرمحُ لا يُتقلَّدُ، فردَّه على السَّيفِ. وقال آخر:
تَسْمَعُ للأَحْشاءِ مِنهُ لَغَطا
…
ولِليَدَينِ جَسْأَةً وبَدَدا (3)
وأنشدني بعضُ بَني دَبِيْر:
عَلَفْتُها تِبْنًا ومَاءً بَارِدا
…
حتى شَتَتْ هَمَّالةً عَيناها (4)
والماءُ لا يُعتَلَفُ، إِنَّما يُشرَبُ، فجعله تابعًا للتبن». (5) واحتجاج الفراء لهذا الأسلوب لم يُسبق إليه - فيما أعلم، وكلُّ من أَتى بَعَدَهُ نقلَ شواهدَهُ وتوجيهه. (6) وللفراء إضافات أخرى على ما ذكره أبو عبيدة،
(1) البيت للراعي النميري، وهو في ديوانه 156، الخصائص 2/ 432.
(2)
البيت لعبد الله بن الزبعرى، كما في ديوانه 32، الخصائص 2/ 431، شرح الحماسة للمرزوقي 3/ 1147.
(3)
الجسأةُ: غِلظٌ في اليدِ، وهي لا تُسمَعُ. انظر: الخصائص 2/ 432.
(4)
انظر: كتاب الشعر للفارسي 2/ 533، خزانة الأدب 3/ 139 وقال:«ولا يُعرفُ قائلهُ، ورأيت في حاشية نسخةٍ صحيحةٍ من الصحاح أنه لذي الرمة، ففتشت ديوانه فلم أجده فيه» .
(5)
انظر: معاني القرآن 2/ 385، 3/ 117.
(6)
انظر: تأويل مشكل القرآن 213، تفسير الطبري (هجر) 22/ 301 - 302، الجامع لأحكام القرآن 6/ 95، 18/ 194 - 195، 17/ 205، الخصائص 2/ 431، أمالي ابن الشجري 3/ 82.
متفرقة في كلامه. (1)
وجاءَ بعد أبي عبيدةَ والفراء ابنُ قتيبة (ت 276)، فأفاد من كتابيهما، كما ذكرَ في منهجه (2)، وقد أضاف إضافاتٍ قيمةً للخصائص والأساليب التي أشار إليها مَنْ تقدَّمَهُ، ولكنَّهُ كان يُعنى بالشاهدِ من القرآن أكثر من عنايتهِ بالشاهد الشعريِّ، دون أنْ يُنبِّهَ إلى ما تفرد القرآن به من الأساليب، وما شاركه فيه شِعرُ العَربِ كما كان يفعلُ أبو عبيدة والفراء، غير أَنَّهُ أَجادَ بتصنيفه لِمَا ذكره أبو عبيدة والفراء من مسائل، مع إضافاته التي أضافها.
ومن أمثلة ما أضافه في باب دراسة الأساليب ما ذكره تحت باب «الحذف والاختصار» (3)، وقد ذكر أبو عبيدة والفراء من أمثلة ذلك الكثير، لكنَّه هَذَّبَهُ ورتَّبهُ وزادَ فيهِ. مع استشهاده على كلِّ نوعٍ بشاهدٍ شعري أو أكثر.
ومن إضافاته عند تفسيره لقوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 19](4) أَنَّ العَربَ قد تَحذفُ المضافَ وتقيمَ المضافَ إليهِ مقامَه، فيكون معنى الآية: أجعلتم صاحب سقاية الحاج، وعمارة المسجد الحرام كم آمن؟ واستشهدَ على ذلك بقول المتنخِّل الهُذلي:
يُمَشِّي بَينَنا حانُوتُ خَمْرٍ
…
مِن الخُرْسِ الصَّراصِرةِ القِطاطِ (5)
أراد صاحبَ حانوتِ خَمرٍ، فأقام الحانوتَ مقامَهُ، وكذلك قولُ أبي ذؤيب في صفة الخمر:
(1) انظر: معاني القرآن 1/ 99، 3/ 272 (وضع الحرف في غير موضعه)، 1/ 427 (الإخبار بالمصدر عن الاسم)، 2/ 38 (وضع المفعول موضع المصدر) وغيرها.
(2)
انظر: تأويل مشكل القرآن 18.
(3)
انظر: تأويل مشكل القرآن 210 - 231.
(4)
التوبة 19.
(5)
انظر: ديوان الهذليين 2/ 21.
تَوصَّلُ بالرُّكبانِ حِينًا وتُؤلِفُ الـ
…
ـجِوارَ ويُغشيها الأَمانَ رِبابُها (1)
اللفظُ للخَمرِ، والمعنى للخمَّار، أي: يتوصلُ الخمَّارُ بالرَّكبِ ليسيرَ معهم، ويأَمنَ بِهم. وكذلك قول أبي ذؤيب:
أَتَوها بِربحٍ حَاولتهُ فَأَصبَحتْ
…
تُكفَّتُ قد حَلَّتْ وساغَ شَرابُها (2)
يريدُ أَتوا صاحِبَها بِربحٍ فأَقامها مَقامه. (3) وما ذكره ابن قتيبة في هذا الباب قد خرَّجَهُ بعضُ العلماءِ على المبالغةِ، أو المَجازِ، دونَ أن يكون هناك حذفٌ، والغرض التمثيل، والأمثلة لدى ابن قتيبة كثيرة (4)، وقد انتفع به من أتى بعده من المفسرين وأهل البلاغة. (5)
وأَمَّا المُفسرونَ فقد كان لهم في الاستشهاد بالشعر واستنباط أساليب العرب في كلامه منه جهود ظاهرة، وأمثلته كثيرة، ومن تلك الأمثلة:
1 -
من الأمثلة التي تكلم عنها المفسرون مطابقة النعتِ للمنعوت، ومن ذلك قول الطبري عند تفسير قوله تعالى:{وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} [الحجر: 22](6): «اختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة القراء:{وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} ، وقرأه بعض قراءِ أهلِ الكوفةِ "وَأَرْسَلْنَا الرِّيَحَ لَوَاقِحَ" فوحَّدَ الريحَ وهي موصوفةٌ بالجمعِ (7)، أعني
(1) يقول: إن تجار الخمر يخشون الإغارة عليهم وانتهابها منهم في سفرهم، فهم يتوصلون من بلد إلى بلد مع القوافل، ويعقدون ذمة الجوار بينهم وبين هؤلاء الركبان ليستأمنوا بهم. انظر: ديوان الهذليين 1/ 73.
(2)
تُكَفَّتُ: تُقبَض. انظر: ديوان الهذليين 1/ 74.
(3)
انظر: تأويل مشكل القرآن 211 - 212.
(4)
انظر: تأويل مشكل القرآن 198، 195، 225.
(5)
انظر: الصاحبي لابن فارس فقد أخذ منه وأضاف عليه بعض الأساليب 198، 240 - 243، الخصائص لابن جني 2/ 411 - 435 حيث أضاف بعض لأساليب، ووضع مصطلحات جديدة لأساليب قديمة كالحمل على المعنى، وأدخل فيه ما سماه أبو عبيدة الاختصار، وسماه الفراء الإضمار.
(6)
الحجر 22.
(7)
هي قراءة حَمزة، وقرأ الباقون بالجمع. انظر: حجة القراءات 382.
بقوله: لواقح، وينبغي أن يكون معنى ذلك: أن الريح وإن كان لفظها واحدًا، فمعناها الجمع؛ لأنه يقال: جاءت الريح من كل وجه، وهبت من كل مكان، فقيل: لواقح لذلك، فيكونُ معنى جَمعِهم نعتها، وهي في اللفظ واحدة معنى قولهم: أَرضٌ سَباسِب، وأَرضٌ أَغْفالٌ (1)، وثوب أخلاق، كما قال الشاعر (2):
جاءَ الشتاءُ وقَمِيصِي أَخْلاقْ
…
شَراذِمٌ يَضحَكُ منهُ التوَّاقْ (3)
وكذلك تفعلُ العَرَبُ في كلِّ شيءٍ اتسعَ». (4) وهذا الأسلوب سَبَقَ إلى ذكرهِ الفراء في معانيه، مع ذكر شاهده الشعري. (5)
2 -
وقال الطبري عند تفسير قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [الرعد: 2](6): «عن ابن عباس قوله: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} قال: ما يدريك؟ لعلها بعَمَدٍ لا تَرونَها. ومَنْ تأولَ ذلكَ كذلك، قصدَ مذهبَ تقديمِ العَربِ الجَحْدَ من آخر الكلام إلى أَوَّلهِ، كقول الشاعر (7):
ولا أَراها تَزَالُ ظَالِمَةً
…
تُحدِثُ لي نَكبةً وتُنْكَؤُها (8)
يريدُ: أَراها لا تَزالُ ظالِمةً، فقدَّم الجحدَ عن موضعهِ من «تزال» ، وكما قال الآخر:
إذا أَعجَبَتْكَ الدَّهرَ حَالٌ مِن امرئٍ
…
فَدَعْهُ وَواكِلْ حَالَهُ والليَالِيا
(1) السَّباسبُ جَمعُ سَبْسَبٍ، وهي المَفازةُ المُهلكة. والأغفالُ هي الأرضُ المَجهولةُ التي لا أثر فيها يُعرف.
(2)
نسب الشاهد لبعض الأعراب دون تعيين كما في خزانة الأدب 1/ 234.
(3)
التواق: قيل: إنه اسم ابنه. انظر: معاني القرآن للفراء 2/ 87، تهذيب اللغة 7/ 30، 9/ 256.
(4)
تفسير الطبري (هجر) 14/ 41 - 42.
(5)
انظر: معاني القرآن 2/ 87.
(6)
الرعد 2.
(7)
هو إبراهيم بن هرمة.
(8)
رواية الديوان «قرحة» بدل «نكبة» . انظر: ديوانه 56، معاني القرآن للفراء 2/ 57.
يَجِئْنَ على ما كانَ مِنْ صَالحٍ بهِ
…
وإِنْ كانَ فِيما لا يَرى النَّاسُ آليا (1)
يعني: وإن كان فيما يرى الناس لا يألو». (2) وقد ذكر ابن الأنباري هذا اللفظ وأنه من الأضداد، فقال في تفسير هذه الآية: «ومِمَّا فُسِّر مِن كتاب الله تفسيرين متضادّين، قوله تبارك وتعالى:{اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} ، يقال: معناه خلقها مرفوعة بلا عَمَد، فالجحْد واقع في موضعه الَّذي يجب كونه فيه، ثمَّ قال بعد:(تَرَوْنَهَا) أَي: لا تحتاجون مع الرؤية إِلى خَبَرٍ. ويفسَّر تفسيرًا آخر، وهو: الله الَّذي رفع السموات بعمد لا ترون تلك العمد، فدخل الجحْد على العَمَد في اللفظ، وهو في المعنى منقول إِلى الرؤية؛ كما تقول العرب: ما ضربتُ عبدَ اللهِ وعندَهُ أَحَدٌ، يريدون: ضربتُ عبدَ الله وليس عندَه أَحَدٌ. ويقال: ما ينشأُ أَحدٌ بِبَلَدٍ فيزالُ يذكره؛ أَي إِذا نشأَ ببلدٍ لم يزل يذكره. وأَنشد الفَرَّاءُ حجَّة لهذا المعنى
…
». (3) ثم ذكر شواهد الفراء التي ذكرها الطبري مع تفسيرها.
3 -
وقال الطبريُّ عند تفسير قوله تعالى: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً} [التوبة: 8](4): «واكتفى بـ {كَيْفَ} دليلًا على معنى الكلام، لتقدم ما يراد من المعنى بها قبلها، وكذلك تفعل العرب، إذا أعادت الحرف بعد مضي معناه، استجازوا حذف الفعل، كما قال الشاعر (5):
وخَبَّرْتُماني أَنَّما الموتُ في القُرَى
…
فَكيفَ وهَذي هَضْبَةٌ وكَثِيبُ (6)
فحذف الفعل بعد {كَيْفَ} لتقدم ما يراد بعدها قبلها. ومعنى الكلام: فكيف يكون الموت في القرى، وهذي هضبة وكثيب، لا ينجو
(1) البيتان في معاني القرآن 2/ 57، والأضداد لابن الأنباري 268 ولم أعرف قائلهما.
(2)
تفسير الطبري (هجر) 13/ 410.
(3)
الأضداد 268.
(4)
التوبة 8.
(5)
هو كعب بن سعد الغنوي.
(6)
انظر: الأصمعيات 99، طبقات فحول الشعراء 1/ 176، أمالي القالي 2/ 151.
فيهما منه أحد؟ ». (1)
ورُبَّما يحمل بعض المفسرين معنى بعض الحروف في القرآن على غير وجهها في الآية، لمجرد أنها قد تأتي في اللغة بمعنى من المعاني، وإن كان سياق الآية لا يحتمله، فينبه المفسرون على هذا، وينفون أن يكون معنى هذا الحرف كذا. ومن ذلك قول الطبري في تفسيره لقوله تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11)} [الأعراف: 11](2): «فإنْ ظَنَّ ظانٌّ أنَّ العربَ إذ كانت رُبَّما نَطقتْ بـ «ثُمَّ» في موضع «الواو» في ضرورةِ شعرٍ، كما قال بعضهم (3):
سَأَلْتُ ربيعةَ: مَنْ خَيْرُها
…
أَبًا ثُمَّ أَمًّا؟ فقالَتْ: لِمَهْ (4)
يعني أبًا وأُمًّا، فإِنَّ ذلك جائزٌ أَن يكونَ نظيره فإِنَّ ذلك بِخلافِ ما ظنَّ. وذلك أَنَّ كتابَ الله جلَّ ثناؤه نزلَ بأفصحِ لغات العربِ، وغير جائزٍ توجيهُ شيءٍ منهُ إلى الشاذِّ مِن لغاتِها، ولَهُ في الأفصحِ الأشهرِ معنىً مفهومٌ، ووجهٌ معروفٌ». (5)
وهذا منهج الطبري في تأكيده المتكرر، على أَنَّ القُرآنَ يَجبُ حَملُه وتفسيره على اللغة المستفيضة المشهورة التي تعرفها العربُ في شعرها وكلامها، لا على ما شذَّ من لغاتِها، وإن كانت لغات صحيحة، سواء كان ذلك في الألفاظ أو الأساليب.
4 -
ومن ذلك قول الطبري عند تفسير قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117)} [الأنعام: 117](6): «وقد زَعَمَ بعضُهم أَنَّ قولَه: {أَعْلَمُ} في هذا الموضع بِمَعنى يَعْلَم، واستشهدَ لقيلهِ ببيتِ حَاتمِ الطائيِّ:
(1) تفسير الطبري (شاكر) 14/ 145.
(2)
الأعراف 11.
(3)
هو الأقيشر الأسدي.
(4)
الرواية «شرها» بدل «خيرها» . انظر: الصاحبي 215.
(5)
تفسير الطبري (شاكر) 12/ 322.
(6)
الأنعام 117.
فَحَالَفَتْ طَيّءٌ مِنْ دُونِنا حَلِفًا
…
واللهُ أَعْلَمُ ما كُنَّا لَهُمْ خُذُلا (1)
وبقول الخنساء:
القومُ أَعْلَمُ أَنَّ جَفْنَتَهُ
…
تُعدو غَداةَ الرِّيحِ أَو تَسري (2)
وهذا الذي قاله قائل هذا التأويل، وإن كان جائزًا في كلام العرب، فليس قول الله تعالى ذكره:{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 117]} منه، وذلك أنه عطف عليه بقوله:{وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} فأَبانَ بدخولِ «الباء» في (المهتدين) أَنَّ {أَعْلَمُ} ليس بمعنى يَعلَم؛ لأَنَّ ذلك إذا كان بِمعنى «يفعلُ» ، لم يُوصَل بالباء، كما لا يُقالُ: هو يعلمُ بزيدٍ، بِمعنى: يعلم زيدًا». (3) وهذا منهج الطبري في دراسته لأسلوب القرآن، فلا يجعله الشاهد الشعري مهما كان صحيحًا، يترك تفسير السلف، ولا أسلوب القرآن الخاص، ويحمل معنى الآية على أسلوب الشاهد الشعري، وإنما يقدم ما أجمعت عليه الحجة من أهل التفسير، ثم دلالة سياق الآيات، ثم دلالة اللغة المستفيضة المعروفة في أشعار العرب، فوضع بهذا الشاهد الشعري في موضعه الصحيح من التفسير.
5 -
ومن الأمثلة على استعانة الطبري بالشعر في فهمه لأساليب القرآن قوله عند تفسير قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} [البقرة: 17](4): «فإِنْ قالَ لنا قائلٌ: إنك ذكرت أن معنى قول الله تعالى ذكره: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} خَمدت وانطفأت، وليس ذلكَ بِمَوجودٍ في القرآن، فما دلالتكَ على أَنَّ ذلكَ معناه؟
قيل: قد قلنا: إِنَّ مِن شأنِ العربِ الإيجازُ والاختصارُ، إذا كان فيما نطقتْ بهِ الدلالةُ الكافيةُ على ما حَذَفت وتَركت، كما قال أبو ذؤيب الهذلي:
(1) انظر: ديوانه 194.
(2)
انظر: ديوانها 32.
(3)
تفسير الطبري (شاكر) 12/ 66 - 67.
(4)
البقرة 17.
عَصيتُ إليها القَلْبَ إِنِّي لأَمْرِها
…
سَمِيعٌ، فما أَدْري أَرُشْدٌ طِلابُها (1)
يعني بذلك: فما أَدري أَرُشدٌ طِلابُها أَم غَيٌّ، فحذف ذكر «أَم غَيّ» ؛ إذ كان فيما نَطقَ به الدلالة عليها، وكما قال ذو الرُّمَّةِ في نَعت حَميرٍ:
فلمَّا لَبِسْنَ الليلَ أو حِيْنَ نَصَّبَتْ
…
لَهُ مِنْ خَذا آذانِها وهُو جَانِحُ (2)
يعني: أو حِيْنَ أقبلَ الليلُ، في نظائر لذلك كثيرة، كرهنا إطالة الكتاب بذكرها. فكذلك قوله:{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} [البقرة: 17] لَمَّا كان فيهِ وفيما بَعدَهُ من قوله: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} [البقرة: 17] دلالةٌ على المتروكِ كافيةٌ من ذكرهِ، اختصرَ الكلام طلبَ الإيجاز». (3) وهذا مثال واضح على أثر الشاهد الشعري في التعرف على أساليب القرآن، والطبري أكثر المفسرين عنايةً بهذا.
ومن الأساليب التي تكلم عنها المفسرون في القرآن، واستشهدوا عليها بشعر العرب أسلوب الاستهزاء. ومن ذلك قول ابن عطية عند تفسير قوله تعالى:{ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)} [الدخان: 49](4) مبينًا هذا الأسلوب في الآية: «أَي: على قولِكَ، وهذا كما قال جريرُ:
أَلَمْ يَكُنْ في وُسومٍ قَد وَسَمْتُ بِها
…
مَنْ خانَ مَوعظةً، يا زَهرةَ اليَمَنِ (5)
يقولُها للشاعرِ الذي سَمَّى نفسَه به، وذلك في قوله:
أَبْلِغْ كُلَيبًا وأَبْلِغ عنكَ شاعِرَها
…
أَنِّي الأَغَرُّ وأَنِّي زَهرةُ اليَمَنِ (6)
فجاءَ بيتُ جرير على هذا الهُزءِ». (7) فأسلوب الاستهزاء في الآية، كأسلوب الاستهزاء في الشاهد الشعري.
(1) انظر: ديوان الهذليين 1/ 71.
(2)
نَصَّبَتْ: رفعت آذانَها، خَذا آذانِها: استرخائها. انظر: ديوانه 2/ 897.
(3)
تفسير الطبري (شاكر) 12/ 322.
(4)
الدخان 49.
(5)
انظر: ديوانه 2/ 746.
(6)
انظر: الصاحبي 291.
(7)
المحرر الوجيز 14/ 300.
ومن الأساليب التي تعرض لها المفسرون أسلوب الحذف في القرآن الكريم. ومن ذلك قول ابن عطية عند تفسير قوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً} [هود: 17](1): «وفي هذه الآيةِ مُعادلةٌ مَحذوفةٌ يقتضيها ظاهرُ اللفظِ، تقديرهُ: أَفَمنْ كانَ على بينةٍ مِن ربِّهِ كمَن كفرَ بالله وكذَّبَ أنبياءَه. ونحو هذا - في معنى الحذفِ - قوله عَزَّوَجَلَّ: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} [الرعد: 31](2) لكانَ هذا القرآنُ. ومن ذلك قول الشاعر (3):
فأُقْسِمُ لو شَيءٌ أَتانا رَسُولُهُ
…
سِواكَ ولكنْ لَمْ نَجِدْ لكَ مَدْفَعا (4)
التقديرُ: لرَددنَاهُ ولم نُصْغِ إليهِ». (5)
والطبري وابن عطية يكثرونَ من ذكر أساليب العرب، ويُنظِّرون ذلك بشواهد الشعر، ولكنَّهم قلَّما توقفوا عند الوجه البلاغي في التعبير، أَمَّا الزمخشريُّ فقد عُنِيَ باستنباطِ الأوجهِ البلاغية الكامنة في هذه الأساليب.
ومن أمثلة ذلك قوله عند بيان الوجه البلاغي في تعبير الله بالفعل المضارع في قوله تعالى: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [فاطر: 9](6) فقال: «فإن قلتَ: لِمَ جاءَ {فَتُثِيرُ} على المضارعةِ دونَ ما قبلَهُ، وما بعده؟
قلتُ: ليحكيَ الحالَ التي تقعُ فيها إثارةُ الرياحِ السَّحابَ، وتستحضرَ تلك الصورة البديعة الدالة على القدرة الربانية، وهكذا يفعلون بفعلٍ فيه نوعُ تَمييزٍ وخصوصيةٍ بِحالٍ تُستَغربُ، أو تَهُمُّ المخاطَب، أو غير ذلك، كما قال تأبط شرًا:
بِأَنِّي قد لَقيتُ الغُولَ تَهوِي
…
بِسَهبٍ كالصحيفةِ صَحْصَحانِ
(1) هود 17.
(2)
الرعد 31.
(3)
هو امرؤ القيس بن حجر.
(4)
انظر: ديوانه 242.
(5)
المحرر الوجيز 9/ 124.
(6)
فاطر 9.
فأَضْرِبُها بِلا دَهَشٍ فَخَرَّتْ
…
صَريعًا لليَدينِ وللجِرانِ (1)
لأَنَّهُ قصدَ أَنْ يصورَ لقومهِ الحالةَ التي تشجَّعَ فيها - بِزعمهِ - على ضَربِ الغُولِ، كأَنَّهُ يُبَصِّرُهُم إِيَّاها، ويُطلِعُهُم على كُنهِها، مُشاهدةً للتعجيبِ مِن جُرأتهِ على كُلِّ هَولٍ، وثَباتهِ عند كلِّ شدة». (2)
وقال الزمخشريُّ عند بيان الوجه البلاغي في وصف العُتوِّ بالكبير في قوله تعالى: {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} [الفرقان: 21](3): «وقد وصفَ العُتُوَّ بالكبيرِ، فبالغَ في إفراطهِ، يعني أَنَّهم لم يَخسروا على هذا القولِ العظيم، إِلَّا لأَنَّهم بلغوا غايةَ الاستكبار، وأقصى العتوِّ. واللامُ جوابُ قسمٍ مَحذوف، وهذه الجملةُ في حُسْنِ استئنافِها غَايةٌ، وفي أُسلوبِها قَولُ القائلِ (4):
وجَارةِ جَسَّاسٍ أَبأَنا بِنَابِها
…
كُلَيبًا غَلتْ نَابٌ كُليبٌ بَواؤُها (5)
وفي فحوى هذا الفعلِ دليلٌ على التعجبِ من غير لفظ التعجبِ. أَلا ترى أنَّ المعنى: ما أشدَّ استكبارَهم، وما أكبَر عُتوَّهُم، وما أَغلى نَابًا بَواؤها كُليبٌ». (6)
وظهر من دراسة أسلوب القرآن الكريم، وموازنته بأساليب العرب في شعرها قبل الإسلام وبعده القدرةُ على نسبةِ بعض الشواهد المَجهولة في كتب التفسير. وقد تنبَّه الطاهرُ بن عاشور للأساليبِ والألفاظ التي وردت في القرآن ولم تكن معروفةً من قبلُ في لغة العربِ وشعرهم في الجاهلية، وظهر له ما سَمَّاهُ بِمُبتكراتِ القرآنِ، وذكر أمثلة كثيرةً، وسأقتصر على بعض الأمثلة التي كان للشاهد الشعري فيها أَثَرٌ، وقد توصل ابن عاشور بِموازنتهِ بين أسلوبِ القرآنِ، وأُسلوبِ العربِ في
(1) انظر: ديوانه 224 - 225.
(2)
الكشاف 3/ 601.
(3)
الفرقان 21.
(4)
لم أعرفه.
(5)
انظر: المستقصى للزمخشري 1/ 124.
(6)
الكشاف 3/ 273.
شعرهم إلى نتائجَ نقدية مُهمّة، كنَفي نسبة بعض الشواهد لشعراء الجاهلية.
ومن هذه الأمثلة التي ذكرها ابن عاشور، ونصَّ على أَنَّها من «مبتكرات القرآن» ، وأَنَّه لم يَجِد للعربِ في شِعرِها أو نَثرِها مثلَه، واستدل بها على ترجيح نسبة شواهد شعرية إلى قائل دون آخر، ما جاء عند تفسيره لقوله تعالى:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)} [الأعراف: 199](1) قال: «والأَخذُ حقيقتهُ تناولُ شَيءٍ للانتفاعِ بهِ أَو لإضرارهِ، كما يقال: أخذتُ العدوَّ من تلابيبه، ولذلك يُقالُ في الأسير أَخِيذٌ، ويقالُ للقوم إذا أُسِروا: أُخِذُوا، واستُعمِلَ هنا مَجازًا فاستُعِيْرَ للتلبسِ بالوصفِ، والفعل من بين أفعالٍ لو شاء لتلَبس بِها، فيُشبّه ذلك التلبسَ واختيارَهُ على تلبسٍ آخر بأخذِ شيء مِن بَينِ عِدةِ أشياء، فمعنى {خُذِ الْعَفْوَ}: عَامِل به واجْعله وصفًا ولا تتلبس بضده. وأَحسب استعارة الأَخذِ للعُرفِ مِن مُبتكراتِ القرآن ولذلك أُرجِّحُ أَنَّ البيتَ المشهورَ وهوَ:
خُذي العفوَ مني تَستديْمي مَوَدَّتي
…
ولا تَنْطِقي في سَوْرَتي حين أغْضَبُ
هو لأَبي الأَسودِ الدؤليِّ (2)، وأَنَّه اتبع استعمال القرآن، وأَنَّ نسبته إلى أسماءَ بن خارجة الفزاريِّ، أو إلى حاتمِ الطائي غير صحيحة». (3)
وقد ذكر الأصفهاني هذا البيت فقال: «والشعر لأَسْماءَ بن خارجة الفزاري، وقد قيل: إِنَّهُ لأبي الأسود الدؤلي، وليس ذلك بصحيح» . (4) ونسبه بعضهم إلى عامر بن عمرو من بني البكاء. (5) ونسبه آخرون إلى أسماء بن خارجة. (6) ونسبه بعضهم لشريح القاضي. (7)، والجديد في
(1) الأعراف 199.
(2)
انظر: ديوانه 381.
(3)
التحرير والتنوير 9/ 226.
(4)
الأغاني 20/ 362.
(5)
انظر: الحماسة البصرية 2/ 937.
(6)
انظر: بَهجة المجالس لابن عبد البر 3/ 56.
(7)
انظر: الوحشيات 185، حماسة الظرفاء 1/ 163، عيون الأخبار 3/ 11.
الأمر هو أن الطاهر بن عاشور اتخذ من معنى البيت وأسلوبه مرجحًا لنسبته لأبي الأسود الدؤلي دون بقية المنسوب إليهم هذا الشعر.
وقال الطاهر ابن عاشور أيضًا عند تفسير قوله تعالى: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17)} [المزمل: 17](1): «ووصف اليوم بأَنَّهُ {يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} وَصفٌ لَهُ باعتبار ما يقعُ فيه من الأهوالِ والأحزانِ؛ لأنه شاع أَنَّ الهمَّ مِمَّا يُسرعُ به الشيبُ، فلمَّا أُريدَ وصفُ همِّ ذلك اليوم بالشدة البالغة أقواها، أسند إليه يُشيِّبُ الولدان الذين شَعَرُهُم في أول سواده. وهذه مُبالغةٌ عجيبةٌ وهي من مُبتكراتِ القرآنِ فيما أَحسب؛ لأَنِّي لَم أَرَ هذا المعنى في كلامِ العرب، وأَمَّا البيت الذي يُذكرُ في شواهد النحو وهو:
إِذَنْ والله نَرميَهُم بِحَربٍ
…
تُشيبُ الطفلَ مِنْ قبلِ المشيبِ (2)
فلا ثُبوتَ لنسبته إلى مَنْ كانوا قبلَ نُزولِ القرآنِ، ولا يُعرفُ قائلهُ، ونسبهُ بعض المؤلفينَ إلى حسان بن ثابت، وقال العينيُّ: لم أجدهُ في ديوانهِ (3)، وقد أخذ المعنى الصِّمَّةُ بن عبد الله القشيري في قوله:
دَعانيَ مِنْ نَجدٍ فإِنَّ سِنِينَهُ
…
لَعِبْنَ بنا شِيبًا وشَيَّبْنَنا مُردا (4)
وهو من شعراء الدولة الأموية». (5) والأمثلة على ذلك عند ابن عاشور متعددة على استعانته بأسلوب القرآن ومعرفته بأسلوب الشعر، في معرفة نسبة بعض الشواهد المختلف في نسبتها، بناء على الأسلوب. (6)
(1) المزمل 17.
(2)
انظر: معجم شواهد النحو الشعرية لحنا حداد 305 رقم (367).
(3)
هو بيت مفرد في ملحق ديوانه 371.
(4)
انظر: خزانة الأدب 8/ 58.
(5)
التحرير والتنوير 29/ 275.
(6)
انظر: التحرير والتنوير 29/ 117، 30/ 28، 25/ 198.