الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الغَيْبوبة، يقال ضَلَّ الماءُ في اللبن إذا غاب، وضَلَّ الكافرُ إذا غاب عن الحُجَّة، وضَلَّ الناسي إذا غابَ عنه حِفْظه، وأَضْلَلْت بَعيري وغيرَه إذا ذهَب منك
…
وضَلَّ الشيءُ يَضِلُّ ضَلالًا أَي ضاع» (1). فالهلاك أحد معاني الضلال إذا اقترنت به قرينة، وأما أصل معنى الضلال فكما قال ابن فارس:«الضاد واللام أصلٌ صحيحٌ يدل على معنى واحد، وهو ضياع الشيء وذهابه في غير حقه» (2).
ثالثًا: الاختلاف في وجه الاستشهاد:
قد يكون الاختلاف والاعتراض متجهًا إلى وجه الاستشهاد لا إلى الشاهد، ومن ذلك قول ابن عطية: «وقال أبو عبيدة: الرَّفَثُ اللغا من الكلام، وأنشد:
ورُبَّ أَسرَابِ حَجيجٍ كُظَّمِ
…
عَن اللَّغَا ورَفَثِ التكَلُّمِ (3)
قال القاضي أبو محمد: ولا حجة في هذا البيت». (4) ولم يبين ابن عطية سبب عدم الحجية في الشاهد، وأن الرفث فيه يعني اللغو من الكلام، والظاهر أن وجه اعتراض ابن عطية على الاستشهاد بالبيت أن الشاعر قد عطف اللغا على رفث الكلام، والعطف يعني المغايرة بين المعنيين.
وقال ابن عطية: «وقال أبو عبيدة: البعض في هذه الآية بمعنى الكل، وخطأه الناس في هذه المقالة، وأنشد أبو عبيدة شاهدًا على قوله بيت لبيد:
ترَّاكُ أَمكنةٍ إذا لم أَرْضَهَا
…
أَو يَخْتَرِمْ بعضَ النفوسِ حِمَامُها
وليست في البيت له حجة؛ لأن لبيدًا أراد نفسه فهو تبعيض صحيح» (5).
(1) لسان العرب 8/ 80 (ضلل).
(2)
مقاييس اللغة 3/ 345، وانظر: المحرر الوجيز 12/ 16.
(3)
انظر: ديوان العجاج 128.
(4)
المحرر الوجيز 2/ 122.
(5)
المحرر الوجيز 3/ 99.
وقد يكون سبب الخلاف هو الخلاف في تفسير الآية، لا في معنى البيت أو حجيته، ومن ذلك قول الطبري: «وقد زعم بعضُ أهل العربية أن معنى قوله: {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ} [النساء: 90](1): إلا الذين يتصلون في أنسابهم لقوم بينكم وبينهم ميثاق. من قولهم: اتَّصَلَ الرجلُ، بِمعنى: انتمَى وانتسَب. كما قال الأعشى في صفة امرأة انتسبت إلى قومٍ:
إذا اتصلَتْ قَالت: أَبَكْرَ بنَ وَائلٍ
…
وبَكْرٌ سَبَتْها والأُنُوفُ رَوَاغِمُ (2)
يريدُ بقوله: اتصلتْ انتَسَبت» (3). ثُمَّ اعترض الطبري على هذا التفسير الذي ذهب إليه أبو عبيدة فقال: «ولا وجه لهذا التأويل في هذا الموضع؛ لأن الانتساب إلى قوم من أهل الموادعة والعهد، لو كان يوجب للمنتسبين إليهم مالهم
…
لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقاتل قريشًا وهم أنسباء السابقين الأولين، ولأهل الإيمان من الحق بإيمانهم أكثر مما لأهل العهد بعهدهم. وفي قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم مشركي قريش
…
الدليل الواضح أن انتساب من لا عهد له إلى ذي العهد منهم لم يكن موجبًا له من العهد ما لذي العهد منهم من انتسابه» (4). ولَخَّص ابنُ عطية رأي الطبري واختاره (5).
ومن أمثلة تعقب الطبري للفراء في فهمه للشواهد وشرحه لها قول الطبري: «واختلف أهل العربية في المعنى الذي جلب «الباء» في قوله: {إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} [آل عمران: 112](6) فقال بعض نحويي الكوفة: الذي جلب «الباء» في قوله: {بِحَبْلٍ} فعل مضمر قد ترك ذكره. قال: ومعنى الكلام: ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا، إلا أن يعتصموا
(1) النساء 90.
(2)
انظر: ديوانه 81.
(3)
تفسير الطبري (هجر) 7/ 293، المحرر الوجيز 4/ 201 - 202.
(4)
تفسير الطبري (هجر) 7/ 294.
(5)
انظر: المحرر الوجيز 4/ 202، 6/ 76، 89، 4/ 207، 4/ 13.
(6)
آل عمران 112.
بحبل من الله فأضمر ذلك، واستشهد لقوله ذلك بقول الشاعر (1):
رأَتْنِي بِحَبْلَيها فَصَدَّتْ مَخَافةً
…
وفي الحَبْلِ رَوعاءُ الفُؤادِ فَروقُ (2)
وقال: أرادَ: أَقبلَت بِحَبلَيها. وبقول الآخر (3):
حَنَتْنِي حَانياتُ الدهرِ حتى
…
كأَنِّي خَاتِلٌ أَدنُو لِصَيدِ
قريبُ الخَطْوِ يَحسبُ مَن رآني
…
ولستُ مُقيَّدًا أَنِّي بِقَيدِ (4)
يريد: مقيَّدًا، فأوجبَ إعمالَ فعلٍ مَحذوفٍ، وإظهارَ صلته وهو متروك» (5).
ثم أخذ الطبري في رده لفهم الفراء للشواهد، وشرحه لها، فقال:«وأما ما استشهد به لقوله من الأبيات، فغير دال على صحة دعواه؛ لأن في قول الشاعر: «رأتني بِحَبليها» دلالةً بينةً في أنها رأتهُ بالحبل مُمسكًا، ففي إخباره عنها أَنّها رأتهُ بِحبليها، إخبارٌ منه أنها رأته مُمسكًا بالحبلين، فكان فيما ظهر من الكلام مستغنى عن ذكر الإمساك، وكانت الباء صلة لقوله رأتني» (6).
وقد يكون التعقب لفهم الشاهد ودلالته على الآية، وليس لشرحه، ومن ذلك قول الطبري في رده على أبي عبيدة: «وقد زعم بعض أهل العربية من أهل البصرة أن الذي في قوله: {كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} [البقرة: 17](7) بمعنى: الذين، كما قال جل ثناؤه: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ
(1) هو حميد بن ثور الهلالي.
(2)
انظر: ديوانه 35.
(3)
هو أبو الطمحان حنظلة بن الشرقي من بين القين، شاعر مخضرم.
(4)
معاني القرآن للفراء 1/ 230، ديوان المعاني للعسكري 2/ 161، وقد اقتصرت طبعة البابي الحلبي 4/ 49 على البيت الأول دون الثاني، وهو محل الشاهد، وهو منقول من كلام الفراء في المعاني، ولعله سهو من الناسخ، وقد أثبته محمود شاكر في طبعته، وكذا الدكتور التركي. انظر: الحاشية التالية.
(5)
تفسير الطبري (شاكر) 7/ 113 - 114، (هجر) 5/ 684 - 685.
(6)
المصدر السابق 7/ 114.
(7)
البقرة 17.
وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33)} [الزمر: 33](1). وكما قال الشاعر (2):
فإِنَّ الذي حانَتْ بِفَلجٍ دماؤُهُم
…
هُمُ القومُ كُلُّ القومِ يا أمَّ خالدِ (3)
قال أبو جعفر: والقول الأول هو القول لما وصفنا من العلة، وقد أغفل قائل ذلك فرقَ ما بين (الذي) في الآيتين وفي البيت؛ لأن الذي في قوله:{وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ} قد جاءت الدلالة على أن معناها الجمع، وهو قوله:{أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} ، وكذلك (الذي) في البيت، وهو قوله (دماؤهم)، وليست هذه الدلالة في قوله:{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} [البقرة: 17] فذلك فرق ما بين الذي في قوله: {كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} وسائر شواهده التي استشهد بها على أن معنى (الذي) في قوله: {كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} بِمعنى الجماعة. وغيرُ جائزٍ لأحد نقلَ الكلمة التي هي الأغلب في استعمال العرب على معنى إلى غيره إلا بحجةٍ يجبُ التسليم لها» (4).
وقد كانت ردود الطبري على أبي عبيدة في فهمه لمعاني القرآن بسبب عدم عناية أبي عبيدة بتفسير السلف، واعتماده فيما يفسر على اللغة والشعر، ومن ذلك قول الطبري: «وقد زعم أيضًا بعض من ضعفت معرفته بتأويل أهل التأويل، وقلَّت روايته لأقوال السلف من أهل التفسير، أنَّ الرحمنَ مَجازهُ: ذو الرَّحمةِ، والرحيمَ مَجازهُ الرَّاحمُ، ثم قال: قد يقدرون اللفظين من لفظٍ، والمعنى واحد، وذلك لاتساع الكلام عندهم. قال: وقد فعلوا مثل ذلك فقالوا: نَدْمَانُ ونَدِيْمُ، ثم استشهد ببيت برج بن مسهر الطائي:
ونَدمانٍ يزيدُ الكأسَ طيبًا
…
سَقَيتُ إذا تغوَّرَتِ النُّجومُ (5)
(1) الزمر 33.
(2)
هو الأشهب بن رميلة. .
(3)
انظر: شعراء أمويون 231، الحماسة البصرية 2/ 755، أمالي بن الشجري 3/ 57، خزانة الأدب 2/ 509
(4)
تفسير الطبري (شاكر) 1/ 320 - 321، وانظر: 1/ 432، تفسير الطبري (هجر) 2/ 471.
(5)
انظر: ديوان الحماسة 383، شرح الحماسة للمرزوقي 3/ 1272، ونُسِبَ لعمرو بن شأس الأسدي.
واستشهد بأبيات نظائر له في النديم والندمان ففرق بين معنى الرحمن والرحيم في التأويل لقوله الرحمن ذو الرحمة والرحيم الراحم وإن كان قد ترك بيان تأويل معنيهما على صحته
…
». إلى أن قال منتقدًا لمسلك أبي عيدة: «ولكن القول إذا كان على غير أصلٍ معتمدٍ عليه كان واضحًا عَوَارهُ» (1). فهو يرد قول أبي عبيدة لمخالفته لتفسير السلف. وقال في موضع آخر بعد ترجيحه لقول مفسري السلف على تفسير أهل اللغة وهو يشير إلى أبي عبيدة: «وإنما اخترنا هذا القول على غيره من الأقوال لموافقته أقوال أهل العلم من الصحابة والتابعين، إذ كنا لا نستجيز الخلاف عليهم فيما استفاض القول به منهم، وجاء عنهم مجيئًا يقطع العذرَ. فأما الذين قالوا في ذلك غير ما قلنا مِمَّن قال فيه على وجه الانتزاع من كلام العرب، من غير أن يعزوه إلى إمامٍ من الصحابة أو التابعين، وعلى وجه تَحميلِ الكلام غير وجهه المعروف فإنهم اختلفوا في معناه بينهم
…
» (2). فظهر أن الطبري يعيب تفسير أهل اللغة بأنهم لا يتلفتون إلى تفسير الصحابة والتابعين، ويقولون في معاني القرآن بما ورد في اللغة والشعر، دون نظر إلى خصوصية القرآن الكريم، وتقدم الصحابة والتابعين في معرفة معانيه على غيرهم.
ومن الأمثلة على اختلاف المفسرين في معاني الشاهد الشعري اختلافهم في قول عمرو بن كلثوم في معلقته:
وأَيَّامٍ لنَا غُرٍّ طِوَالٍ
…
عَصينا المَلْكَ فيها أَنْ نَدِينَا (3)
فقال الطبري: «وقال آخرون منهم: قد وجدنا لتسمية النعم بالأيام شاهدًا في كلامهم، ثم استشهد لذلك بقول عمرو بن كلثوم:
وأَيَّامٍ لنَا غُرٍّ طِوَالٍ
…
عَصينا المَلْكَ فيها أَنْ نَدِينَا
(1) تفسير الطبري (شاكر) 1/ 132.
(2)
تفسير الطبري (هجر) 16/ 38 - 39.
(3)
انظر: ديوانه 370.
وقال: فقد يكون إنما جعلها غرًا طوالًا، لإنعامهم على الناس فيها. قال: فهذا شاهد لمن قال: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} [إبراهيم: 5](1) بنعم الله، ثم قال: وقد يكون تسميتها غُرًّا لعلوهم على المَلِكِ وامتناعهم منه، فأيامهم غُرٌّ لهم، وطِوَالٌ على أعدائهم.
قال أبو جعفر: وليس للذي قال هذا القائل من أن في هذا البيت دليلًا على أن الأيام معناها النعم وجهٌ؛ لأن عمرو بن كلثوم إنما وصف ما وصف من الأيام بأنها غرٌّ لعز عشيرته فيها، وامتناعهم على الملك من الإذعان له بالطاعة، وذلك كقول بعض الناس: ما كان لفلان قط يوم أبيض، يعنون بذلك أنه لم يكن له يوم مذكور بخير، وأما وصفه إياها بالطول، فإنها لا توصف بالطول إلا في حال شدة، كما قال النابغة:
كِلِينِي لِهَمٍّ يا أُميمةُ نَاصِبِ
…
ولَيلٍ أُقاسيهِ بِطيءِ الكَواكِبِ (2)
فإنما وصفها عمرو بالطول لشدة مكروهها على أعداء قومه، ولا وجه لذلك غير ما قلتُ» (3).
ومن الأمثلة ما ذكره ابن عطية كذلك عند تفسير قوله تعالى: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)} [البقرة: 147](4) حيث قال: «الخطابُ للنبيِّ، والمرادُ أمته. وامترى في الشَّيءِ إذا شكَّ فيه، ومنه المراء؛ لأنَّ هذا يشكُّ في قولِ هذا. وأنشدَ الطَّبريُّ (5) شاهدًا على أنَّ الممترينَ شاكُّونَ قولَ الأعشى:
تَدُرُّ عَلَى أسْؤُقِ المُمْتَرِيـ
…
ـنَ رَكْضًا إذا مَا السَّرَابُ ارْجَحَنْ (6)
ووهِم في ذلك؛ لأنَّ أبا عبيدةَ وغيره قالوا: الممترين في البيت:
(1) إبراهيم 5.
(2)
انظر: ديوانه 15.
(3)
تفسير الطبري (هجر) 13/ 595 - 596.
(4)
البقرة 147.
(5)
انظر: تفسير الطبري (شاكر) 3/ 191.
(6)
انظر: ديوانه 73.