الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خاتِمة البحث
الحمد لله الذي أَعانَ ووفَّقَ للانتهاءِ إلى هذه الخاتِمَةِ، وفيها أذكر أهم النتائج التي توصلَ إليها البحثُ، وبعضُها سبقت الإشارةُ إليه بتفصيلٍ، وبعضها نتيجة القراءة في هذا الموضوع، ولَم أجد لها مناسبةً أثناء البحث التزامًا بالخطة، وأُجْملُ ذلك في الآتي:
- تبيَّنَ من خلال هذا البحث أَهميَّة العناية بالاختيارات المتقدمة للشعر العربي التي اختارها المُفضَّلُ الضبيُّ وهي «المُفضليَّات» ، والتي اختارها الأصمعيُّ وهي «الأصمعيَّات» ، ثُمَّ التي اختارها أبو تَمَّام وسَمَّاها «الحماسة» والحماسة الصغرى المعروفة بـ «الوحشيات» ، ذلك أنَّ معظم شواهد المفسرين لا تَخرجُ عن هذه المختارات، والشعر الذي تشتمل عليه هذه الاختيارات من شعر الاحتجاج، ويُمكنُ التحققُ من ذلك بالنظر في شواهد الشعراء المقلين من أمثال الأشهب بن رُمَيلة، وأبي الغُول الطُّهَويِّ، وربيعةَ بن مَقرومٍ الضبيِّ، وضابي بن الحارث البُرجُميِّ ونحوهم، فستجد أَنَّ الشواهد التي ذكرَها المفسرون لهم لا تَخرجُ عن تلك القصائد التي وردت في تلك الاختيارات، وأكثر من رأيته عُنِيَ بديوانِ الحماسةِ من المُفسرينَ هو الزمخشريُّ وابن عطيَّة.
- الألفاظ قليلة الورود في القرآنِ يُستشهدُ لها بشواهدَ محفوظة غيرِ مُكررةٍ، مثل لفظةُ «خَتَّار» في قوله تعالى:{وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} [لقمان: 32](1). وهذا يدل على أن الألفاظ القليلة الاستعمال في القرآن، قليلة الاستعمال أيضًا في شعرِ العَرَبِ وكلامِها، ويؤكد أَنَّ القرآنَ نَزلَ باللغة المستفيضةِ المشهورة من لغة العرب دون الشاذ النادر
(1) لقمان 32.
منها، وهذا ما ذهب إليه العلماء من أَنَّه يَجبُ حَملُ معاني القرآن على المشهور المعروف من لغة العرب، دون النادر الشاذ.
- القرآن الكريم نزل بلغات العرب، ولم يقتصر نزوله على لغة قريش خاصة كما ذهبَ إلى ذلك بعضُ العلماء، وفي استشهاد المفسرين وأصحاب المعاني والغريب بشعر قبائل العرب دون تفريق إجْماعٌ على أنه لم يَنْزِل بلغةِ قريشٍ وحدَها، ولو كان القرآن نزل بلغة قريش لما احتاج الناسُ إلى الشعر للاستشهاد به على فهمِ المُشكلِ والغريبِ، وكان عليهم الرجوعُ إلى شعر قريش ونثرهم للاستشهاد به في توضيح ما فيه من مشكل وغريب، لا إلى شعر العرب وكلامهم من غير قريش، ثم إن وجود الغريب في القرآن والمشكل وحروف خفي معناها على بعض القرشيين كأبي بكر وعمر دليل على أنه لم يَنْزِل بلسان قريشٍ وحدها، وقد فَصَّلَ الباحثون هذه المسألة. (1)
- قبيلة تَميمٍ استحوذت على النصيب الأكبر من حيث عدد الشعراء وعدد الشواهد الشعرية في كتب التفسير، فقد استشهد المفسرون بثمانيةٍ وخَمسينَ شاعرًا من شعراء تَميم في الجاهلية والإسلام. يأتي بعد تَميمٍ قبائلُ كنانة، ثُمَّ يأتي بعد هاتين القبيلتين قبيلة بكر ببطونها المختلفة، ومنهم شعراء قيس، وغيرهم من بطون بكر.
- النُّزُوعَ للشاهد مطلبٌ قَديمٌ في عصور صفاء اللغة، والشعر بوجهٍ خاص، فقد كان الصحابة رضي الله عنهم يطلبون الشاهد من الشعر مع سلامة سليقتهم بمقاييس العلماء، غير أنه لم يكن يقنعهم إلا الرواية عمَّن سبقَ كما قال ابن سلَّام، وإن كانوا قد قبلوا شواهد للمعاصرين لهم كما صنع ابن عباس في استشهاده بشعر عمر ابن أبي ربيعة، واستشهد عكرمة بشعر ثابت قطنة.
(1) انظر: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي 8/ 624 - 670.
- اعتمد المفسرون على شعراء الجاهلية اعتمادًا كبيرًا في الاستشهاد، ولم يعدلوا بشعرهم شعر غيرهم، بدليل أن الطبري قد استشهد بشعر مائة واثنين وعشرين شاعرًا جاهليًا أمكن معرفتهم، وقد يكون من جُملة الأبيات المَجهولة من قالها من شعراء الجاهلية، من مُجمل شعراء الشواهد الذين استشهد الطبري بشعرهم وعددهم يصل إلى ثلاثِمائة وعشرة شعراء، وهي نسبة تُمثلُ 39.3 % من شعراء الطبري في تفسيره. وقد استشهد لهم بِمَا يزيد عن خَمسمائةٍ وخَمسينَ شاهدًا شعريًا من مجموع شواهده المنسوبة التي بلغت ألفًا وثلاثمائة وأربعين شاهدًا شعريًا، وهو يمثل نسبة 41% من الشعر المنسوب في تفسير الطبري لشعراء الجاهلية.
- جاء منهج المفسرين في الاعتماد على شعراء الجاهلية أكثر من غيرهم، موافقًا لمنهج اللغويين، وتقاربت تقاربًا كبيرًا نسبة شعراء الجاهلية الذين استشهد بهم المفسرون واللغويون، ثم جاء بعدهم شعراء الإسلام وبني أمية.
- جاء الشاعر الأعشى في مقدمة شعراء الجاهلية في تفسير الطبري، فقد استشهد له الطبري بِمائةٍ وثَمانيةَ عشرَ شاهدًا، واستشهد له القرطبيُّ بِمائةٍ وثلاثينَ شاهدًا شعريًا، وأكثر ابن عطية والزمخشري من الاستشهاد بشعره، ثم يأتي بعده بقية الشعراء الجاهليين والإسلاميين كالنابغة الذبياني، وجرير والفرزدق، ورؤبة بن العجاج وأبيه العجاج وذي الرمة.
- يُعَدُّ مجاز القرآن لأبي عبيدة مصدرًا أصيلًا للشواهد الشعرية في كتب التفسير واللغة، والمفسرون عيالٌ عليه في الشواهد، وخاصة شواهد الغريب، وقد زاد عدد شواهده الشعرية على تسعمائة شاهد، وبعده الفراء في معاني القرآن وبلغ عدد شواهده سبعمائة وخَمسة وثَمانين شاهدًا بدون المكرر من الشواهد، وأَمّا ابن قتيبة فقد بلغت شواهدُ غريب القرآن له
مائة واثنين وثَمانين شاهدًا، وشواهدُ تأويل مشكل القرآن ثلاثَمائة وواحدٍ وستين شاهدًا.
- تَميزَ الإمام الطبري على بقية المفسرين بقدرته على شرح الشواهد الشعرية وفهمها، وبيان أوجه الاستشهاد منها، ثُمَّ يليه ابن عطية في ذلك، واستدراكات ابن عطية على الطبري في فهم الشواهد دليل على بصره بالشعر.
- يُعدُّ القرطبيُّ أكثرَ المفسرين جَمعًا للشواهد الشعرية بأنواعِها فقد بلغت شواهده الشعرية أربعة ألاف وثَمانِمائة وسبعة شواهد شعرية (4807)، ثُمَّ يليهِ الطبري وعدد شواهده ألفان ومائتان وستون شاهدًا (2260)، ثُمَّ ابن عطية وعدد شواهده ألف وتسعمائة وواحد وثمانون شاهدًا (1981)، ثُمَّ الزمخشري وعدد شواهد تسعمائة وشاهد شعري واحد (901)، كما سبق بيانه في إحصاء الشواهد في كتب التفسير.
- تبين لي أن المفسرين قد أودعوا كتبهم معظم المادة العلمية والشعرية في كتب معاني القرآن وغريبه، وخاصةً مجاز القرآن لأبي عبيدة، ومعاني القرآن للأخفش والفراء والزجاج، وقد استوعب تفسير الطبري معاني القرآن للفراء والأخفش ومجاز أبي عبيدة بشواهدها، حتى لا يكاد يَنِدُّ عنك شيء منها في تفسيره، وصنع أكثر منه القرطبي في تفسيره لتأخر عصره، ووفرة مصادره.
- الشواهد الشعرية في كتب معاني القرآن وغريب القرآن والتفسير واللغة شواهد مكررة، فلا يكاد المتأخر يضيف جديدًا على ما استشهد به علماء الطبقات الأولى من أهل اللغة والتفسير، مِمَّا يدلُّ على وحدةِ المصادرِ، وقد دفع هذا إلى حصر هذه الشواهد وصناعة معاجم للشواهد الشعرية لدى المتأخرين.
- غلبة جانب التقليد في الاستشهاد بالشواهد الشعرية، لدى
المفسرين المتأخرين كالقرطبي ومن بعده، وقلة جانب الاجتهاد في البحث عن شواهد شعرية لم يسبق للمتقدمين الاستشهاد بها في المَجموعات الشعرية والدواوين المروية للشعراء لإثراء الشواهد وتوسيع مجال فهم وجه الاستشهاد لا الشاهد نفسه، حيث إن وجه الاستشهاد هو المقصود ابتداءً.
- الحاجة إلى دراسة أساليب العرب من خلال الشعر الجاهلي وحصرها وتبويبها، لموازنتها بعد ذلك بأساليب القرآن، التي صَنَّفَ العلامةُ محمد عبد الخالق عضيمة كتابه «دراسات لأسلوب القرآن الكريم» في دراستها، وقد أشار إلى ذلك محمود شاكر رحمه الله في تقديمه لكتاب عضيمة.
- الحاجة لتدريس مادة الشعر الجاهليِّ في تَخصص الدراسات القرآنية لربط طلاب العلم بلغته، والعودة بِهم إلى اللغة العربية في مصادرها الأولى، والتمرس بأساليب العربية الفصحى؛ ليتسنى لهم دراسة لغة القرآن الكريم، وموزانة لغته بلغة ذلك الشعرِ الجزلِ، الذي كان ذروة بلاغة مَنْ نَزَلَ القرآنُ عليهم بلسانِهم، وعَجَزوا عن معارضته رغمَ التحدِّي المُتكرر.
- دراسة علاقة الشعر الجاهلي بإعجاز القرآن الكريم موضوع جدير بالبحث والدراسة، وينبغي لمن يتصدى لذلك أن يكون عميق المعرفة بشعر الجاهلية على وجه الخصوص، بصيرًا بِمعانيهِ، متذوقًا للشعر، وإن كان أمثال هؤلاء على حد قول أبي عمرو بن العلاء:«العلماءُ بالشِّعرِ أَعَزُّ من الكِبْريتِ الأَحْمر» (1).
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1) إعجاز القرآن للباقلاني 203.