الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العربَ تقول: وعدتهُ خيرًا ووعدته شرًا، فلو أسقطوا الخير والشر، قيل في الخير: وعدتُ، وفي الشر: أوعدت. (1)
فبَيَّن له الفَرقَ بين الوعدِ والوعيدِ، وأَنَّ الوفاء بالوعد مَكرمةٌ، وأَنَّ الذي يفي بوعدهِ يُقالَ له: وَفَى، أَمَّا الذي لا يَوقعُ بوعيدهِ فيقال: إِنَّه عفا، وشتَّان بينهما.
وأَمَّا في كتب التفسير، فقد وردت مسائلُ متفرقةٌ من مسائل العقيدةِ التي وقَعَ الخلافُ فيها بَيْنَ أهلِ السنَّةِ وغَيْرِهم، وذلك في آيات القرآن التي تتناول صفات الله سبحانه وتعالى بصفةٍ خاصةٍ، وغيرها من الآيات، استشهد فيها المخالفونَ بشواهدَ من الشعرِ كانت هي حجتُهُم فيما ذهبوا إليه من أقوال. وهي أمثلة قليلة، ليس لها كبير تأثير في التفسير، ومن هذه الأمثلة:
1 - استواء الله على عرشه:
وصفَ الله في كتابه الكريم نَفسَهُ بأَنَّه مستوٍ على عَرشهِ في سبع آياتٍ صريحة، هي قوله تعالى:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (2) في ست آيات [الأعراف: 54، يونس 3، الرعد 2، الفرقان: 59، السجدة 4، الحديد 4] وقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: 5](3)، وفي هذه الآيات الكريمات إثباتُ صفةِ استواء الله - تعالى - على عرشه.
ومن السنة حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيده، فقال:«يا أبا هريرة! إِنَّ اللهَ خَلَقَ السماواتِ والأرضين وما بينهما في ستةِ أَيامٍ ثُمَّ استوى على العَرشِ» . (4) وحديث قتادة بن النعمان رضي الله عنه؛ قال: سَمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لَمَّا فَرَغَ اللهُ مِنْ خلقهِ؛ استوى
(1) انظر: عيون الأخبار 5/ 142، طبقات النحويين واللغويين 34، إنباه الرواة 4/ 139.
(2)
[الأعراف: 54، يونس 3، الرعد 2، الفرقان: 59، السجدة 4، الحديد 4].
(3)
طه 5.
(4)
رواه النسائي في التفسير 412 وهو حديث حسن، وانظر: مختصر العلو 71.
على عرشه». (1)
وقد دلَّ على هذه الصفةِ «نصوص الكتاب، والسنَّةِ، وإجْماعُ سلفِ الأمة، وأئمةِ السنة، بل على ذلك جَميعُ المؤمنين الأولين والآخرين» . (2) وذلك لأن «الآثار عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، وسائر علماء الأمة متواترة عندَ مَن تتبعها، قَد جَمعَ العلماءُ فيها مصنفاتٍ صغارًا، وكبارًا» (3) فأدلة ثبوت صفتي الاستواء على العرش، والعلو كثيرة، وهي من أبلغ المتواترات اللفظية، والمعنوية. (4) وهي من الصفات السَّمعيةِ الفعلية المعلومةِ بالخَبَرِ (5)، وهذا قول أئمة أهل الحديث والسنة. (6)
غير أَنَّ المخالفين لأهل السنة قد نفوا صفة الاستواء، وتأولوها بالاستيلاء، واستشهدوا على هذا التأويل بقول الشاعر:
قد استَوَى بِشْرٌ على العِرَاقِ
…
مِنْ غَيْرِ سَيفٍ أَو دَمٍ مُهْرَاقِ
وهذا الشاهد شاهد مُفْرَدٌ اختُلِفَ في نسبته، فنُسِبَ للبُعيث المُجاشعيِّ، ونُسب للأخطلِ وكلاهُما مِن شعراء بني أمية. (7) على أَنَّ بعض كبار اللغويين قد أَنكرَ هذا البيتَ، ومِمَّنْ ردَّهُ الإمامُ الخطَّابيُّ بقوله:«وزعم بعضهم أَنَّ الاستواءَ ها هُنا بِمعنى الاستيلاء، ونَزَعَ فيهِ ببيتٍ مَجهولٍ، لم يقلهُ شاعرٌ معروفٌ يصحُّ الاحتجاجُ بقولهِ» . (8) وقد
(1) قال ابن القيم في «اجتماع الجيوش الإسلامية» 107: «روى الخلالُ في «كتاب السنة» بإسنادٍ صحيحٍ على شرط البخاري عن قتادة ثُمَّ ذَكرهَ، وقال الذهبي في «العلو» 52:«رواته ثقات» ، ولم يُعلِّق عليه الألباني في «مختصر العلو» .
(2)
التسعينية لابن تيمية 2/ 545.
(3)
التسعينية 2/ 565، 568.
(4)
انظر: مجموع الفتاوى 5/ 15.
(5)
انظر: المصدر السابق 5/ 523، وانظر: 5/ 227.
(6)
انظر: المصدر السابق 5/ 397 - 398.
(7)
نسبه للبعيث المجاشعي المرزوقي في الأزمنة والأمكنة 34، ونسبه بعضهم للأخطل كما في شرح القاموس وليس في ديوانه.
(8)
من كتابه «شعار الدين» ، بواسطة مختصر الصواعق المرسلة للموصلي 3/ 891.
سُئِلَ ابن الأعرابي: هل يصحُّ أن يكون استوى بِمعنى استولى؟ فقال: لا تعرفُ العرب ذلك. (1) وأنكرهُ الخليلُ بنُ أَحْمد، وأبو العباس ثعلب، ونفطويه، وغيرهم. (2) وقد أشار ابن القيم إلى أَنَّهُ مع التسليم بصحة هذا البيت فصوابُ إنشاده:
.....................
…
بِشْرٌ قد استولى على العِراقِ
ولم يذكر الدليل على هذا، غير أَنَّهُ في هذا يَسيرُ على منهج شيخ الإسلام ابن تيمية في رده لهذا البيت، حيث قال:«ولم يُثْبِت نَقلٌ صحيحٌ أَنَّه شعرٌ عربي، وكان غيرُ واحد من أئمة اللغةِ أَنكروه، وقالوا: إِنَّهُ بيت مصنوعٌ لا يُعرفُ في اللغة، وقد عُلِمَ أنه لو احتج بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لاحتاج إلى صحته، فكيف ببيت من الشعر لا يعرف إسناده؟ وقد طعن فيه أئمة اللغة، وذُكِرَ عن الخليل كما ذكره أبو المظفر في كتابه الإفصاح قال: سُئِل الخليلُ: هل وجدت في اللغة استوى بِمَعنى استولى؟ فقال: هذا ما لا تعرفهُ العربُ، ولا هو جائزٌ في لغتها. وهو إمام في اللغة على ما عُرِفَ مِن حالهِ، فحينئذٍ حَملهُ على ما لا يُعرَفُ حَملٌ باطلٌ» . (3)
والمفسرون في كتب التفسير قد اختلفت أقوالهم في تفسير هذه الآياتِ، بِحَسبِ عقائِدِهِم، فأَهلُ السنة يُثبتون هذه الصفةَ وغَيْرَها لله سبحانه وتعالى دونَ تكييفٍ لها ولا تعطيلٍ، ولا تَمثيلٍ ولا تشبيهٍ بِخلقهِ، في حين يفرُّ غيرُهم من إِثباتِ هذه الصفات ظنًا وتوهمًا أَنَّ في إثباتها تنقصًا لله سبحانه وتعالى، وتشبيهًا له بخلقه.
وقد فَصَّلَ الإمام الطبري القولَ في هذه الصفةِ فقال عند تفسيره
(1) انظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي 676 - 668، 3/ 443، تاريخ بغداد 5/ 283، مجموع الفتاوى 5/ 146، 16/ 404.
(2)
انظر: مختصر الصواعق المرسلة للموصلي 1/ 97 وانظر ما قاله المحقق في الحاشية (3).
(3)
مجموع الفتاوى 5/ 146 - 147.
لقوله تعالى في سورة البقرة: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)} [البقرة: 29](1): «الاستواءُ في كلام العرب مُنصِرفٌ على وُجوهٍ:
- منها انتهاءُ شبابِ الرجلِ وقُوَّتِه، فيقالُ إذا صار كذلكَ: قد استوى الرجلُ.
- ومنها استقامةُ ما كان فيهِ أَوَدٌ من الأُمورِ والأسبابِ. يقالُ منهُ: استوى لِفلانٍ أمرُه إذا استقامَ لَه بعدَ أَوَدٍ، ومنه قول الطرماح بن حكيم:
طالَ عَلى رَسْمِ مَهْدَدٍ أَبَدُهْ
…
وعَفا واسْتَوى بهِ بَلَدُهْ (2)
يعني: استقامَ به.
- ومنها الإقبالُ على الشيءِ بالفعلِ، كما يقالُ: استوى فلانٌ على فلانٍ بِما يكرههُ ويَسوءُهُ بعدَ الإحسان إليهِ.
- ومنها الاستيلاءُ والاحتواءُ، كقولهم: استوى فلانٌ على المملكةِ، بِمعنى: احتوَى عليها وحازَها.
- ومنها العُلوُّ والارتفاعُ، كقول القائل: استوَى فُلانٌ على سَريرهِ. يعني به عُلُوَّهُ عليه». (3)
ثم بعد أن ذكر الطبري معاني الاستواء في لغة العربِ، اختارَ منها قولًا مناسبًا لسياق الآيات، فقال:«وأَولى المعاني بقولِ الله جلَّ ثناؤهُ: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} عَلا عليهنَّ وارتفعَ فدبَّرهنَّ بقدرتهِ، وخَلقَهنَّ سبعَ سَماواتٍ» . (4)
(1) البقرة 29.
(2)
رواية الديوان: طالَ في رَسْمِ مَهْدَدٍ رَبَدُهْ، ومَهْدَد اسم امرأة، والبيت على رواية الطبري مختلف الوزن، فصدره من المنسرح، وعجزه من الخفيف، بخلاف الديوان فوزن القصيدة كلها من الخفيف. انظر: ديوانه 193.
(3)
تفسير الطبري (هجر) 1/ 456 - 457.
(4)
تفسير الطبري (هجر) 1/ 456 - 457.
ونظرًا لما أثارته هذه الآية ونظائرُها مِنْ خِلافٍ حولَ تفسيرها، أشار الطبريُّ إلى رأي المخالفين لأهلِ السنَّة من المعتزلة وغيرهم فقال:«والعَجَبُ مِمَّنْ أَنكرَ المعنى المفهومَ من كلامِ العربِ في تأويل قول الله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة: 29] الذي هو بِمعنى العُلوِّ والارتفاعِ هَربًا عند نفسهِ مِنْ أَنْ يَلزمَهُ بزعمه - إذا تأَوَّله بِمعناه المفهوم كذلكَ - أَنْ يكونَ إِنَّما علا وارتفعَ بعدَ أَنْ كانَ تَحتها إِلى أَنْ تأَوَّله بالمَجهولِ مِنْ تأويلِه المُستَنْكَرِ ثُمَّ لم يَنْجُ مِمَّا هَرَبَ منه. فيقالُ له: زعمتَ أَنَّ تأويل قولهِ: {اسْتَوَى} [البقرة: 29] أَقبلَ؟ أَفكانَ مُدبرًا عن السماءِ فأَقبلَ إِليها؟ ! فإنْ زعم أَنَّ ذلك ليس بإقبالِ فعلٍ، ولكنَّه إقبالُ تدْبِيْرٍ. قيلَ لهُ: فكذلكَ فقل: علا عليها عُلوَّ مُلْكٍ وسُلطانٍ، لا عُلوَّ انتقالٍ وزوالٍ. ثُمَّ لن يقولَ في شيءٍ من ذلك قولًا إِلا أُلْزِمَ في الآخرِ مثلهُ، ولولا أَنَّا كرِهنا إطالةَ الكتابِ بِما ليس مِنْ جِنسهِ لأَنبأَنا عن فسادِ قولِ كُلِّ قائلٍ قال في ذلك قولًا لقولِ أهلِ الحقِّ فيه مُخالفًا، وفيما بَينَّا منهُ ما يُشْرِفُ بذي الفَهْمِ على ما فيه له الكفايةُ إن شاء الله تعالى» . (1)
وقال السَّمعاني وهو من أهل السنَّةِ عند تفسيره قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54](2): «أَوَّلَ المُعتزلةُ الاستواءَ بالاستيلاءِ، وأنشدوا فيهِ:
قد استَوَى بِشْرٌ على العِرَاقِ
…
مِنْ غَيْرِ سَيفٍ أَو دَمٍ مُهْرَاقِ
وأَمَّا أهلُ السنَّةِ فَيتَبَرءونَ مِن هذا التأويلِ، ويقولون: إِنَّ الاستواءَ على العرشِ صِفةٌ لله تعالى، بلا كَيفٍ، والإيمانُ بِهِ واجبٌ، كذلكَ يُحكى عَن مالك بن أنسٍ وغَيرهِ من السَّلفِ أَنَّهم قالوا في هذه الآيةِ: الإيمانُ به واجبٌ، والسؤال عنه بدعة». (3)
وقد أَصبحَ هذا الشاهدُ الشعريُّ الذي استدلَّ بهِ المُخالِفونَ للسَّلفِ
(1) تفسير الطبري (هجر) 1/ 457.
(2)
الأعراف 54.
(3)
تفسير السمعاني 2/ 188.
حُجةً يعولون عليها في نفي هذه الصفة، ويُؤِّولونَ الاستواءَ في الآيات الدالة على صفةِ الاستواءِ بالاستيلاءِ استشهادًا بِهذا الشاهد، حتى لا يكادُ يَخلو منهُ كتابُ تفسيرٍ، ولا عقيدةٍ، ولا بلاغةٍ. (1)
والتحقيق في هذه المسألة هو أن يُقالَ: الاستواء يأَتي في اللغةِ للمعاني التي ذكرها الطبريُّ وهي: التمام والكمال، واستقامةُ ما كان فيهِ أَوَدٌ، والإقبالُ على الشيءِ، والاستيلاءُ والاحتواءُ، والعُلوُّ والارتفاعُ، غير أَنَّ لكلِّ معنى منها سياقًا يناسبه، وتفصيل ذلك على النحو الآتي:
- إذا تعدَّى فعل «استوى» بنفسه كما في قوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} [القصص: 14](2) كان بِمعنى بلوغ التمام ولكمال والغاية في القوةِ. (3) وأكثرُ استعمالِ شُعراءِ الجاهليةِ لِهذا الفعلِ بِهذا المعنى، متعديًا بنفسه، ومن ذلك قول خِرْنِق بنتِ بدرِ بن هَفَّان وهي جاهلية:
عَدَدنا لَهُ خَمسًا وَعِشرينَ حِجَّةً
…
فَلَمّا تَوَفّاها اِستَوى سَيِّدًا ضَخما (4)
وقالت أم عمرو وهي شاعرةٌ جاهليةٌ:
حينَ اِستَوى وَعلا الشبابُ بهِ
…
وَبَدا مُنِيْرَ الوَجْهِ كالبَدْرِ (5)
وقال حاتم الطائي وهو جاهلي:
يَنامُ الضُحى حَتّى إِذا يومُهُ اِستَوى
…
تَنَبَّهَ مَثلوجَ الفُؤادِ مُوَرَّما (6)
(1) زاد المسير 3/ 213، تفسير الرازي 1/ 143، 25/ 148، الجامع لأحكام القرآن 1/ 255، 7/ 220، البحر المحيط 1/ 280، بحر العلوم للسمرقندي 1/ 106، ، تفسير البيضاوي 1/ 274، حاشية محي الدين زاده على البيضاوي 1/ 235، السراج المنير للشربيني 1/ 43، أضواء البيان 7/ 293، روح المعاني 3/ 88، 8/ 135، 16/ 155، فتح القدير 2/ 211، مناهل العرفان 2/ 209، لسان العرب 14/ 414 (سوا).
(2)
القصص 14.
(3)
انظر: تفسير الطبري (هجر) 18/ 181، تفسير السمعاني 4/ 127.
(4)
انظر: ديوانها 19.
(5)
انظر: زهر الآداب 2/ 123.
(6)
مَثْلُوجَ الفُؤادِ: ضَعيفَهُ، ساقطُ النَّفسِ والرأَي، والمُوَّرمُ مِنْ كثرةِ النومِ. انظر: ديوانه 226.
وقال حنظلة بن أبي عفراء الطائي وهو جاهلي:
يُهِلُّ صَغيرًا ثُمَّ يَعظُمُ ضَوءُهُ
…
وَصورَتُهُ حَتّى إِذا ما هُوَ اِستَوى
تَقارَبَ يَخبُو ضَوءُهُ وشُعَاعُهُ
…
ويَمصَحُ حتى يَسْتَسِرَّ فلا يُرى (1)
وقال أبو الأسود الدؤلي وهو مخضرم:
إِذا ما استَوى روقاكَ لَم يَهتَضِمهُما
…
عَدوٌّ وَلَم يأكُل ضَعيفَكَ آكِلُ (2)
- وأَمَّا إذا تعدى فعل «استوى» بحرف «إلى» فيكون معناه القصد إلى الشيء، ومن ذلك قوله تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [البقرة: 29]، وقوله تعالى:{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} [فصلت: 11](3)، ولم أجد لهذا الاستعمال شواهد من شعر العرب المُحتجِّ بِهم.
- وأما إذا تَعَدَّى فعلُ «استوى» بِحَرفِ «على» ، فلهُ أَربعةُ مَعانٍ ذَكرَها المفسرونَ من الصحابةِ والتابعينَ وغيرهم، وهي: العُلوُّ، والثباتُ، والاستقرارُ، والصعودُ. وهذا الاستعمال الذي وقع الخلاف فيه، فقد زعم المعتزلة والأشعرية وغيرهم أن استوى في هذه الآيات التي عَدَّي الفعلُ فيها بحرف «على» بِمعنى استولى لا بِمعنى ثَبَتَ وعلا واستقرَّ وارتفعَ، ولم يَجدو حُجةً مقنعةً تؤيد قولهَم - فيما أعلمُ - سوى الشاهد الشعري الذي اختلف في نسبته لشاعر، وهو قوله:
قد استَوَى بِشْرٌ على العِرَاقِ
…
مِنْ غَيْرِ سَيفٍ أَو دَمٍ مُهْرَاقِ
ولم أجده في شعر الشعراء المحتج بهم، ووجدته في شعر المتأخرين، كقول أبي العتاهية:
وَهُوَ الخَفِيُّ الظاهِرُ المَلِكُ الَّذي
…
هُوَ لَم يَزَل مَلِكًا عَلى العَرشِ اِستَوى (4)
(1) انظر: الأغاني 10/ 200.
(2)
انظر: ديوانه 356، حماسة البحتري 245.
(3)
فصلت 11.
(4)
انظر: ديوانه 27.
وظاهرٌ أَخذهُ لِهذا المعنى والتعبير من القرآن.
- وأما إذا عُدِّي فعل «استوى» بِحرف «في» ، كما في قول ذي الرمة يصف ناقته وحالها مع راكبِها:
تُصْغي إذا شَدَّها بالرَّحْلِ جانِحَةً
…
حتى إذا ما استوى في غَرزِها تَثِبُ (1)
فهو يُؤدِّي معنى التَّعديةِ بِحَرف «على» أو يقترب منه، بِمعنى الثبات والعلو والاستقرار على ظهر الدابة. وقد انتقد الأصمعي هذا البيت فقال:«كان ينبغي أن يستوي ثُمَّ تَثِبُ ناقتُه» . (2) وهذا الاستعمالُ نادرٌ في الشِّعر المُحتجِّ بهِ فيما وجدتُ، ومنه في شعر المتأخرين قول البُحتريِّ يَصِفُ بِرْذَونًا:
إذا استوَى الراكبُ في ظَهْرِها
…
طَامَنَتِ المَتْنَيْنِ كي تُرْدِفا (3)
فيتحصل من هذا الذي تقدم أَنَّ التعبير بـ «استوى على» من الأساليب التي انفردَ بِها القرآن الكريم للتعبير عن صفة الاستواء على العرش خاصةً، ويُمكنُ عَدُّها مِنْ مُبتكراتِ القُرآن - بحسب تعبير الطاهر بن عاشور في تفسيره. (4)
ويكون التفسير الأَسلم للمقصود بالاستواء في قول الشاعر:
قد استَوَى بِشْرٌ على العِرَاقِ
…
مِنْ غَيْرِ سَيفٍ أَو دَمٍ مُهْرَاقِ
هو أن «يكون «استوى» بِمعنى استعلى». (5) لا نفي هذا البيت، وهذا الاستعمال في لغة العرب، فإنه قد تقرر أنه ليس كلُّ ما صحَّ في اللغة صَحَّ حَملُ تفسيرِ القرآن عليه. فالقرآن له عُرفٌ خاص به، يُحمَلُ عليه ويُفسَّرُ به (6)، والإشكال داخل على من يرى تأويل صفة الاستواء
(1) انظر: ديوانه 1/ 48، الكتاب 3/ 60.
(2)
شرح الباهلي لديوان ذي الرمة 1/ 48.
(3)
انظر: ديوانه 3/ 1371.
(4)
انظر: التحرير والتنوير 3/ 284، 9/ 254، 13/ 196، 17/ 62 وغيرها.
(5)
شرح الحماسة 3/ 1541.
(6)
مجموع الفتاوى 5/ 146 - 147.
وغيرها من شبهة التجسيم والتشبيه التي يزعمونها لا من شواهد الشعر، ولذلك قال ابن عطية وهو ممن يرى تأويل صفة الاستواء: «واختصار القول في قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] أن يكون استوى بقهره وغلبته، وأما أن يكون استوى بمعنى استولى إن صحت اللفظة في اللسان، فقد قيل في قول الشاعر:
قد استَوَى بِشْرٌ على العِرَاقِ
…
مِنْ غَيْرِ سَيفٍ أَو دَمٍ مُهْرَاقِ
إنَّهُ بيتٌ مصنوعٌ». (1) فابن عطية يرى التأويل، ولو لم يصح هذا الشاهد الشعري.
والحق كما تقدم أن يُحملَ معنى الاستواء على المعاني المعهودة في القرآن والسنة، وهو إثبات علو الله على خلقه، واستواءه على عرشه. وهي المعاني التي نقلت عن السلف في ذلك (2)، لأنَّ «الاستواءَ عُلوٌّ خاص، فكلُّ مُستوٍ على شيءٍ عالٍ عليهِ، وليسَ كُلُّ عالٍ على شيءٍ مُستويًا عليهِ» (3)، والاستواء من الألفاظ المختصة بالعَرْشِ لا تضاف إلى غيره لا خصوصًا، ولا عمومًا. (4) وذلك لاختصاص القرآن بمعانٍ خاصة تعرف عن طريق النقل وأهل العلم.
بل إِنَّ العلماءَ قد ذكروا ما هو أَخَصُّ من ذلك، وهو أنَّ أقوال النبي صلى الله عليه وسلم المرفوعة يَجب أن لا تُحمَلَ على مُجرَّدِ ما يُراد باللفظِ في اللغةِ، وإِنَّما ينبغي الرجوعُ في فهمها إلى الفقهاءِ وأهلِ الحديثِ العارفين بِمعاني كلامه كالاختلاف في معنى النهي عن اشتمال الصمَّاءِ بين أهل اللغة وأهل الفقه، حيث ذكر أبو عبيد القاسم بن سلَّام معنى نَهي
(1) المحرر الوجيز 9/ 8.
(2)
انظر: درء تعارض العقل والنقل 2/ 21 - 22، مجموع الفتاوى 5/ 521، 16/ 399 - 403.
(3)
مجموع الفتاوى 5/ 522 - 523.
(4)
المصدر السابق 17/ 376، 5/ 145، التسعينية 2/ 567 - 568، درء التعارض 2/ 115.