الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وغيرهم الاستشهاد بها، من تلك التي لا شاهد فيها (1).
وقد عَمَدَ بعضُ المعاصرين إلى جمع تلك الإشارات التي ذكرها السيرافي والبغدادي وغيرهما من العلماء عن ذلك، وأقاموا عليها كتبًا تتهم أئمة العلماء بالتحريف والتغيير للشواهد الشعرية، ولا يُسَلَّمُ لهم بذلك (2).
2 - كثرة الشذوذ في الشعر
.
الشذوذ في اللغة هو الانفراد عن الجمهور والنُّدْرةُ (3). والمقصود به الشاهد الشعري الذي جاء مخالفًا للمشهور مما جمع الرواة من كلام العرب. ولما كان ما وصف بالشذوذ والندرة والقلة يعود غالبًا إلى مخالفة القياس، وقواعد النحويين، وإن نطق به العربي الفصيح، فقد قال عنه العلماء: يحفظ ولا يقاس عليه. كما قال سيبويه في مثل ذلك: «
…
فإِنَّما هذا الأقل نوادر تحفظ عن العرب، ولا يقاس عليها، ولكن الأكثر يقاس عليه» (4). ويبدو أن هذا هو موقف الحق والإنصاف، الذي يحفظ لقواعد العربية صحتها، وسلامتها، واطرادها، ويحفظ لذلك الشاعر مكانته، ويناسب كذلك طبيعة جمع العلماء الأوائل للغة، إذ لم يستطع ولم يدَّع أحدهم الإحاطة بجميع ما نطقت به العرب. والشذوذ لا يعني عدم الفصاحة، ولكنه يعني المخالفة للمشهور من كلام العرب. وقد
(1) انظر: خزانة الأدب 1/ 290، 2/ 308، 4/ 100، 152، 5/ 235، 422، 6/ 318، 7/ 74، 100، 372، 8/ 375، 398، 402، 11/ 54 وشرح شواهد المغني 1/ 128، 129، 150، 184، 185، 2/ 26، 27، 294، 296، 3/ 280، 287، 4/ 318.
(2)
انظر: شواهد سيبويه من المعلقات في ميزان النقد للدكتور عبد العال سالم مكرم، تغيير النحويين للشواهد للدكتور علي محمد فاخر. وقد رد الدكتور حسن موسى الشاعر على كتاب الدكتور عبد العال سالم مكرم بكتابه اختلاف الرواية في شواهد سيبويه.
(3)
انظر: لسان العرب 7/ 61 (شذذ).
(4)
الكتاب 4/ 8.
أشار إلى ذلك ابن جني تحت باب «القول على الاطراد والشذوذ» ، حيث ذكر أن «الاطراد هو التتابع والاستمرار، والشذوذ التفرق والتفرد، فجعل أهل العلم علم العرب ما استمر من الكلام في الإعراب وغيره من مواضع الصناعة مطردًا، وجعلوا ما فارق عليه بقية بابه وانفرد عن ذلك إلى غيره شاذًا» (1).
وهناك شواهد حكم عليها العلماء بالشذوذ، وقد شارك المفسرون في تعقب بعض الشواهد الشعرية التي حكم عليها بالشذوذ، مما يدل على عنايتهم وفطنتهم عند استخدام الشواهد الشعرية، ووعيهم للمؤاخذات التي وردت على بعض الشواهد. ومن الأمثلة على ذلك قول ابن عطية:«وفي مصحف ابن مسعود {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبٌ}، وجعل الخبر قوله: {أَنْ أَوْحَيْنَا} [يونس: 2] (2). والأول أصوب - أي جَعْلُ «عَجَبًا» خبرًا لكان -؛ لأن الاسم معرفةٌ، والخبر نكرة، وهذا القلب لا يصح، ولا يجيء إلا شاذًا، ومنه قول حسان:
يَكُونُ مِزَاجَها عَسَلٌ ومَاءُ (3)» (4).
وهذا المثال يحتمل أن يكون مقصود ابن عطية بمجيئه شاذًا أي في الشعر وغيره، غير أنه قد ذكر مثالًا له من الشعر، مما دفعني إلى الاستئناس بالتمثيل به.
وربما لم ترد بعض الألفاظ إلا في شاهد شعري وحيدٍ، كما ذكر الطبري أنه لا يزاد من بناء «فُعَال» على الأربع، فلا يقال خُمَاسَ وسُدَاسَ، إلا في عُشَارَ لِمَجيئها في بيت من شعر الكميت بن زيد، وهو قوله:
(1) الخصائص 1/ 97.
(2)
يونس 2.
(3)
انظر: ديوانه 12.
(4)
المحرر الوجيز 9/ 5.
فَلَمْ يَسْتَرِيثُوكَ حتى رَميتَ
…
فوقَ الرجالِ خِصَالًا عُشَارَا (1)
يعني: طعنت عشرةً (2). وهذا الشاهد يقيس عليه الكوفيون إلى التسعة نحو خُمَاسَ ومَخْمَس، وسُداسَ ومَسْدَس، ولم يَرِدْ بِها سَماعٌ عن العرب (3). وقد رويت لخلف الأحمر أَبياتٌ ذكر النحويون أَنَّها مِن وَضعِ خَلفٍ الأَحمر، ولا يصح الاستشهاد بِها (4).
وربما منع المفسرون القياس على ما لم يرد إلا في شاهد شعري، وعدوه شاذًا، غير مستعمل في لغة العرب على وجه مستقيم، كما قال ابن عطية عند تفسير قوله تعالى:{وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [الأنعام: 92](5): «ويقدر حذف التنوين للالتقاء، وإنما جاء ذلك شاذًا في الشعر في قوله (6):
فألفيتهُ غَيْرَ مُستعتبٍ
…
ولا ذاكرِ اللهَ إِلَّا قليلا (7)
ولا يُقَاسُ عليه» (8).
وهذا الشاهد قد استشهد به سيبويه (9)، والمبرد (10)، والفراء (11)،
(1) يستريثوك: يستبطئوك، ومعنى البيت: لما نشأتَ أسرعت في بلوغ الغاية التي لم يبلغها طلاب المعالي، ولم يقنعك ذلك حتى زدت عليهم بعشر خصال فقت بها السابقين، وأيأست الذين راموا لحاقك. انظر: شعر الكميت بن زيد 1/ 162، شرح درة الغواص للخفاجي 533.
(2)
انظر: تفسير الطبري (شاكر) 7/ 545، الكشف والبيان 3/ 145، الجامع لأحكام القرآن 3/ 12.
(3)
انظر: شرح الرضي على الكافية 1/ 36.
(4)
انظر: درة الغواص بشرح الخفاجي 533، المزهر 1/ 108، البصائر والذخائر للتوحيدي 5/ 24.
(5)
الأنعام 92.
(6)
هو أبو الأسود الدؤلي.
(7)
انظر: ديوانه 54.
(8)
المحرر الوجيز 6/ 106 - 107.
(9)
استشهد به على حذف التنوين من ذاكر لالتقاء الساكنين ونصب ما بعده. انظر: الكتاب 1/ 169.
(10)
انظر: المقتضب 1/ 19، 2/ 313.
(11)
انظر: معاني القرآن 2/ 202.
وغيرهم. (1) وله روايتان:
الأولى: جر «ذاكرِ» ، فيكون معطوفًا على «مُستعتبٍ» .
الثانية: نصب «ذاكرَ» ، فيكون معطوفًا على «غَيْرَ» ، و «لا» لتأكيد النفي المستفاد من «غير» (2).
ومن الأمثلة كذلك قول الزمخشري: «وأما قراءة ابن عامر: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ} [الأنعام: 137](3) برفع القتل، ونصب الأولاد، وجر الشركاء على إضافة القتل إلى الشركاء، والفصل بينهما بغير الظرف، فشيء لو كان في مكان الضرورات وهو الشعر لكان سَمِجًا مردودًا كما سَمُجَ ورُدَّ:
زَجَّ القَلوصَ أَبي مزادة
فكيف به في الكلام المنثور، فكيف به في القرآن المعجز بحسن نظمه وجزالته» (4). ومع ما ذكره الزمخشري وقفتان:
الأولى: قراءة ابن عامر لهذه الآية فيها إشكال معروف ومشهور بين النحويين، بسبب خروجها عن المشهور في اللغة خروجًا جعل كثيرًا من النحويين والمفسرين والمصنفين في التوجيه يطعنون في ثبوتها أو يكادون (5).
ومحل الإشكال في القراءة هو الفصل بين المتضايفين بالمفعول به في قوله: {قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} ، ووجهه أن المقرر في قواعد
(1) انظر: مجالس ثعلب 123، الخصائص 1/ 311، شرح أبيات المغني 7/ 182.
(2)
انظر: كتاب الشعر للفارسي 1/ 114 حاشية المحقق الطناحي رقم 2.
(3)
الأنعام 137.
(4)
الكشاف 2/ 70.
(5)
انظر: تفسير ابن جرير (شاكر) 8/ 44، والكشف لمكي بن أبي طالب 1/ 453، ومشكل إعراب القراءات له 272، وشرح جمل الزجاجي 287، وأكثر نحاة البصرة على تضعيف هذه القراءة واستبعادها. وينظر: البحر المحيط 4/ 232.
العربية منع الفصل بين المتضايفين بالظرف والجار والمجرور في الاختيار فضلًا عن المفعول به. فكيف يجوز وقوعه في أفصح الكلام، وهو القرآن الكريم.
ورد الزمخشري هنا لقراءة ابن عامر، قد تصدى المحررون من علماء القراءة والعربية للرد عليه وغيره ممن طعن في هذه القراءة الصحيحة وأمثالها. وخلاصة الرد أن هذه القراءة قد نقلت نقلًا صحيحًا، وأن القراءةَ حُجةٌ على النحاة لا العكس. وقد أطال ابن الجزري في الرد على الزمخشري بما لا مزيد عليه (1).
وممن أشبع هذه المسألة بحثًا واستشهادًا محمد بن مالك في أكثر من كتاب من كتبه، قال في «شرح التسهيل»: «وتجويز ما قرأ به - أي ابن عامر - في قياس النحو قوي، وذلك أنها قراءة اشتملت على فصل بفضلة بين عاملها المضاف إلى ما هو فاعل، فحسن ذلك ثلاثة أمور:
أحدها: كون الفاصل فضلة؛ فإنه بذلك صالح لعدم الاعتداد به.
الثاني: كونه غير أجنبي لتعلقه بالمضاف.
الثالث: كونه مقدر التأخير من أجل المضاف إليه، فقدر التقدم بمقتضى الفاعلية المعنوية، فلو لم تستعمل العرب الفصل المشار إليه لاقتضى القياس استعماله؛ لأنهم قد فصلوا في الشعر بالأجنبي كثيرًا، فاستحق الفصل بغير أجنبي أن يكون له مزية فحكم بجوازه» (2). وأشار إلى حجته في هذه المسألة في نظمه «الكافية الشافية» بقوله:
وعُمْدَتي قِراءةُ ابنِ عَامِرِ
…
وكَمْ لَهَا مِنْ عَاضِدٍ وَنَاصِرِ (3)
(1) انظر: النشر 2/ 263 - 265، إبراز المعاني 2/ 146 - 157.
(2)
شرح التسهيل 2/ 182.
(3)
انظر: شرح الكافية الشافية 2/ 978 - 979.
ويقول النيسابوري في الرد على من قال بخطأ هذه القراءة: «والحق عندي في هذا المقام أن القرآن حجة على غيره، وليس غيره حجة عليه، والقراءات السبع كلها متواترة، فكيف يمكن تخطئة بعضها؟ فإذا ورد في القرآن المعجز مثل هذا التركيب لزم القول بصحته وفصاحته وألا يلتفت إلى أنه هل ورد له نظير في أشعار العرب وتراكيبهم أم لا؟ وإن ورد فكثير أم لا؟ » (1).
الوقفة الثانية: أن هذا الشاهد الشعري الذي استنكره الزمخشري وردَّهُ، ورَدَّ القراءةَ معه، ليس الوحيد الذي حفظ على هذه القاعدة، وإنما هناك شواهد شعرية كثيرة، أورد أكثرها ابن مالك (2).
ومن الأمثلة قول ابن عطية: «وقال الكوفيون: إنه قد يدخلُ حرفُ النداءِ على اللهم، وأنشدوا على ذلك:
وما عليكِ أَن تَقولي كُلَّمَا
…
سَبَّحتِ أَو هلَّلتِ ياللهمَ مَا
ارددْ علينا شيخَنا مُسَلَّما
قالوا: فلو كانت الميم عوضًا من حرف النداء لما اجتمعا. قال الزجاج: وهذا شاذ لا يعرف قائله، ولا يتركُ لهُ ما في كتاب اللهِ، وفي جَميعِ ديوانِ العَرَبِ» (3). والشاهد في قول الزجاج من حكمه على الشعر بالشذوذ، ورده لجهالة قائله.
(1) غرائب الفرقان 8/ 37.
(2)
من الشواهد قولُ الطرمَّاح (ديوانه 169):
يَطُعْنَ بِجوزيِّ المراتعِ لَمْ يُرَعْ
…
بِواديهِ مِن قَرعِ - القَسيَّ - الكنائِنِ
وقول أبي جندل الطهوي في صفة جراد (شرح الكافية 2/ 986):
يَفرُكُ حَبَّ السنبلِ الكُنَافِجِ
…
بالقاعِ فَركَ - القُطُنَ - المَحَالِجِ
انظر: شرح الكافية الشافية 2/ 978 - 979 فقد ذكر عددًا من الشواهد الشعرية المؤيدة لهذا الأسلوب.
(3)
المحرر الوجيز 3/ 49.