الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تَدلُّ كثرة الشواهد الشعرية في هذه المصنفات على أهمية الشعر، وعناية أصحاب المعاني والغريب وإعراب القرآن به كشاهدٍ على معاني ألفاظ القرآن الكريم، ومُعِينٍ على فهمها كما كانت العرب زمنَ نزول الوحي تفهمُها.
وهذه الشواهد الشعرية لم تكن مقصودةً لذاتِها، وإِنَّمَا وسيلة ضمنَ وسائل يستعين بها المصنفون لإيضاح معاني القرآن الكريم وتقريبها، إلا أنها من أهم الوسائل، ولذلك جعل المصنفون في شروط المفسر وآدابه اللغةَ العربيةَ ومعرفتَها شَرطًا من شروط من يريد تفسير القرآن أو إعرابه؛ لأن القرآن نزل بلغة العرب.
2 - الاعتماد على شاهد شعري مفرد في كثير من المسائل
.
في مواضع متفرقة، ومسائل متعددة في كتب معاني القرآن وغريبه يكتفى في الاستشهاد بالشاهد الشعري دون غيره من الشواهد، ويفسر به غريب القرآن، أو الوجه النحوي أو غير ذلك. وهذا الأمر يكثر عند أبي عبيدة في مجاز القرآن، وعند غيره بنسبة أقل، وهذا دليل اعتمادهم على الشاهد الشعري، وتعويلهم عليه في بيان الدلالة اللغوية وما يتصل بها، ومن أمثلة ذلك في كتب معاني القرآن ما يأتي:
1 -
عند قوله تعالى: {فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44](1) فسرها الفراء، واكتفى بالاستشهاد ببيت من الشعر فقال: «المُبْلِسُ: اليائسُ، المنقطعُ رجاؤهُ، ولذلك قيل للذي يسكتُ عند انقطاع حجته، ولا يكون عنده جوابٌ: قد أَبلَسَ، وقد قال الراجز (2):
يا صاحِ هَلْ تعرفُ رَسْمًا مُكْرَسا؟
…
قال: نَعمْ، أَعرِفُهُ، وأَبْلَسا (3)
أي: لم يُحِرْ إلىَّ جوابًا». (4)
(1) الأنعام 44.
(2)
هو العجاج.
(3)
انظر: ديوانه 156.
(4)
معاني القرآن 1/ 335.
وهذا وجه من وجوه تفسيرها، وقد فسَّرها مُجاهدُ بالاكتئاب، وفسرها السديُّ، وابن زيد بالهلاك. (1) وقول الفراء قريب من قول مجاهد لأن الاكتئاب أثر من انقطاع الحجة والسكوت، غير أن الطبري فصل القول في معناها بعد ذكره لتفاسير السلف فقال: «وأَصلُ الإِبلاسِ في كلام العربِ عند بعضهم الحُزْنُ على الشيءِ، والنَّدمُ عليه. (2) وعند بعضهم انقطاعُ الحُجَّةِ، والسكوتُ عند انقطاع الحجةِ. وعند بعضهم الخُشوعُ، وقالوا: هو المخذولُ المتروكُ، ومنه قولُ العجَّاج
…
». ثم ذكر الشاهد، وفسَّره بقوله:«فتأويل قولهِ: وأَبْلَسَا، عند الذين زعموا أَنَّ الإبلاسَ انقطاعُ الحجةِ والسكوتُ عنده، بِمعنى أَنه لم يُحِر جَوابًا. (3) وتأوله آخرون بِمعنى الخُشوعِ، وتركِ أهلهِ إياهُ مقيمًا بمكانهِ. والآخرون: بِمعنى الحزنِ والنَّدمِ. يقال منه: أَبْلَس الرجلُ إبلاسًا، ومنه قيل لإبليس: إبليس» . (4)
وذكر ابن فارس أن أصل دلالة الإبلاس على اليأس، وأن ما عداه من المعاني يعود إليه. (5) فتكون بقية المعاني عائدةً لمعنى اليأس. فالخشوع، وانقطاع الحجة، والسكوت، والحُزنُ والاكتئاب تعودُ كلُّها لليأسِ. ولم يذكر الأزهري من معانيه إلا السكوت عند انقطاع الحجة، والقنوط. (6) وقد زاد أبو عبيدة في تفسيره لهذه اللفظة شاهدًا آخر وفسَّره تفسيرًا موافقًا لقول مُجاهد وهو بيت رؤبة:
وحَضَرَتْ يومَ خَميسِ الأَخْماسْ
…
وفي الوجوهِ صُفرةٌ وإِبْلاسْ (7)
(1) انظر: تفسير الطبري (هجر) 9/ 247 - 249.
(2)
هذا قول أبي عبيدة في مجاز القرآن 1/ 192.
(3)
هذا قول الفراء كما تقدم، وقول الأصمعي كما في شرح ديوان العجاج 156.
(4)
تفسير الطبري (هجر) 9/ 249.
(5)
انظر: مقاييس اللغة 1/ 299 - 300.
(6)
انظر: تهذيب اللغة 12/ 442، لسان العرب 1/ 482 (بلس).
(7)
انظر: ديوانه 67.
وقال في شرحه: «أي: اكتئابٍ، وكسوفٍ، وحُزنٍ» (1)، وهذا موافق لتفسير مجاهد المتقدم.
2 -
ومن أمثلة انفراد الشاهد الشعري بالاستشهاد عند الفراء عند تفسير قوله تعالى: {أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} [البقرة: 235](2) قال: «للعَرَبِ في أَكْنَنْتُ الشيءَ إذا سَتَرتَهُ لُغتانِ: كَنَنْتُهُ وأَكْنَنْتُهُ، قال: وأنشدوني قولَ الشاعر:
ثلاثٌ مِنْ ثلاثِ قُدامياتٍ
…
من اللاتي تَكُنُّ من الصَّقيعِ (3)
وبعضهم يرويه: تُكِنُّ، مِن أَكْنَنْتُ». (4) وقد نقل مقالة الفراء هذه أهل اللغة عنه، فهو من ثِقاتِهم. (5) وقال الطبري:«ولم يُسْمَع كَنَنْتُهُ في نَفْسي» (6)، غير أنه روي عن أبي زيد: كَنَنْتُ الشيءَ وأَكْنَنْتُه في الكِنِّ، وفي النَّفسِ مثلُها. (7) فدل على جوازها، وقد سُمِعتْ في قول الشاعر الإسلامي أبي قطيفة الأموي:
قد يكتمُ الناسُ أَسرارًا فأَعلمُها
…
وما يَنالونَ حتى الموتِ مَكْنُوني (8)
وما فسَّر به الفراء اللفظةَ لم يُخالف فيه أحدٌ من المفسرين. (9)
وأما أمثلة انفراد الشاهد الشعري بالاستشهاد في كتب غريب القرآن
(1) مجاز القرآن 1/ 192.
(2)
البقرة 235.
(3)
لم أقف على قائله، وقداميات: يعني بها قوادم ريش الطير، وهي أربع ريشات في مقدم الجناح. انظر: اللسان 11/ 67 (قدم).
(4)
معاني القرآن 1/ 152.
(5)
انظر: تهذيب اللغة 9/ 452، الصحاح 6/ 2188، لسان العرب 12/ 172 (كنن).
(6)
تفسير الطبري (شاكر) 5/ 102، المحرر الوجيز (قطر) 2/ 306، الجامع لأحكام القرآن 3/ 190.
(7)
انظر: تهذيب اللغة 9/ 453، الصحاح 6/ 2189.
(8)
انظر: الأغاني 1/ 11.
(9)
انظر: المحرر الوجيز (قطر) 2/ 306، الجامع لأحكام القرآن 3/ 189 - 190، تفسير ابن كثير 1/ 422.
فكثيرة في «مجاز القرآن» لأبي عبيدة، وغريب القرآن لابن قتيبة وغيرهما، وأكتفي ببعضها، فمن فمن أمثلة ذلك:
1 -
عند تفسير قوله تعالى: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: 7](1) قال أبو عبيدة: «أي: غِطاءٌ، قال الحارثُ بن خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة (2):
تَبِعْتُكَ إذ عيني عليها غِشاوَةٌ
…
فلمَّا انْجَلَتْ قَطَّعْتُ نفسي أَلومُها (3)». (4)
والغِشَاوةُ: الغطاءُ، في قول جميع المفسرين (5)، وأهل اللغة. (6)
وفي مثل هذه الألفاظ التي ليست محل خلاف بين اللغويين يكتفي أبو عبيدة وغيره بالشاهد الشعري الواحد للاستشهاد على اللفظة، وأما إذا كانت لفظةً شديدةَ الغرابة، أو أسلوبًا غير معتاد لبعض العرب، فإنه يزيد في شواهدها، كما في شواهده عند تفسير قوله تعالى:{أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النمل: 25](7) فقد أورد لها ثلاثة شواهد (8)، وقد تبعه في ذلك الزجاج وذكر السبب في إيراده عددًا من الشواهد فقال عند توجيهه لقراءة التخفيف في قوله تعالى:{أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ} : «ومَنْ قرأَ بالتخفيف - أَلا يَسْجدو (9) - فـ «ألا» لابتداء الكلام
(1) البقرة 7.
(2)
هو الحارث بن خالد بن هشام المخزومي القرشي، شاعر إسلامي، عاش حتى خلافة سليمان بن عبد الملك. أدركه أبو عمرو بن العلاء وسأله عن مسائل من اللغة. انظر: الأغاني 3/ 311، خزانة الأدب 1/ 217.
(3)
انظر: مجموع شعره 137 - 138، الأغاني 3/ 317، الحماسة البصرية 2/ 842.
(4)
مجاز القرآن 1/ 31.
(5)
انظر: تفسير الطبري (هجر) 1/ 271، تفسير ابن كثير 1/ 71، الدر المنثور 1/ 155.
(6)
انظر: تهذيب اللغة 8/ 154، لسان العرب 10/ 76 (غشا).
(7)
النمل 25.
(8)
انظر: مجاز القرآن 2/ 93 - 94.
(9)
قرأ بها من العشرة أبو جعفر والكسائي ورويس عن يعقوب، وقرأ بها ابن عباس والزهري وغيرهم. انظر: السبعة 480، الكشف عن وجوه القراءات 2/ 156، حجة القراءات 526.
والتنبيه، والوقوف عليه أَلايَا - ثم يستأنفُ فيقول: اسجدوا لله .... ومثل قوله: {أَلا يا سْجُدوا} بالتخفيفِ قولُ ذي الرمَّةِ:
أَلا يَا اسْلَمِي يا دَارَ مَيَّ عَلى البِلا
…
ولا زَالَ مُنهَلاًّ بِجَرْعَائِكِ القَطْرُ (1)
وقال الأخطل:
أَلا يا اسْلَمِي يا هِنْدُ هِنْدَ بَنِي بَدْرِ
…
وإِنْ كَانَ حَيَّانَا عِدًى آَخِرَ الدَّهْرِ (2)
وقال العجاج:
يا دارَ سَلْمَى يا اسْلَمِي ثُمَّ اسْلَمِي
…
عَنْ سَمْسَمٍ وَعَنْ يَمِيْنِ سَمْسَمِ (3)
وإِنَّمَا أكثرنا الشاهدَ في هذا الحرف كما فَعَلَ مَن قبلَنَا، وإِنَّمَا فعلوا ذلك لقلةِ اعتيادِ العامَّةِ لدخول «يا» إِلَّا في النداء، لا تكاد العامة تقول: يَا قَدْ قَدِمَ زَيدٌ، ولا: يَا اذْهَبْ بِسَلامٍ». (4) في حين لم يورد الأخفشُ سوى شطرٍ من بيت ذي الرمة (5)، والفراء لم يورد إلا بيتَ الأخطل. (6)
2 -
عند تفسير قوله تعالى: {وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ} [يوسف: 88](7) قال أبو عبيدة: «مُزجاةٌ: يسيرةٌ قليلةٌ، قال (8):
........................
…
وحاجةٍ غَيْر مُزجاةٍ من الحاجِ (9)». (10)
(1) الجَرْعَاءُ من الرَّمْلِ رَابيَةٌ سَهْلَةٌ لَيّنَةٌ. ديوانه 1/ 559 - 560.
(2)
ديوانه 70.
(3)
سَمْسَم بلد من بلاد تميم، أو كثبان رمل. ورواية الديوان للشطر الثاني من الرجز:
بِسَمْسَمٍ أو عَنْ يَميْنِ سَمْسَم
انظر: ديوانه 278.
(4)
معاني القرآن 4/ 115 - 116.
(5)
انظر: معاني القرآن 2/ 465 تحقيق د. هدى قراعة.
(6)
انظر: معاني القرآن 2/ 290.
(7)
يوسف 88.
(8)
القائل هو الراعي النميري.
(9)
عجز بيت، وصدره:
ومُرسِلٍ ورَسولٍ غَيْرِ مُتَّهمٍ
…
...............................
انظر: ديوانه 28.
(10)
مجاز القرآن 1/ 317.
وهذا التفسير للفظة «مُزجاةٍ» بأنه اليسيرة القليلة هو قول بعض مفسري السلف كمجاهد، والحسن البصري، وإبراهيم النخعي (1) وفسرها ابن عباس بأن معناها:«رديئة زُيُوفٌ، لا تَنْفُقُ حتى يوضع منها» . (2) ولم يزد أبو عبيدة في بيان دلالته على هذا الشطر من الشاهد الشعري، وقد نقل تفسيره لها أهل اللغة. (3) وهذه التفسيرات متقاربة المعنى، وإن اختلفت الألفاظ، ولذلك قال الطبري:«وقد اختلف أهل التأويل في البيان عن تأويل ذلك، وإن كانت معاني بيانهم متقاربة» . (4) وهناك أمثلة أخرى عند أبي عبيدة. (5)
وعند ابن قتيبة في بيانه للغريب من ألفاظ القرآن، كان يكتفي في مواضع متفرقة من كتابه ببيان دلالة اللفظة بالاستشهاد عليها بشاهد من الشعر، ولا يزيد على ذلك. ومن أمثلة ذلك عنده:
1 -
عند تفسير قوله تعالى: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود: 54](6) قال ابن قتيبة: «أي: أَصابكَ بِخَبْلٍ. يقالُ: عَراني كذا وكذا، واعتراني: إذا أَلَمَّ بي. ومنه قيل لمن أتاكَ يطلبُ نائِلَكَ: عَارٍ. ومنه قول النابغة:
أَتيتُكَ عارِيًا خَلَقًا ثِيابي
…
على خَوفٍ تُظَنُّ بيَ الظُّنُونُ (7)». (8)
وهذا التفسير هو الذي فسر به اللفظةَ ابنُ عباس، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، وابن زيد (9)، وهذا دليل على حرص ابن قتيبة على تفسير السلف، وهو تفسير أهل اللغة. (10)
(1) انظر: تفسير الطبري (هجر) 13/ 318 - 324.
(2)
المصدر السابق 13/ 317.
(3)
انظر: تهذيب اللغة 11/ 155.
(4)
تفسير الطبري (هجر) 13/ 317.
(5)
مجاز القرآن 1/ 318.
(6)
هود 54.
(7)
انظر: ديوانه 222.
(8)
تفسير غريب القرآن 178.
(9)
انظر: تفسير الطبري (هجر) 12/ 447 - 448.
(10)
انظر: مجاز القرآن 1/ 290، معاني القرآن للفراء 2/ 19، تهذيب اللغة 3/ 158 - 159.