الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3 -
وقال ابن عطية عند بيان أوجه القراءة لقوله تعالى: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ} [آل عمران: 66](1): «ووجهُ قراءةِ نافعٍ، وأبي عمروٍ (2) أحدُ أمرين: يَجوزُ أن تكونَ «ها» التي للتنبيه دخلت على «أَنتم» ، ويكون التنبيه داخلًا على الجُملةِ، كما دخل على قولهم:«هَلُمَّ» وكما دخلت «يا» التي للتنبيه في قوله: {} (3)، وفي قول الشاعر:(4)
يا قاتلَ اللهُ صِبيانًا تَجيءُ بِهِمْ
…
أُمُّ الهُنيدةِ مِنْ زَندٍ لَها وارِي (5)
وقول الآخر (6):
يا لعنةَ اللهِ والأقوامِ كُلِّهمُ
…
والصالحينَ على سَمْعانَ مِنْ جارِ (7)». (8)
فاستعان بالشعر لبيان الوجه الإعرابي لهذه القراءة التي قرأ بها نافع وأبو عمرو رحمهما الله.
أثر الشاهد الشعري في بيان الوجه الإعرابي للقراءة الشاذة
.
1 -
قال ابن عطية عند توجيه قراءة أبي بن كعب لقوله تعالى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16](9): «وقراءةُ أُبَيِّ بنِ كعبٍ فيما حكاهُ الكسائيُّ (أَو يُسْلِموا)(10)،
(1) آل عمران 66.
(2)
قرأ نافع وأبو عمرو وأبو جعفر وابن محيصن {هاانتم} بألف بعد الهاء، وهمزة مسهلة بين بين مع المد والقصر. وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف وقنبل {هاأنتم} بألف بعد الهاء، وبعدها همزة محققة. وهناك أوجه أخرى غيرها للقراء. انظر: السبعة 207، التيسير 88، النشر 1/ 400، 2/ 240.
(3)
النمل 25.
(4)
هو القَتَّالُ الكلابيُّ.
(5)
انظر: ديوانه 59.
(6)
لم أعرفه.
(7)
انظر: الكتاب 2/ 219، الكامل للمبرد 4/ 1199، الأصول لابن السراج 1/ 280، أمالي ابن الشجري 2/ 69، 414.
(8)
المحرر الوجيز 3/ 116.
(9)
الفتح 16.
(10)
قرأ الجمهور {أَوْ يُسْلِمُونَ} بإثبات النون رفعًا. انظر: البحر المحيط 8/ 94، إعراب القرآن للنحاس 3/ 191.
بِنَصْبِ الفِعْلِ، على تقدير: أَو يكونَ أَنْ يُسْلِموا، ومثلهُ من الشِّعرِ قولُ امرئ القيس:
فقلتُ لَهُ: لا تَبْكِ عيناكَ إِنَّما
…
نُحاولُ مُلْكًا أَو نَموتَ فَنُعْذرا (1)
يُروى: نَموتَ بالنَّصبِ، ونَموتُ بالرفع.
فالنصب على تقدير: أو يكونَ أَنْ نَموتَ، والرفعُ على القطعِ (2)، أو نَحنُ نَموتُ». (3)
وقراءةُ الجمهور {أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16] بإثبات النون رفعًا، عطف على قوله:{تُقَاتِلُونَهُمْ} ، أو على الاستئناف، على تقدير: أو هم يُسْلِمُون. (4)
وأَمّا قراءةُ أُبَيِّ بنِ كعبٍ، وهي من القراءاتِ الشاذة، فللنحويين في توجيه النَّصبِ قولان:
الأول: للبصريين على تقدير «أَنْ» ، كما ذكرَ ابنُ عطيةَ، والشاهد الشعري الذي أورده يدل على هذا التوجيه، ولذلك استشهد به البصريون. (5)
الثاني: للكسائي والجرمي والفراء على تقدير: حتى يُسْلِمُوا. (6)
2 -
ومن الأمثلة أيضًا على الاستشهاد بالشعر لتوجيه القراءات الشاذة قولُ ابن عطية عند بيانه لأوجه القراءة في قوله تعالى: {تُرِيدُونَ
(1) انظر: ديوانه 66.
(2)
أي على قطع عطف الفعل على الفعل، فيكون من باب عطف الجمل، وقد يكون المقصود بالقطع الاستئناف.
(3)
المحرر الوجيز 15/ 102 - 103.
(4)
انظر: مغني اللبيب 5/ 494.
(5)
انظر: الكتاب 3/ 47 - 49، المقتضب 2/ 27 - 28، معاني القرآن للزجاج 5/ 24، خزانة الأدب 8/ 544.
(6)
انظر: إعراب القرآن للنحاس 4/ 200، مشكل إعراب القرآن 627، معاني القرآن للفراء 2/ 71.
عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [الأنفال: 67](1): «وقرأَ ابنُ جَمَّاز (2)(الآخِرةِ) بالخفض على تقدير المضاف. ويُنَظَّر ذلكَ لقول الشاعر (3):
أَكُلَّ امرئٍ تَحسبينَ امرءًا
…
ونارٍ تَوَقَّدُ بالليلِ نارا (4)
على تقدير: وكُلَّ نارٍ». (5)
وقراءة ابن جَمَّازٍ من القراءات الشاذة، قال ابن جني في توجيهها:«ووجهُ جواز ذلك على عزته وقلة نظيره أنه لما قال: تريدون عرض الدنيا، فجرى ذكر العرض، فصار كأنه أعاده ثانيًا» . (6) أي كأنه قال: والله يريد عرض الآخرة.
وابن عطية يعتمد في توجيه القراءات الشاذة على كتاب «المُحتسب» لأبي الفتح بن جِنِّي، وينقل عنهُ شواهدَ الشِّعْرِ التي يستشهدُ بِها في توجيهه للقراءات. بل إنه ليقدم ابن جني على غيره، فقد قدمه على أبي عمرو الداني في موضع خلاف في توجيه آية، وقال:«وأبو الفتح أثبت» . (7) مما جعل أبو حيان يرد ذلك بقوله: «وهذا الذي قاله من أن أبا الفتح أثبت كلامًا لا يصح، إذ رتبة أبي عمرو الداني في القراءات ومعرفتها وضبط رواياتها واختصاصه بذلك بالمكان الذي لا يدانيه أحد من أئمة القراءات فضلًا عن النحاة، هذا مع الديانة الزائدة، والتثبت في النقل وعدم التجاسر ووفور الحظ من العربية» . (8)
ومن ذلك قول ابن عطية عند بيان القراءات في قوله تعالى: {لَوْ
(1) الأنفال 67، وقراءة الجميع عدا ابن جماز {الْآخِرَةَ} بالنصب. انظر: الدر المصون 3/ 437.
(2)
هو سليمان بن مسلم بن جَمَّاز الزهري المدني، مقرئ جليل ضابط، قرأ على أبي جعفر وشيبة ونافع. مات بعد عام 170 هـ. انظر: غاية النهاية 1/ 315.
(3)
هو أبو دؤاد الإيادي.
(4)
انظر: ديوانه 353، الأصمعيات 191.
(5)
المحرر الوجيز 8/ 113، تفسير الطبري (هجر) 11/ 271.
(6)
المحتسب 1/ 280.
(7)
المحرر الوجيز (قطر) 5/ 527.
(8)
البحر المحيط / الأعراف آية 54.
يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)} [التوبة: 57](1): «وقرأَ أُبَيُّ بنُ كعبٍ: «مُنْدَخَلًا» . قال أبو الفتح: هذا كقول الشاعر (2):
..........................
…
ولا يَدِي في حَميتِ السَّمْنِ تَنْدَخِلُ (3)». (4)
فقد أورد ابن عطية استشهاد ابن جني لتوجيه هذه القراءة الشاذة ببيت الكميت بن زيد، مع حكمه على هذه الصيغة بالشذوذ، حيث قال ابن جني تعليقًا على هذه القراءة:«ومُنْفَعِلٌ في هذا شاذٌّ؛ لأن ثلاثيه غير متعدٍّ عندنا» . (5) ونقل عنه في مواضع أخرى متفرقة. (6)
هذه بعض الأمثلة على استشهاد المفسرين بالشعر في توجيههم للقراءات القرآنية بنوعيها المتواترة وغير المتواترة، واعتمادهم في تخريجهم لتلك الوجوه على الشاهد الشعري اعتمادًا كبيرًا، حتى استوعبت كتبُ التفسير ما صُنِّفَ من كتبِ الاحتجاج للقراءات قبلها مع شواهدها الشعرية، كما صنعَ الطبَريُّ وابنُ عطيةَ والقرطبيُ.
وقد عاب الزجاجُ وغيره الاعتمادَ على شواذ الشواهدِ الشعرية في توجيه القراءات القرآنيةِ، وصرَّح أبو حيان بأَنَّه يَجبُ حَملُ إعرابِ القرآن وقراءاتهِ على الصحيح من شواهد اللغةِ دون شاذها، فقال: «ينبغي أَن يُحملَ - كتابُ الله - على أحسنِ إعرابٍ، وأحسنِ تركيبٍ؛ إذ كلام الله تعالى أفصح الكلام، فلا يَجوزُ فيه جَميعُ ما يُجوِّزهُ النحاة في شعرِ
(1) التوبة 57.
(2)
هو الكميت بن زيد الأسدي.
(3)
عجز بيت، صدره: لا خُطوتي تَتَعاطَى غَيْرَ مَوضِعِها. ورواية الديوان والمُحتَسَب «السَّكْنِ» بدل «السَّمْنِ» ، والسَّكْنُ جَمعُ ساكنٍ، كصَحْبِ جَمعُ صاحب. والحَمِيتُ: إِناءٌ للسَّمْنِ لا شَعَر عليه. انظر: ديوانه 2/ 330.
(4)
المحرر الوجيز 8/ 206.
(5)
المحتسَب 1/ 296.
(6)
انظر: المحرر الوجيز 9/ 15 - 16.
الشَّمَّاخِ والطِّرِمَّاحِ وغيرهِما من سلوك التقاديرِ البعيدةِ، والتراكيبِ القلقةِ، والمَجازاتِ المعقَّدةِ». (1) وقال في موضعٍ آخر مؤكدًا على هذا المنهج في إعراب آيات القرآن وتوجيهها:«وقد ركبوا - أي المفسرون والنحويون- وجوهًا من الإعراب في قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] (2)، والذي نَختارهُ منها أَنَّ قوله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} جُملةٌ مستقلةٌ من مبتدأ وخَبَرٍ؛ لأنه متى أمكنَ حَمْلُ الكلام على غير إضمارٍ ولا افتقارٍ، كان أولى أن يسلك به الإضمار والافتقار. وهكذا عادتُنا في إعراب القرآن، لا نَسلُكُ فيه إِلَّا الحَمْلَ على أحسنِ الوجوه، وأبعدِها من التكلُّفِ، وأسوغِها في لسان العرب، ولسنا كمَن جَعلَ كتاب الله تعالى كشعرِ امرئ القيس، وشعرِ الأعشى، يَحمِلُهُ على جَميعِ ما يَحتملُهُ اللفظُ من وجوهِ الاحتمالات، فكما أَنَّ كلامَ الله من أفصح الكلام، فكذلك ينبغي إعرابهُ على أفصح الوجوه» . (3)
ولذا ينبغي أن يتنبه عند الاستشهاد بالشعرِ في توجيهِ القراءات أو تفسير القرآن إلى أمرين:
الأول: معرفة قيمة هذه الشواهد عند أهل الاختصاص وهم أَهلُ روايةِ الشِّعرِ والشواهد من الأئمة المتقدمين، وعدمُ الركونِ إلى شواهدِ الشعرِ التي لم تُعْرَف إِلَّا عن المتأخرين دونَ نسبتها وعَزوها للأئمة الثقات كأبي عمرو بن العلاء والخليل وسيبويه وأمثالهم.
الثاني: كيفية استشهاد أولئك العلماء بهذه الشواهد، فإِنَّ للقرآن عُرْفًا خاصًا لا يَصحُّ أن يُحملَ على شواهد الشعرِ في أحيان كثيرة، وإِنْ بدا ذلك للناظر المتعجِّل، ولذلك قال ابن القيم: «لا يَجوزُ أَنْ يُحملَ كلامُ الله عز وجل ويُفسَّر بِمُجردِ الاحتمال النحوي الإعرابي الذي يَحتملُه تركيبُ الكلام، ويكون الكلامُ به له معنىً ما، فإنَّ هذا المقام غَلِطَ فيه
(1) البحر المحيط 1/ 103.
(2)
البقرة 2.
(3)
البحر المحيط 1/ 61.
أكثرُ المُعربِيْن للقرآن، فإِنَّهم يفسرون الآية ويعربونها بِما يحتمله تركيب تلك الجملة، ويُفهَمُ من ذلك التركيب أَيُّ معنىً اتفقَ، وهذا غلطٌ عظيمٌ يقطعُ السامعُ بأَنَّ مُرادَ القرآن غيره، وإن احتمل ذلك التركيبُ هذا المعنى في سِياقٍ آخرَ وكلام آخر، فإِنَّه لا يَلزمُ أن يحتمله القرآن». (1) وهذا لأن للقرآن الكريم عُرْفٌ خاصُّ، ومعانٍ معهودة، لا يناسبه تفسيره بغيرها. ولذلك فإن الشاهد الشعري مع أهميته في توجيه القراءات من حيث اللغة والإعراب إلا أنه ينبغي ألا يكون مهيمنًا عليها بحيث ترد القراءة الصحيحة لمخالفتها له في رأي بعض النحويين، وإنما يستشهد بالشاهد الشعري في موضعه المناسب دون إفراطٍ، كما صنع المفسرون في جُلِّ مواضعِ احتجاجهم بالشعر.
* * *
(1) بدائع الفوائد 3/ 538.