الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وبعده بقوله: ومعلوم أن الماءَ يُشربُ ولا يُعلَفُ به، ولكنه نَصَبَ ذلك على ما وصفت قبلُ. وأغفل الشاهد الثاني لأنه يدل على الوجه الذي شرحه في الشاهد الأول.
رابعًا - التكرار للشرح
.
يتكرر عند المفسرين الاستشهاد بالشاهد الشعري الواحد في عدة مواضع، منها ما يتكرر فيه موضع الشاهد، ومنها ما يختلف فيه موضع الشاهد وهذا ما سبقت الإشارة إليه في أنواع الشواهد الشعرية وسميتها «الشواهد المشتركة» .
فعندما يتكرر إيراد المفسر للشاهد يتكرر شرحه له، ويختلف الشرح في المواضع طولًا وقصرًا، بحسب حاجة المقام، فقد يطيل في الموضع الأول دون الثاني، وقد يكون العكس، وقد يختصر الشرح في الموضعين كليهما. وأما إن اختلف موضع الشاهد في البيت فإنه يتناول بالشرح الشاهد من وجه آخر، فيكون هذا زيادة في إيضاح معنى بيت الشعر لمن يطلب شرحه، فلو جمع الباحث الشواهد الشعرية المكررة التي شرحها المفسرون لتبين له ما قدمه المفسرون في هذا الجانب. وسأضرب لذلك أمثلة تبين المقصود.
فمن أمثلة تكرر الشاهد الشعري مع اتفاق موضع الشاهد استشهاد الطبري على أن العرب تحذف من الكلام ما دل عليه الظاهر طلبًا للاختصار بقول ذي الرمة في نعت حَمِيْرٍ:
فلمَّا لَبِسْنَ الليلَ أَو حِيْنَ نَصَّبَتْ
…
له مِنْ خَذَا آذَانِهَا وهُو جَانِحُ (1)
ثم شرح موضع الشاهد بعده فقال: «يعني: أو حين أقبل الليل» . (2) وقد كرر ذكر الشاهد مرة أخرى للاستشهاد على الوجه نفسه
(1) انظر: ديوانه 2/ 897.
(2)
تفسير الطبري (هجر) 1/ 344.
فقال في شرحه: «أو حين أقبل، ثم حذف اكتفاء بدلالة الكلام عليه» (1). وهذا استشهاد نحوي بالشاهد الشعري على أسلوب الحذف عند العرب.
وأما في الموضع الثالث فقد كرره للاستشهاد به استشهادًا لغويًا على معنى قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10)} [النبأ: 10](2) فقال: «يعني بقوله لَبِسْنَ الليلَ: أُدخِلْنَ في سَواده فاستَتَرْنَ به» (3).
وقد كرر المفسرون الاستشهاد بقول عبد الله بن الزبعرى:
ورَأَيتُ زَوجَكِ في الوَغَى
…
مُتَقَلِّدًا سَيفًا ورُمْحَا (4)
فقد استشهد به الطبري سبعَ مراتٍ على الوجه نفسه، وأطال في شرحه في الموضع الأول فقال: «قد دللنا فيما مضى على أن العرب من شأنها إذا عرفت مكان الكلمة، ولم تَشَكَّكْ أن سامعها يعرف بما أظهرت من منطقها ما حذفت - حذفُ ما كفى منه الظاهر من منطقها، ولا سيما إن كانت تلك الكلمة التي حذفت قولًا أو بتأويل قول
…
وكذلك قول الآخر:
ورَأَيتُ زَوجَكِ في الوَغَى
…
مُتَقَلِّدًا سَيفًا ورُمْحَا
وقد عَلِمَ أَنَّ الرمحَ لا يُتقَلَّدُ، وأنَّه إنَّما أراد: وحاملًا رمحًا، ولكن لما كان معلومًا معناه اكتفى بما قد ظهر من كلامه عن إظهار ما حذف منه». (5) ثم أخذ يكرره دون شرح (6)، حتى إذا طال الفصل عن الموضع الأول شرحه مرة أخرى فقال بعده: «فالرمح لا يتقلد ولكن لما كان فيما أظهر من الكلام دليل على ما حذف، فاكتفى بذكر ما ذكر منه مِمَّا
(1) المصدر السابق 12/ 239.
(2)
النبأ 10.
(3)
تفسير الطبري (هجر) 24/ 9.
(4)
رواية الديوان:
يا ليت زوجكِ قد غدا
انظر: ديوانه 32
(5)
تفسير الطبري (هجر) 1/ 139 - 141.
(6)
انظر: تفسير الطبري (هجر) 1/ 271، 5/ 418، 8/ 516، 11/ 74.
حذف» (1). ثُمَّ لم يشرحه بعد ذلك (2).
ومثله قول ذي الخِرَقِ الطُّهَويّ يصف ذئبًا أراد أن يثب على ناقته:
حَسبتَ بُغَامَ راحلتي عَنَاقًا
…
وما هِيَ وَيْبَ غَيْرِكَ بالعَنَاقِ (3)
فقد استشهد به الطبري في خَمسةِ مواضعٍ على أن العرب تحذف ما كان معلومًا، والمعنى في البيت: حَسبتَ بُغَامَ - أي صوت - راحلتي صَوتَ عَنَاقٍ، فشرحه في بعضها دون بعض (4).
ومن الأمثلة كذلك عند الطبري أنه فسَّر قولَ جرير:
أَعطوا هُنيدةَ يَحدُوها ثَمانيةٌ
…
ما في عَطائهمُ مَنٌّ ولا سَرَفُ (5)
قال في شرحه في الموضع الأول: «يعني بقوله: ولا سَرَفُ: لا خطأَ فيه، يراد به أنَّهم يصيبون مواضع العَطاءِ فلا يُخطِئونَها» (6).
وقال في شرحه في الموضع الثاني: «يعني بالسَّرِفِ: الخَطأَ في العَطيَّةِ» (7). ومثله في الموضع الثالث قال: «يعني أنه ليس فيه نقص ولا خطأ» (8).
وقد شرحه محمد بن حبيب شارح ديوان جرير بمثل شرح ابن جرير الطبري فقال: «السَّرَفُ: الخطأُ والإعطاءُ في غير وجهه، يقال: أردتُ بني فلانٍ فَسَرِفْتُهُم، أي: أَخطأَتُهُم» (9).
ومن أمثلة ذلك عند ابن عطية عما جاء عند تفسيره لقوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأنعام: 104](10) قال: «والبصائر: جمع بصيرة، وهي ما يتفق عن تحصيل العقل للأشياء المنظور فيها بالاعتبار
…
(1) المصدر السابق 12/ 231.
(2)
المصدر السابق 22/ 208.
(3)
نسبه الطبري للطهوي كما في تفسيره (هجر) 3/ 77.
(4)
انظر: تفسير الطبري (هجر) 2/ 265، 591، 3/ 77، 6/ 53، 14/ 447.
(5)
انظر: ديوانه 1/ 174.
(6)
تفسير الطبري (هجر) 6/ 409.
(7)
تفسير الطبري (هجر) 9/ 618.
(8)
تفسير الطبري (هجر) 24/ 522.
(9)
شرح ديوان جرير 1/ 174.
(10)
الأنعام 104.
والبصيرة أيضًا هي المعتَقَدُ المُحصَّلُ في قول الشاعر (1):
راحوا بَصائِرُهُم عَلى أَكتافِهِم
…
وَبَصيرَتي يَعدو بِها عَتَدٌ وَأى (2)
وقال الطبري في شرح البيت: «يعني بالبصيرة: الحجة البينة الظاهرة» (3).
وقال بعض الناس في هذا البيت: البصيرةُ طَريقةُ الدم، والشاعر إِنَّما يصفُ جَماعةً مشوا به في طلبِ دمٍ ففتروا، فجعلوا الأمرَ وراءَ ظهورهم» (4).
وفي موضع لاحق في تفسيره عند قوله تعالى: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)} [الجاثية: 20](5) قال: «والبصيرة في كلام العرب: الطريقة من الدم، ومنه قول الشاعر يَصِفُ جِدَّهُ في طلبِ الثأر، وتواني غيره:
راحوا بَصائِرُهُم عَلى أَكتافِهِم
…
وَبَصيرَتي يَعدو بِها عَتَدٌ وَأى
وفسَّر الناس هذا البيتَ بطريقة الدم إذ كانت عادة طالب الدم عندهم أن يجعل طريقةً من دمٍ خلفَ ظهرهِ ليُعلمَ بذلك أنه لم يدركْ ثأرَه وأَنَّه يطلبه، ويظهر فيه أنَّه يريد بصيرةَ القلبِ، أَي: قد اطَّرحَ هؤلاء بصائرَهُم وراء ظهورهم» (6).
فقد أطال في شرح البيت في الموضع الثاني، وقد شرحه ابن قتيبة (ت 276) فقال: «البصيرةُ: الدفعةُ من الدم، أي: دماؤُهم قد خَرجتْ فصارت على أكتافهم، وبصيرتي في جَوفي يعدو بِها فَرسي، يريد أَنَّهم جُرحوا، ويقالُ: بل أرادَ أنَّ الذي طلبوه من الذحولِ - أي الثأر - على
(1) هو الشاعر الجاهلي الأسعرُ بن حُمران بن الحارث الجُعفيُّ.
(2)
انظر: الأصمعيات 141، المعاني الكبير 2/ 1013.
(3)
تفسير الطبري (شاكر) 12/ 24.
(4)
المحرر الوجيز 6/ 124.
(5)
الجاثية 20.
(6)
المحرر الوجيز 14/ 313.