الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثالثًا: الترجيح بين القراءات، واختيار إحداها
.
تقدم الكلام عن أثر الشاهد الشعري في توجيه القراءات، وبيان معانيها، وهنا أثر آخر للشاهد الشعري ظهر في ذهاب المفسر إلى اختيار قراءة من القراءات، وترجيحها على غيرها، والاستشهاد لاختياره هذا بشواهد منها شواهد شعرية، تقوي معنى هذه القراءة، مع التنبيه إلى أن القراءة سنة متبعة، والعبرة فيها بثبوت إسنادها، كما قال أبو عمرو الداني في معرض إنكاره لصنيع بعض أهل اللغة حيث قدموها على القراءة الثابتة:«وأئمة القراء لا تعمل في شيء من حروف القرآن على الأفشى في اللغة، والأقيس في العربية، بل على الأثبت في الأثر والأصح في النقل، والرواية إذا ثبتت عنهم لم يردها قياس عربية، ولا فشو لغة؛ لأن القراءة سنةٌ متبعة، يلزم قبولها، والمصير إليها» . (1) وهذا يكفي في بيان هذا الأمر، وقد سبق في مباحث الرسالة الإشارة إلى هذا، وهو أمر متقرر عند الباحثين. ومن أمثلة أثر الشاهد الشعري في ترجيح بعض المفسرين لبعض أوجه القراءات ما يأتي:
1 -
قال الطبري وهو يذكر القراءات التي وردت في لفظة {بَئِيسٍ} في قوله تعالى: {وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 165](2) بعد أنْ ذكر القراءات الواردة فيها، وذكر شواهد من الشعر لتوجيه تلك القراءات:«وأَولى هذه القراءات عندي بالصواب، قراءةُ مَن قرأَ: {بَئِيسٍ} بفَتح الباءِ، وكسرِ الهمزةِ ومَدِّها، على مثالِ «فَعِيل» ، كما قال ذو الأصبع العدواني:
حَنَقًا عَليَّ ومَا تَرى
…
لي فِيهمُ أَثَرًا بَئِيسَا (3)
لأَنَّ هذا التأويلَ أَجْمعوا على أنَّ معناهُ: شَديدٌ، فدلَّ ذلك على
(1) نقله ابن الجزري في النشر 1/ 10 - 11، الإتقان 1/ 211.
(2)
الأعراف 165.
(3)
انظر: الأغاني 3/ 102.
صحةِ ما اخترنا». (1)
فكان الشاهد الشعري مؤيدًا ومقويًا لاختياره هذا الوجه من القراءة لقوة معناها، وإن كان قد أورد شواهد شعرية تشهد للقراءات الأخرى التي ذكرها، مما يعني أن الطبري في ترجيحه بين القراءات لا يردُّ شيئًا مما ثبت منها، وبلغه ثبوتها، وإن أوحت عبارته أحيانًا بهذا، وإنما هو ترجيح اختيار وتفضيل لا ترجيحُ رَدٍّ وإِبطالٍ. (2)
2 -
ومن الأمثلة التي كان الترجيح بين القراءات بِحَسب معانيها، ما ذكره الطبري عند تفسير قوله تعالى:{وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور: 55](3) وهو يُبَيّن أوجهَ القراءة في قوله {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ} فذكر قراءةَ الجُمهورِ وأَنَّها بتشديدِ الدَّالِ، وأَنَّ معناها: وليُغَيْرَنَّ حالهَم عمَّا هيَ عليهِ من الخوفِ إلى الأَمْنِ، وأَنَّ العَرَبَ تقولُ: قد بُدِّلَ فُلانٌ إذا غُيّرَت حالُهُ ولَم يأَتِ مكانَ فلانٍ غَيرُه، وكذلك كُلُّ مُغَيّرٍ عن حالهِ، فهو بالتشديد، ورُبَّما قيل بالتخفيفِ، وليس بالفصيح. فأَمَّا إذا جَعَلَ مكانَ الشيءِ المُبدَلِ غيرَهُ، فذلك بالتخفيف: أَبْدَلتهُ فهو مُبْدَلٌ، ثُمَّ قال مبينًا وجه هذا التوجيه: «ومن الدليل على ما قلنا من أَنَّ التخفيفَ إِنَّما هو ما كان في إِبدالِ شيءٍ مَكانَ آخرَ، قولُ أبي النَّجمِ:
عَزْلُ الأَميرِ للأَمِيْرِ المُبدَلِ (4)».
وهذا استشهاد للترجيح في وجه الاختيار بين القراءات، والقراءاتان متواترتان.
وقد يتنازع الترجيحَ شاهدانِ من الشِّعرِ، فيُحملَ معنى الآيةِ على أَحدِ الشاهدين دون الآخر.
(1) تفسير الطبري (شاكر) 13/ 201 - 202.
(2)
انظر: توجيه مشكل القراءات العشرية الفرشية لعبد العزيز الحربي 494.
(3)
النور 55.
(4)
انظر: ديوانه 204.
ومن ذلك قول ابن عطية عند تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ......... } [النساء: 100](1) وهو يوجه قراءة من قرأ برفع الكافِ من قولهِ: {يُدْرِكْهُ} : «وقرأ طلحة بن سليمان، وإبراهيم النخعي فيما ذكر أبو عمرو (ثُمَّ يُدْرِكُهُ) برفع الكاف (2)، قال أبو الفتح (3): هذا رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: ثم هو يدركه الموت، فعطف الجملة من المبتدأ والخبر على الفعل المجزوم بفاعله، فهما إذن جملة، فكأنه عطف جملة على جملة، وعلى هذا حمل يونس بن حبيب قول الأعشى:
إِنْ تَركبُوا فَرُكوبُ الخَيلِ عادتُنا
…
أَو تَنْزِلونَ فإِنَّا مَعشَرٌ نُزُلُ (4)
المراد: وأنتم تنزلون، وعليه قول الآخر (5):
إِنْ تُذنِبُوا ثُمَّ تَأتِينِي بَقِيَّتُكُمْ
…
فما عليَّ بذنبٍ عندكُمْ فَوتُ (6)
المعنى: ثم أنتم تأتيني، وهذا أوجهُ مِنْ أَن يَحمِلَه على قول الآخر (7):
.....................
…
أَلَمْ يأتِيكَ والأَنباءُ تَنْمِي». (8)
فَجعلَ ابنُ عطيةَ حَملَهُ على شاهد شعري دون آخر، لمناسبته.
(1) النساء 100.
(2)
قرأ الجماعة بسكون الكاف. انظر: المحتسب 1/ 197، وطلحة بن سليمان مقرئ متصدر، أخذ القراءة عن فياض بن غزوان عن طلحة بن مصرف. انظر: التبيان للعكبري 1/ 385، الدر المصون 2/ 420.
(3)
هو أبو الفتح عثمان بن جني. انظر: المُحتسَب 1/ 197.
(4)
انظر: ديوانه 113.
(5)
هو رويشد بن كثير الطائي.
(6)
انظر: ديوان الحماسة 54، شرح الحماسة للمرزوقي 1/ 166.
(7)
هو قيس بن زهير، شاعر جاهلي. انظر: الحماسة البصرية 1/ 163.
(8)
صدر بيت، عَجزهُ: بِما لاقتْ لبونُ بَنِي زيادِ. انظر: خزانة الأدب 8/ 361 وهو شاهد مشهور.
وربما كان لكل من القولين شاهد شعري يؤيده، غير أن أحدهما أكثر استفاضة في شعر العرب ولغتها من الآخر، فيرجحه المفسر لذلك، ومن ذلك أن المفسرين اختلفوا في توجيه المعنى في مثل قوله تعالى:{فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 91](1) وقوله تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64)} [البقرة: 64]} (2)، وكيف أَنَّ الخِطابَ جاءَ للمُعاصرينَ للرسولِ صلى الله عليه وسلم، في حين إِنَّ المقصودَ بِهم أسلافهم مِمَّن كان في عهد موسى عليه السلام. على قولين:
الأول: قول الطبري، حيث ذهبَ إلى أَنَّ هذا وإِنْ كانَ خِطابًا لِمَنْ كانَ بينَ ظَهراني مُهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم مِن أهل الكتابِ أيامَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإِنَّما هو خَبَرٌ عن أسلافهم، فأُخرِجَ مَخرجَ الخَبَرِ عنهم. واستشهدَ الطبريُّ بقول الأخطل يهاجي جريرًا:
وَلَقَدْ سَمَا لَكمُ الهُذيلُ فَنَالَكُمْ
…
بِإِرَابَ حَيثُ يُقَسِّمُ الأَنفالا
في فَيلقٍ يَدعو الأَرَاقمَ لَمْ تَكُنْ
…
فُرسَانُهُ عُزْلًا ولا أَكْفالا (3)
وقال الطبري: «ولم يلق جرير هذيلًا ولا أدركه، ولا أدرك إراب ولا شهده، ولكنه لما كان يومًا من أيام قوم الأخطل على قوم جرير، أضاف الخطاب إليه وإلى قومه» . (4)
الثاني: قول الفراء، حيث ذهب إلى إِنَّما قيلَ ذلك كذلك، لأن سامعيه كانوا عالمين - وإن كان الخطاب خرج خطابًا للأحياء من بني إسرائيل وأهل الكتاب - أَنَّ المعنى في ذلك إِنَّما هو خَبَرٌ عمَّا قصَّ الله
(1) البقرة 91.
(2)
البقرة 64.
(3)
الهذيلُ هو ابن هُبيرة التغلبي، غزا بني رياح في إِراب فسبى نساءهم، وإِرابُ ماءُ بالبادية لبني رياح، الأراقم هم جَماعات من تغلب، وهم جُشَمُ بن بكر، ومالك، وعمرو بن كلثوم، والعُزُل من لا سلاح لهم، والأكفالُ جَمع كفل وهو الجبان. انظر: ديوانه 251.
(4)
تفسير الطبري (هجر) 1/ 643.
من أَنباءِ أسلافهم، فاستغنى بعلمِ السامعينَ بذلك، عن ذكر أسلافهم بأَعيانِهم. واستشهد على ذلك بقول الشاعر (1):
إذا مَا انتَسَبْنا لَمْ تَلِدْنِي لَئيمةٌ
…
ولَمْ تَجِدِي مِنْ أَن تُقِرِّي بهِ بُدَّا (2)
فقال: «إذا ما انتسبنا» ، و «إذا» تقتضي من الفِعل مُستقبلًا، ثُمَّ قال:«لَم تَلِدْني لَئيمةٌ» ، فأَخْبَر عن مَاضٍ من الفعلِ، وذلك أَنَّ الولادة قد مَضَتْ وتَقدَّمَت، وإِنَّما فَعَلَ ذلكَ عند الفراء لأَنَّ السامعَ قد فَهِمَ معناهُ. (3)
قال الطبري بعد أن حكى قول الفراء: «والأَولُ الذي قُلنا، هُو المُستفيضُ مِنْ كلامِ العَربِ وخِطابِها» . (4) فمع وجود شاهد من الشعر يشهد لما ذهب إليه الفراء في توجيه المعنى وتفسيره، إلا أن استفاضة المعنى الذي ذكره الطبري في شعر العرب وكلامها جعله يرجح قوله ويختاره في تفسير الآية. وقد ذهب مذهب الطبري في توجيه هذه الآية عدد من النحويين. (5)
وشعر العرب وشواهده، شاهدة أن القرآن الكريم نزل على وفق كلام العرب وأساليبهم، وقد كرر العلماء هذه الحقيقة العلمية، في كتب معاني القرآن والتفسير. (6)
* * *
(1) هو زائدة بن صعصعة الفقعسي، يخاطب امرأته.
(2)
انظر: مغني اللبيب 1/ 156، حاشية الأمير على مغني اللبيب 1/ 25، شرح أبيات مغني اللبيب 1/ 124.
(3)
انظر: معاني القرآن للفراء 1/ 61.
(4)
تفسير الطبري (هجر) 2/ 57.
(5)
انظر: شرح أبيات مغني اللبيب 1/ 124 - 126.
(6)
انظر: مجاز القرآن 1/ 8، تأويل مشكل القرآن 12 وما بعدها، تفسير الطبري (شاكر) 1/ 12.