الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث العاشر: أثر الشاهد الشعري في معرفة الأماكن في كتب التفسير
.
اعتمدَ الجُغرافيونَ على الشِّعرِ في معرفةِ كَثِيْرٍ من المواضع التي تقعُ في جزيرةِ العربِ وما حولها من الأماكن التي ذكرها الشعراء في شعرهم ووصفوها، وكان للشاهد الشعري أهيمة كبيرة في كتب المواضع والبلدان. ولم يكن المفسرون في اعتمادهم على الشعر في تحديدهم لكثير من المواضع التي ورد ذكرها في الآيات القرآنية، أو أثناء التفسير بغريب بأقل من أصحاب هذه الكتب، حيث حفظَ الشِّعرُ العربيُّ كثيرًا من أسماء المواضع التي لا تزال قائمةً، وقد كانت الاستفادة من الشعر في هذا الجانب، منحصرة في معرفة الأماكن الجغرافية التي ورد ذكرها في القرآن الكريم.
وقد كان بعض الشعراء يُكثِرُ من ذكرِ المواضع في شعره، ولا سيما شعراء الجاهلية، وكان عديُّ بن الرِّقاعِ العامليُّ مِمَّن أكثر من ذكر المواضع والبقاع في شعره حتى إِنَّ ياقوت الحموي استشهد بشعره في تَحديدِ المواضع في أكثر من مائة وعشرة شواهد شعرية، وهو عددٌ كبير نسبةً لما استشهد به لشعراء آخرين. (1)
وقد وقع في القرآن الكريم من أَسْماءِ المواضعِ ستةٌ وعشرون موضعًا منها بكة، ويثرب، وبدر، وحُنَين، وعرفات، وبابل، وغيرها.
(1) انظر: ديوان عدي بن الرقاع 15.
وقد استقصاها السيوطي (1)، وقد تتبعت كلام المفسرين عن تَحديدِ هذه المواضعِ، ثُمَّ استخرجت منهُ ما استشهدَ المُفَسِّرُ فيه بشواهد الشعر، فتحصل لي من ذلك عدد قليل لا يتجاوز ستة مواضع. فلم يكن أثر الشاهد الشعري في الاستدلال على المواضع والبقاع المذكورة في القرآن عند المفسرين الذين درستهم ظاهرًا، وإِنَّما كان على قلة. ومن الأمثلة على ذلك:
1 -
عند تفسير قوله تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا} [التوبة: 25](2) ذكر الطبري أنَّ حُنين وادٍ يقع بين مكةَ والطائفِ، ثُمَّ استشهد على ذلكَ بقولِ حسان رضي الله عنه وهو يذكر حنين ومعركتها:
نَصَروا نَبِيَّهمُ وشَدُّوا أَزْرَهُ
…
بِحُنَيْنَ يومَ تَواكلِ الأَبطالِ (3)
وقد تركَ الشاعرُ صَرفَ «حُنَيْنَ» لأَنَّه أَرادَ بِها اسمَ الوادي. (4) وقال ابن عطية في التعريف بِحُنين: «وحنين وادٍ بين مكة والطائف، قريبٌ مِن ذِي المَجَازِ، وصُرِفَ حينَ أُريد به الموضعُ والمكانُ، ولو أُريدَ بهِ البُقعةُ لم يُصرَفْ، كما قال الشاعر .. » . (5) ثم ذكر بيت حسان بن ثابت.
وحُنَينُ اليومَ هو وادي (يدعان) في أعلى الشرائع، ويقع على طريق مكة من نخلة اليمانية، ويسيل من جبال طاد والتنضب، ثم ينحدر غربًا، يسمى رأسه الصدر، وأسفله الشرائع. وتبعد حنين عن مكة ستة وعشرين كيلًا شرقًا، وعن حدود الحرم أحد عشر كيلًا، عن علمي طريق نَجد، وسُكَّانُهُ اليومَ مِن قبيلةِ هُذيل، ومن الأشراف. (6)
(1) انظر: الإتقان في علوم القرآن 2/ 1079 - 1082.
(2)
التوبة 25.
(3)
انظر: ديوانه 393.
(4)
انظر: تفسير الطبري (هجر) 11/ 386، معاني القرآن للفراء 1/ 429.
(5)
المحرر الوجيز 8/ 154.
(6)
انظر: صحيح الأخبار للبلادي 2/ 142 - 143، معجم الأمكنة الوارد ذكرها =
2 -
عند تفسير قوله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198](1) ذكر المفسرون مَوقعَ عَرفاتٍ، وأَنَّها أَحَدُ مشاعرِ الحج جنوبَ مكة، وكانت تُسمَّى نَعمانَ الأَراكِ لكثرة شجر الأراك بها، قال ابن عطية: «وعَرَفَةُ هي نَعمانُ الأَراكِ، وفيها يقولُ الشاعر (2):
تَزوَّدْتُ مِنْ نَعْمَانَ عُودَ أَراكةٍ
…
لِهِنْدٍ، ولكنْ مَنْ يُبلِّغُهُ هِندا (3)». (4)
وعرفات من المواضع المشهورة التي لا تجهل، وإنما استشهد ابن عطية بالشاهد للاستدلال على صحة قوله أنها نعمان الأراك. وهذا النوع من الشواهد الشعرية الجغرافية يحتاج إلى فضل معرفة بطبيعة الأرض التي ترد أسماؤها في الشعر، لا مجرد سماعها في الشعر دون معرفة سابقة، ولذلك كان العرب يعرفون أسماء المواضع والموارد في الجزيرة، مع بصر بلغة الشعر، وفهم دقيق لها، ولذلك كانوا ينتفعون بمثل ذلك. ومن الأمثلة الشاهدة لهذا ما ذكر من أَنَّ جَماعةً من أهل اليمن يريدون النبي صلى الله عليه وسلم فضلوا الطريق ووقعوا على غيرهم، ومكثوا مليًا لا يقدرون على الماء، وجعل الرجل منهم يستذري بفيء السمر والطلح، فأيسوا من الحياة، إذا أقبل رجل على بعير، فأنشد قول امرئ القيس:
تيمَّمَتِ العَيْنَ التي عند ضارجٍ
…
يفئُ عليها الظلُّ عَرْمضُها طامي (5)
قال الراكب: من يقول هذا؟ قال: امرؤ القيس، قال: والله ما كذب، هذا ضارِجٌ عندكم، وأشار لهم إليه. فحبوا على الرُّكَبِ، فإذا مَاءٌ عِدٌّ، وإذا عليه الغرمض والظل بفيء عليه. فشربوا منه ريهم وحملوا منه ما اكتفوا به حتى بلغوا الماء. فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروه وقالوا: يا
= في القرآن الكريم لسعد بن جنيدل 137 - 152.
(1)
البقرة 198.
(2)
هو المرقش الأكبر.
(3)
انظر: الأغاني 11/ 350، رسالة الغفران 348.
(4)
المحرر الوجيز 2/ 127.
(5)
العِرْمِض: الطحلب. انظر: الشعر والشعراء 1/ 112، خزانة الأدب 1/ 335.
رسول الله، أحيانا الله عز وجل ببيتين مِن شعرِ امرئ القيس وأنشدوه الشعر، فقال صلى الله عليه وسلم:«ذاك رجلٌّ مذكورٌ في الدنيا، شريفٌ فيها، مَنسيٌّ في الآخرة خاملٌ فيها، يَجيءُ يومَ القيامةِ معهُ لواءُ الشِّعرِ إلى النار» . (1)
وهذا مثال واحد على انتفاع العرب بالشعر في الاستدلال على المناهل والمواضع والطرق، وفي كتب البلدان والأدب كثير من الأمثلة المشابهة لهذه القصة.
3 -
عند تفسير قوله تعالى: {وَقِيلَ يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود: 44](2) ذكر أبو عبيدة أَنَّ الجُوديَّ اسمُ جبلٍ، واستشهد على ذلك بشاهد من الشِّعرِ فقال: «الجُودِيُّ: اسمُ جَبَلٍ، قال زيدُ بن عمرو بن نُفَيلٍ العَدويُّ:
وقَبْلَنا سَبَّحَ الجُودِيُّ والجَمَدُ». (3)
في حين استشهد القرطبي بهذا الشاهد على أن الجودي اسم لكل جبلٍ فقال: «وقد قيل: إن الجودي اسم لكل جبل، ومنه قول زيد بن عمرو بن نفيل:
سُبحانَهُ ثُمَّ سُبحانًا يَعُودُ لَهُ
…
وقبلَنا سَبَّحَ الجُودِيُّ والجُمُدُ». (4)
وأما الطبري فذكر أن الجودي جبل بناحية الموصل أو الجزيرة (5)، دون استشهاد بشواهد شعرية. وبالجملة فإن الشعر بصفة عامة مما استعان به الجغرافيون في كتبهم للاستدلال على المواضع، غير أن المفسرين لم يعنوا بهذا في كتب التفسير كثيرًا، وإنما في مواضع قليلة.
(1) عيون الأخبار 1/ 143، الأغاني 7/ 123، وهي قصة مشهورة عند الأدباء والإخباريين كمت قال ياقوت الحموي في معجم البلدان 5/ 421، قال أحمد شاكر: وهي مشهورة عند الإخباريين والأدباء، ولكنها غير معروفة عند المحدثين، وهم الحجة فيما ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. انظر: الشعر والشعراء 1/ 126 حاشية 4.
(2)
هود 44.
(3)
مجاز القرآن 1/ 290.
(4)
الجامع لأحكام القرآن 9/ 42.
(5)
انظر: تفسير الطبري (هجر) 12/ 419.