الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وربما ورد الشعر في أثناء القصص والحوادث التاريخية ونحوها، مما لا يعد غرضًا قائمًا برأسه، أو يدخل تحت الشواهد التاريخية، وقد سبقت الإشارة إليها في أنواع الشواهد الشعرية، وليست من مقصود البحث.
الغرض الثاني: التمثل بالشعر
.
التَّمَثُّلُ تَفَعُّلٌ من تَمَثَّلَ إذا أَنشدَ بيتًا من الشعر ثم آخر. (1) والتمثل بالشعر باب واسع، أوسعُ من المَجازاتِ والكِنايات، وهو بابُ الإشارات التي قد تكون قريبةً، وقد تكون بعيدةً، ويقوم هذا البابُ على انتزاع الشعر من دوائر السياق، ونفض بعض دلالاته، وإصباغِ دلالات جديدة عليه، والخروج بالمعاني إلى مساحاتٍ أوسع، وفضاءاتٍ أَشْمل.
وقد ذكر عبد القاهر الجرجاني وهو يدافع عن الشعر أنَّ الحسن البصري رحمه الله كان يتمثل في مواعظه بالأبيات من الشعر، وكان من أوجعها عنده:
اليومَ عندَكَ دَلُّها وحَديثُها وغدًا لِغَيْرِكَ كَفُّها والمِعْصَمُ (2)
وهذا البيت قيل في مَذمَّةِ النساء، ولكنَّ الحسن البصريَّ كان ينقله إلى معانٍ أُخرى في الحث على الزهد في الدنيا، وتراهُ أَهملَ الدَّلَّ والدلالَ في البيت، وجعل ذلك كلَّهُ إشاراتٍ إلى ما يَملكُ على المرء قلبَهُ، من دُنيا، أو جاهٍ، أو مالٍ، أو ولدٍ أو نحو ذلك. وهذا هو المقصود بالتمثلِ بالشعرِ. وليس هو من ضرب الأمثال وإرسالها فذاك باب آخر غير هذا.
وذكر الزمخشري بيتين للمأمون كان يتمثل بهما في أخيه الأمين هُما:
(1) انظر: لسان العرب 13/ 22 (مثل).
(2)
البيت غير منسوب، وقيل: إنه للحسن البصري. انظر: أمالي الشريف المرتضى 1/ 160، دلائل الإعجاز 13.
يا صاحبَ البَغْي إِنَّ البَغيَ مَصْرَعةٌ
…
فارْبَعْ فخيرُ فِعالِ المرءِ أَعدلُهُ
فلو بَغَى جَبَلٌ يومًا على جَبَلٍ
…
لانْدَكَّ منه أَعاليهِ وأَسفلُهُ (1)
ولا يُشترطُ في التمثُّلِ بالشعرِ أن يكون بالشعر المحتج به في اللغة والنحو، وإنما يُتمثَّلُ بكل بيتٍ من الشعرِ حَمَل معنىً شريفًا، أو كان له مناسبةٌ تَعرِضُ في كتب التفسير، ولذلك يتمثل الزمخشريُّ والقرطبي وغيرهما بشعر المُحدثين والمعاصرين.
والتمثل بالشعر في كتب التفسير يكثر عند الزمخشري والقرطبي، ويقل عند ابن عطية، وينعدم عند الطبري. وليس هذا الغرض من أغراض الشاهد الشعري الأصلية التي يدرسها هذا البحث، فليس له ضابط متفق عليه عند العلماء، وإنما هو من الخواطر التي ترد على ذهن المفسر، وتعتمد على سعة محفوظه من الشعر، بخلاف الاستشهاد الذي قيده العلماء وضبطوه بضوابط وشروط لقبوله وصحته. ومن أمثلة التمثل بالشعر في كتب التفسير ما يلي:
1 -
قال الزمخشري عند تفسير قوله تعالى: {إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44)} [يس: 44](2): «إلى أَجَلٍ تَموتون فيه لا بُدَّ لهم منه بعدَ النجاةِ من مَوْتِ الغَرَقِ. ولقد أحسن من قال (3):
ولم أَسْلَمْ لكي أَبْقَى ولكنْ
…
سَلِمْتُ من الحِمامِ إلى الحِمامِ (4)». (5)
فقد تمثل الزمخشري ببيت المتنبي لمناسبته لمعنى الآية، فكما أن الآية تدل على أن من ينجو من عذاب الله بالغرق لن ينجو من الموت إذا
(1) انظر: الكشاف 2/ 340.
(2)
يس 44.
(3)
هو المتنبي أحمد بن الحسين المتوفى سنة 354 هـ.
(4)
البيت من قصيدته الميمية في وصف الحُمَّى، ورواية الديوان:
وإِنْ أَسْلَمْ فما أَبْقَى ولكنْ
…
سَلِمْتُ من الحِمامِ إلى الحِمامِ
انظر: الديوان بشرح البرقوقي 4/ 353.
(5)
الكشاف 4/ 18.
حان الأجل، فكذلك بيت المتنبي يحمل المعنى نفسه، وهو أن الذي ينجو من المرض بالشفاء، فإنما هي نجاة مرهونة بحلول الأجل والموت.
2 -
ومن الأمثلة قول القرطبي وهو يفسر معنى وصف الله للنبي صلى الله عليه وسلم بالعبد، فقال: «وقال بعضهم: لما كانت العبادة أشرف الخصال، والتسمي بها أشرف الخطط، سَمَّى نبيَّه صلى الله عليه وسلم عبدًا، وأنشدوا:
يا قومُ قَلبي عندَ زهراءِ
…
يعرفهُ السامعُ والرَّائي
لا تدْعُنِي إِلا بيَا عَبدَها
…
فإِنَّهُ أشرفُ أَسْمائي (1)» (2).
وهذا من القرطبي تَمثلٌ بهذين البيتين لا استشهاد به، وأكثر من يستشهد بها أهل التصوف (3).
ويكثر عند المفسرين من أهل التصوف أيراد الشعر لأغراض خاصة بأهل التصوف، ولهم في ذلك اصطلاحات خاصة بهم، ويكثر هذا عند أهل التفسير الإشاري، ومعظم هذه الأشعار تشتمل على معاني الحب والشوق والغرام، وغرضهم من إيرادها ليس المعاني الظاهرة من الشعر، وإنما معاني أخرى، هي معاني التعلق بالله، والشوق إليه، وهذا دأب أهل التصوف فإنهم يُكثرونَ من الاستناد إلى الأشعار في تحقيق المعاني العلمية والعملية، ويجري ذلك في كتبهم، وفي بيان مقاماتهم، «فينتزعون معاني الأشعار، ويضعونها للتخلق بمقتضاها، وهو في الحقيقة من المُلَحِ؛ لما في الأشعار الرقيقة من إمالة الطباع، وتحريك النفوس إلى الغرض المطلوب، ولذلك اتخذه الوعاظ ديدنًا، وأدخلوه في أثناء وعظهم» (4).
(1) غير منسوبين.
(2)
الجامع لأحكام القرآن 1/ 161.
(3)
ذكر المقري أن أبا العباس المرسي المتصوف كان كثيرًا ما ينشدهما. انظر: نفح الطيب 3/ 124.
(4)
الموافقات للشاطبي 1/ 116.
ومن هذه التفاسير تفسير «لطائف الإشارات» للقشيري (ت 465) الذي لا تكاد تخلو صفحة من صفحاته من التمثل بالشعر. ومن أمثلة ذلك في تفسير القشيري عند تفسير قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة: 264](1) قال القشيري: «إِنَّما يُحمَلُ جَميلُ المِنَّةِ من الحق سبحانه، فأمَّا من الخلق فليس لأحدٍ على غيره مِنَّةً، فإِنَّ تَحمُّلَ المِنَنِ من المخلوقين أَعظمُ مِحْنةً، وشهودَ المِنَّةِ من الله أعظمُ نعمةٍ، قال قائلهم (2):
ليسَ إجلالُكَ الكبارَ بِذُلٍّ
…
إِنَّما الذُّلُّ أَنْ تُجِلَّ الصغارا (3)» (4).
والأمثلة على ذلك عند القشيري كثيرة (5)، وقد بلغ عدد الشواهد الشعرية في تفسير القشيري (683) شاهدًا شعريًا ساقها كلها مساقًا إشاريًا، غير المعنى الظاهر منها.
(1) البقرة 264.
(2)
لم أقف على القائل.
(3)
انظر: الكشكول للعاملي 245.
(4)
لطائف الإشارات 1/ 190.
(5)
انظر: لطائف الإشارات 1/ 16، 17، 18، 21، 28، 31، 33، 37، 41، 43، 44، 45، 49، 51، 55، 60، 61، 63، 68، 81، 83، 89، 118، 121 وغيرها.