الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع: أثر الشاهد الشعري في الجانب الفقهي عند المفسرين
.
الفقه في اللغة هو الفَهم (1)، وفي الاصطلاح: العلمُ بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية. (2) ويظهر الفقه في كتب التفسير عند تفسير الآيات القرآنية المشتملة على الأحكام الفقهية، وقد توسع فيها بعض المفسرين كالقرطبي في تفسيره، حتى عد كتابه من كتب الفقه لكثرة مسائل الفقه فيه، في حين اقتصر أغلب المفسرين على الوقوف عند دلالة الآيات دون التوسع في ذكر أقوال الفقهاء ومذاهبهم.
وقد ذكر ابن سلام أن الفرزدق كان يجلس في حلقة الحسن البصري، فيأتي الناس يستفتون الحسن، فيتولى الفرزدق جوابهم بشعره، ويقره الحسن على ذلك. وقد أورد من ذلك مثالين، أحدهما: أنه جاء رجل إلى الحسن فقال: يا أبا سعيد! الرجل يقول في كلامه: لا والله، بلى والله، ولا يريد اليمين. فقال الفرزدق: أو ما سمعت ما قلت في ذلك؟ فقال الحسن: ما كُلُّ ما قلتَ سَمِعوا، وما قلتَ؟ قال: قلتُ:
ولستَ بِمأَخوذٍ بشيءٍ تَقولُهُ
…
إذا لَمْ تَعَمَّدْ عاقِداتِ العزائمِ (3)
وقد أَخذهُ الفرزدقُ من قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي
(1) انظر: المحكم 4/ 92، مقاييس اللغة 4/ 442، لسان العرب 10/ 305 (فقه).
(2)
انظر: التوضيح شرح التنقيح 1/ 12، بيان المختصر 1/ 18، المجموع المذهب 1/ 210، نهاية السول 1/ 19.
(3)
انظر: ديوانه 851.
أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89](1). وقد أَقرَّهُ الحسنُ على جوابه هذا. (2)
والثاني: جاء رجل آخر إلى الحسن يسأله: يا أبا سعيد! إِنَّا نكونُ في هذه المغازي، فنصيبُ المرأة لها زوجٌ، أفيحلُ غشيانها ولم يطلقها زوجها؟ فقال الفرزدق: أو ما سمعت ما قلت في ذلك؟ قال الحسنُ: ما كُلُّ ما قلتَ سَمِعوا، فما قلت في ذلك؟ قال: قلتُ:
وذاتِ حَليلٍ أَنكحتْنَا رِماحُنَا
…
حَلالًا لِمَنْ يَبْنِي بِها لَم تُطَلَّقِ (3)
فَصدقه الحسنُ، وحَكمَ بظاهرِ قولِه، ولم يزد على ذلك. (4)
وقد حفظت أبيات الشعر التي تشتمل على الأحكام الفقهية في كتب العلماء، كالأبيات التي رواها ابن حَجَر لليَزيديِّ في إثباتِ القياسِ مِن رواية أبي عمرو بن العلاء. (5) وقد أُنشد الرشيدُ في مَجلسهِ أبياتًا من الشِّعر، وهي قول الشاعر:
فإِنْ تَرْفُقي يا هِنْدُ فالرِّفْقُ أَيْمَنُ
…
وإِنْ تَخْرَقِي يا هندُ فالخُرْقُ أَشأَمُ
فأَنتِ طَلاقٌ، والطَّلاقُ عَزيِمَةٌ
…
ثَلاثًا، ومَنْ يَخْرَقْ أَعَقُّ وأَشْأَمُ
فَبِيْنِي بِها إِنْ كُنتِ غَيْرَ رفِيقةٍ
…
وما لامرئٍ بعدَ الثلاثِ مُقَدَّمُ
فاختلفوا في تفسيرها للاختلاف في إنشاد قوله: «عَزِيْمَة ثلاث» ، فقد أنشد البيت (عزيمةٌ ثلاثٌ) بالرفع، و (عزيمةٌ ثلاثًا) بالنصب، فلم يعرفوا جوابها. فأرسلَ الرشيدُ إلى القاضي أَبي يوسف يسأله الجوابَ. فقال أبو يوسف: هذه مسألةٌ فقهيةٌ نَحويَّةٌ، فقصد الكسائيَّ يسألهُ، فقال: اكتب. أما من أنشد البيت بالرفع فقال عزيمة ثلاث، فإنما طلقها
(1) المائدة 89.
(2)
انظر: طبقات فحول الشعراء 2/ 335 - 336.
(3)
انظر: ديوانه 576.
(4)
انظر: العمدة في صناعة الشعر ونقده 1/ 71 - 72.
(5)
انظر: فتح الباري 13/ 252 - 253.
واحدة، وأنبأها أن الطلاق لا يكون إلا بثلاثة، ولا شيء عليه. وأما من أنشد عزيمةٌ ثلاثًا فقد طلقها وأبانها، لأنه كأنه قال: أنت طالق ثلاثًا. (1) وقد كان مثل هذا الشاهد من الشعر الذي يَمتزجُ فيه الفقهُ بالنحوِ شائعًا في مَجالسِ الفُقهاءِ والنحويين. (2)
وقد استعان المفسرون بالشاهد الشعري في تفسيرهم لهذه الآيات كغيرها من آيات القرآن الكريم، ولذلك فإن الشاهد الشعري قد ظهر أثره في هذا الجانب الفقهي في كتب التفسير في الآتي:
أولًا: هناك آيات اختلف فيها المفسرون خلافًا فقهيًا ترتب على خلاف نحوي أو لغوي، وباعتبار الراجح من الرأيين يتغير الرأي الفقهي والتفسير تبعًا لذلك، وبالتالي يكون الشاهد الشعري مؤثرًا في مثل هذه المواضع، غير أن أمثلة ذلك في كتب التفسير قليلة منها:
- عند تفسير قوله تعالى: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)} [آل عمران: 17](3) قال ابن عطية وهو يفسر المقصود بالأسحارِ في الآية: «والسَّحَرُ والسَّحْرُ بفتح الحاء وسكونها آخرُ الليلِ، قال الزجاجُ وغيرهُ: هو قبلَ طلوعِ الفجرِ. (4) وهذا صحيحٌ؛ لأَنَّ ما بعدَ الفَجرِ هو من اليومِ لا من الليلةِ. وقال بعض اللغويين: السَّحَرُ من ثلثِ الليلِ الآخرِ إلى الفجرِ» . ثُمَّ عقَّب ابنُ عطية على هذا بقوله: «والحديثُ في التَنَزُّلِ (5)، وهذه الآيةِ في الاستغفارِ يؤيدان هذا. وقد يَجيءُ في
(1) انظر: مجالس العلماء للزجاجي 259 - 260.
(2)
انظر: مغني اللبيب 1/ 333، شرح شواهد المغني 61، الأشباه والنظائر 3/ 42، 43، 4/ 220، خزانة الأدب 2/ 70.
(3)
آل عمران 17.
(4)
انظر: معاني القرآن وإعرابه 1/ 385.
(5)
يشير إلى قول النبي: «يَنْزِلُ ربُّنا في كلِّ ليلةٍ إلى سَماءِ الدُّنيا، فيقول: مَن يدعوني فأستجيبَ له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ » . أخرجه البخاري (1145)، ومسلم (758) وغيرهما. وانظر: شرح الطحاوية للحنفي 269، 681.
أَشعارِ العَرَبِ ما يقتضي أنَّ حُكمَ السَّحَرِ يستمرُّ فيما بعدَ الفجرِ، نَحو قولِ امرئ القيس:
يُعَلُّ بهِ بَردُ أَنيابِها
…
إذا غَرَّدَ الطائرُ المُسْتَحِرّ (1)
يقال: أَسْحَرَ واستَحَرَ إذا دخلَ في السَّحَرِ، وكذلك قولهم: نَسِيمُ السَّحَرِ يقعُ لِمَا بعد الفجر، وكذلك قول الشاعر (2):
تَجِدِ النِّساءَ حَواسِرًا يَندبْنَهُ
…
قد قُمْنَ قبلَ تَبلُّجِ الأَسحارِ (3)
فقد قضى أَنَّ السَّحَرَ تبلَّجَ بطلوعِ الفجر، ولكنَّ حقيقةَ السَّحرِ في هذه الأحكام الشرعية من الاستغفارِ المَحمودِ، ومن سُحُورِ الصائم، ومِن يَمينٍ لو وقعتْ، إِنَّما هي من ثُلُثِ الليل الباقي إلى السَّحَرِ». (4)
فقد استدل ابن عطية بالشواهد الشعرية في تبين معنى السحر في اللغة، غير أنه لم يحمل معنى السحر في الأحكام الشرعيةِ كسحورِ الصائمِ، على هذه الشواهدِ الشعريَّةِ التي تدل على أن السحر يستمر إلى ما بعد طلوع الفجر، وتبلج النور، وإِنَّما يحمل معنى السحر في العبادات على ما عُرِف في الشَّرعِ من كونِها قبل الفجر. (5)
عند تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)} [البقرة: 3](6)، ذكر القرطبيُّ قولَ خداش بن زُهَيْرٍ العامريِّ:
رَأَيتُ اللهَ أَكْبَرَ كُلِّ شِيءٍ
…
مُحاولةً وأَعظمَهُ جُنُودا (7)
في أثناءِ تقويته لرأيِ جُمهورِ الفُقهاءِ أَنَّهُ لا يُجزئُ في الدخولِ في
(1) انظر: ديوانه 158.
(2)
هو الربيع بن زياد العبسي، شاعر جاهلي من قيس عيلان.
(3)
انظر: التعازي والمراثي للمبرد 280، شرح الحماسة للمرزوقي 2/ 991.
(4)
المحرر الوجيز 3/ 40.
(5)
انظر: الجامع لأحكام القرآن 4/ 38 - 39.
(6)
البقرة 3.
(7)
منتهى الطلب للميموني 8/ 359.
الصلاةِ إِلَّا لفظُ التكبيرِ، ولا يُجزئُ منهُ تَهليلٌ ولا تسبيحٌ ولا تعظيمٌ ولا تَحميدٌ، ونص على أنه:«لا يُجزئُ عند مالكٍ إِلَّا «الله أكبر» لا غير ذلك». (1)
ذكر القرطبي عند تفسير قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة: 203](2) اختلاف العلماء في المراد بالأيام المعدودات في الآية، فمنهم مَنْ قالَ: إنها الثلاثة التي بعد يوم النحر، وليس يوم النحر منها، ومنهم من عَدَّهُ منها، ثُمَّ قال مؤيدًا لاستدلاله أن أيام منى ثلاثة معدودة ليس يوم النحر منها: «ومن الدليلِ على أنَّ أيامَ مِنى ثلاثة - مع ما ذكرناه - قولُ العَرْجِيِّ:
ما نَلْتَقِي إِلَّا ثَلاثَ مِنى
…
حتى يُفَرِّقَ بينَنا النَّفْرُ (3)». (4)
فجعلَ شاهد الشعر مؤيدًا لقول القائلين بأَنَّ أَيامَ مِنًى ثلاثة معدودة، وليس حجة في هذا السياق، ولكنه استأنس به استئناسًا، مع ملاحظة موضوع الشاهد الشعري هنا، وكونه في النسيب، غير أنه لم يكن المفسرون يتحرجون في مثل هذه الشواهد.
عند تفسير قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11](5) ذكر القرطبيُّ إِجْماعَ العلماءِ على أنَّ الأَخَوينِ فصاعدًا يَحجُبانِ الأُمَّ حَجْبَ نُقصانٍ من الثلث إلى السُّدسِ فقال: «أَجْمعَ أهلُ العلمِ على أَنَّ أخوين فصاعدًا ذكرانًا كانوا أو إناثًا، من أبٍ وأمٍّ، أو من أبٍ، أو مِن أُمٍّ يَحجبونَ الأُمَّ عن الثلث إلى السدس، إلا ما روي عن ابن عباس أن الاثنين من الإخوة في حكم الواحد، ولا يَحجُبُ الأُمَّ أَقلُّ مِن ثلاثةٍ» . (6)
(1) الجامع لأحكام القرآن 1/ 175 - 176.
(2)
البقرة 203.
(3)
انظر: ديوانه 43.
(4)
الجامع لأحكام القرآن 3/ 2.
(5)
النساء 11.
(6)
الجامع لأحكام القرآن 5/ 72.
ثم استدل بأدلة تؤيد صحة ما ذهب إليه القائلون بأَنَّ الاثنين جَمعٌ، ومن هذه الأدلة قوله: «وصحَّ قولُ الشاعرِ (1):
ومَهْمَهَيْنِ قَذَفيْنِ مَرْتَيْن
…
ظَهراهُما مِثلُ ظُهورِ التُّرسَيْن (2)
وأنشد الأخفش:
لَمَّا أَتَتْنا المَرأَتَانِ بِالخَبَرْ
…
فَقُلْنَ إِنَّ الأَمْرَ فينا قَدْ شُهِرْ (3)
وقال آخر (4):
يُحَيَّ بالسَّلامِ غَنِيُّ قَومٍ
…
ويُبْخَلُ بالسَّلامِ على الفقيرِ
أليسَ الموتُ بينهما سَواءٌ
…
إذا ماتوا وصاروا في القبورِ؟ (5)». (6)
والشاهد في هذه الأبيات عودةُ ضميرِ الجمْعِ على المُثَنَّى المتقدم، مِمَّا يَعني اعتبار المثنى جَمعًا، فالشاهد في الأول قوله (ظُهور التُّرْسَيْن) فجمع الظهور، وفي الثاني قوله (فقلن) ولم يقل (فقالتا)، وفي الثالث قوله (ماتوا وصاروا) فالضمير يعود على مثنى، وهذا دليل على أَنَّ الأخوين يَحجُبانِ الأمَّ حجبَ نقصانٍ. وهذا يدل على أثر الشاهد الشعري في مسائل الفقه، وأن المفسرين استشهدوا به في ذلك.
عند تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [التوبة: 60](7) ذكر القرطبي اختلاف علماء اللغة والفقهاء في الفَرْقِ بين
(1) هو خطام المجاشعي، وهو شاعر إسلامي.
(2)
المَهْمَهُ: القَفْرُ المَخُوفُ، والقَذَفُ - بفتحتين وبضمتين - البَعيدُ من الأرض، ويروى: فَدْفَدين، والفَدْفَدُ: الأرضُ المستوية، والمَرْتُ: الأرض التي لا ماء فيها ولا نبات، والظَّهْرُ: ما ارتفع من الأرضِ، والترس: ما يتقي به الفارس في الحرب. انظر: الكتاب، خزانة الأدب 2/ 316، 7/ 544.
(3)
لم أجده.
(4)
هو هاني بن توبة بن سحيم بن مرة الشيباني.
(5)
انظر: جمهرة الأمثال للعسكري 1/ 218.
(6)
الجامع لأحكام القرآن 5/ 73.
(7)
التوبة 60.
الفقيرِ والمِسكينِ، فذهب بعضهم إلى أنَّ الفقيرَ أَحسنُ حالًا من المسكين، وذهبوا إلى أنَّ الفقيرَ الذي له بعضُ ما يكفيه، ويُقيمُهُ. والمسكينُ الذي لا شيءَ لهُ، واستشهدوا على ذلك بقول الراعي النُّميريِّ:
أَمَّا الفَقِيْرُ الذي كانَتْ حَلُوبَتُهُ
…
وَفْقَ العِيالِ فَلَمْ يُتْرَكْ لَهُ سَبَدُ (1)
ومعنى قولِهِ: وَفْق العِيالِ: على قَدْرِ كفاية عيالهِ من اللبن، ولا فضل فيها. (2)
ذكر القرطبي عند تفسير قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 103](3) أن ما لم يبلغ نصاب الزكاة لا يسمى مالًا، ونسب هذا القول لثعلب. واستشهد على ذلك بقول الشاعر:
واللهِ ما بَلَغَتْ لي قَطُّ مَاشيةٌ
…
حَدَّ الزَّكاةِ ولا إِبْلٌ ولا مالُ (4)
وقد ذكر هذا القول عن ثعلب أبو علي القالي فقال: «قال أبو بكر (5): المال عند العرب الإبل والغنم. والفضّة: الرّقة والورق. والذّهب: النّضر والنّضير والعقيان. قال وحدثنا أبو العباس أَحْمدُ بنُ يَحيى قال: المالُ عند العربِ أقلُّهُ ما تَجبُ فيه الزكاةُ، وما نَقَصَ مِنْ ذلك فلا يقعُ عليه مال. قال وأنشدنا أبو العباس
…
». (6) ثُمَّ ذكر الشاهد.
ومن الأمثلة على الشواهد الشعرية ذات العلاقة بالأحكام الفقهية
(1) انظر: ديوانه 64.
(2)
انظر: الجامع لأحكام القرآن 8/ 169.
(3)
التوبة 103.
(4)
انظر: أمالي القالي 2/ 302.
(5)
هو أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري وقد تقدمت ترجمته، وهو شيخ أبي علي القالي، وقد روى عنه كثيرًا من شواهد الشعر في تفسير القرآن في أماليه كما في 2/ 262، 268.
(6)
أمالي القالي 2/ 301 - 302.
في مناسك الحج في كتب التفسير ما ذكره العلماء عندَ تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)} [الحج: 29](1) في بيان معنى «التَّفَثِ» ، فقد ورد في بيانِ معناها أقوالٌ عن العلماء، منها قولُ الإمام مالك أَنَّ المقصود بالتَّفَثِ حَلْقُ الشَّعَرِ، ولبسُ الثيابِ، وتقليمُ الأظفارِ، وما أتبع ذلك مِمَّا يُحِلُّ به المُحرِم (2).
وفي الجمهرة لابن دريد: «قال أبو عبيدة: هو قصُّ الأظافرِ، وأَخْذُ الشاربِ، وكُلُّ ما يَحرمُ على المُحرِمِ، إِلَّا النِّكاح، ولم يَجئ فيه شِعْرٌ يُحتجُّ بهِ» . (3) وقال الزجاج: «والتَّفَثُ في التفسيرِ جاءَ، وأهلُ اللغةِ لا يَعرفُونَهُ إِلا من التفسيرِ» . (4) وذكر مثلَ ذلك الأزهريُّ (5).
غير أَنَّ ابنَ العربيِّ قد تتبع هذه اللفظةَ في كتب العلماء فقال: «ثُمَّ تتبعتُ التفث لغةً فرأيتُ أبا عبيدةَ مَعْمَرَ بنَ المُثنَّى قد قال: إنه قصُّ الأظفارِ، وأخذُ الشاربِ، وكل ما يَحرمُ على المُحرِمِ، إلا النكاح، ولم يَجئ فيه بشعرٍ يُحتجُّ بهِ. وقال صاحب العينِ: التفثُ هو الرميُ، والحَلْقُ، والتقصيرُ، والذبحُ، وقَصُّ الأظفارِ والشاربِ، ونتفُ الإبطِ. وذكر الزجاج والفراء نحوه (6)، ولا أُراهُ أَخَذَهُ إلا من قَولِ العُلماءِ. وقال قُطرب: تَفِثَ الرجلُ إذا كَثُرَ وَسَخُهُ، وقال أميةُ بنُ أبي الصَّلتِ:
حَفُّوا رؤُوسَهُمُ لَمْ يَحْلِقُوا تَفَثًا
…
ولَم يَسلُّوا لَهُمْ قَمْلًا وصِئْبَانا (7)». (8)
ثُمَّ قال ابنُ العربي معلقًا على هذه الأقوال: «وإذا انتهيتم إلى هذا المقامِ ظهرَ لكمْ أَنَّ ما ذُكِرَ أَشارَ إليهِ أميةُ بنُ أَبي الصَّلْتِ، وما ذَكرهُ
(1) الحج 29.
(2)
انظر الأقوال في تفسير الطبري (هجر) 16/ 525 - 528.
(3)
جَمهرة اللغة 1/ 384، وانظر عبارة أبي عبيدة في مجاز القرآن 2/ 50 وليس فيها قوله:«ولم يجئ فيه شعر يُحتجُّ به» .
(4)
معاني القرآن وإعرابه 3/ 422.
(5)
انظر: تهذيب اللغة 14/ 266.
(6)
انظر: معاني القرآن للفراء 2/ 224.
(7)
انظر: ديوانه 127.
(8)
أحكام القرآن 3/ 284.
قطربُ هو الذي قالَهُ مالكُ، وهو الصحيحُ في التفثِ، وهذهِ صورة قضاءِ التَّفَثِ لغةً، وأما حقيقتهُ الشرعيةُ فإذا نَحَرَ الحاجُ أو المعتمرُ هَدْيَهُ، وحَلَقَ رأسَهُ، وأَزَالَ وَسَخَهُ، وتطهَّر وتنقَّى، ولَبِسَ الثيابَ، فَيقضي تَفثَهُ». (1)
فقد تنبَّهَ ابنُ العربيِّ مستدركًا على مَنْ نَفَى وجودَ هذه اللفظةِ الغريبةِ في شِعْرِ العَرَبِ، ونقل ذلك القرطبي في تفسيره. (2) وأميةُ مِمَّن احتجَّ المفسرون بأَشعارِهم في غير موضعٍ من كتبِ التفسير كما تقدم تفصيله، وعبارة أبي عبيدة في أن هذه اللفظة لم ترد في شعر العرب، قد لقيت صدى في كتب أهل اللغة، وعلق عليها عبد السلام هارون فقال:«والبيتُ - أي بيت أمية - حُجةٌ على أبي عبيدة إذ يقول: ولم يَجئ فيهِ شِعْرٌ يُحتجُّ بهِ» (3)، غير أَنَّ تلميذَهُ الجاحظَ أصاب في قوله:«وما أَقلَّ ما ذَكَرَوا التَّفَثَ في الأشعار» (4)، بعدَ أَنْ ذَكَرَ بيتَ أُميَّة بن أبي الصَّلْتِ السابق، وبَيَّنَ المقصودَ بالتَّفَثِ، فهو قليل الورود فحسب كسائر غريب اللغة، وإن كان أبو عبيدة لم يقل هذا في «مَجازِ القرآن» حيث مَظِنَّتُهُ، فربما ذكره في موضع آخر.
وهناك شاهد آخر لهذه اللفظة هو قول الشاعر:
قَضَوا تَفَثًا ونَحْبًا ثُمَّ ساروا
…
إِلى نَجْدٍ وما انتظرُوا عَليَّا (5)
والأمثلة على أثر الشاهد الشعري في مسائل الفقه التي بحثها المفسرون قليلة، وهي في تفسير القرطبي أكثر، لعنايته بِمسائل الفقه وفروعه وما يتعلَّق بِها، وأما تفسير الطبري وابن عطية والزمخشري فلم تلتفت لمثل هذه الشواهد كما صنع القرطبي، ولذلك ندرت أمثلتها في كتبهم، ويمكن القول بعد هذا أن أثر الشاهد الشعري في الجانب الفقهي في كتب التفسير لم يكن ظاهرًا، وأن أمثلته قليلة.
(1) المصدر السابق 3/ 285.
(2)
انظر: الجامع لأحكام القرآن 12/ 50.
(3)
الحيوان 5/ 377 حاشية المحقق رقم 2.
(4)
الحيوان 5/ 376 - 377.
(5)
لم أعرف قائله. .