الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتب المعاني الذين كان لهم سبق في العناية بالشواهد الشعرية في التفسير.
ويُعَبِّر الطبري بتعبيراتٍ أخرى في معنى الشاهد، قد تكون قريبة المعنى مع الفرق الدقيق في الدلالة، كمصطلح الاحتجاج (1)، والتمثيل (2)، والدليل (3)، والاعتلال (4)، والانتزاع (5)، وكلها تعبيرات يقصد بها الطبري ما يقصده بالشاهد في تفسيره، لأن الشاهد عند الطبري له مفهومٌ مشتقٌّ من الأصل العام الذي اعتمده في تفسيره، وهو التأكيد على الحجة، والنقل الصحيح المستفيض المستند إلى الدليل.
وقد قمت بِحَصر مَا ورد في الجزء الأول من تفسيره الذي تضمن تفسير سورة الفاتحة وثلاثًا وأربعين آية من سورة البقرة، فوجدته استشهد بِمائتين وأربعين آية قرآنية تقريبًا، وثَمانِمائةٍ وتسعةٍ وثلاثين حديثًا وأثرًا، ومائة وثلاثة وستين شاهدًا شعريًا، وتحتلف بقية الأجزاء، فتزيد الآثار أحيانًا على شواهد الشعر، وتزيد الشواهد الشعرية على الآثار في بعض، مع ملاحظة أن الروايات والآثار التي يستشهد بها تتكرر كثيرًا، بخلاف الشواهد الشعرية التي يندر تكررها.
وقد اعتمد الطبري على الشاهد الشعري في الاستدلال اللغوي على غريب القرآن، وشرح المفردات، وشرح الأساليب النحوية والبلاغية، وغير ذلك، ومن أمثلة ذلك:
أولًا: اعتماد الطبري الشاهد الشعري في تفسير اللفظة الغريبة
.
يعتمد الطبري كثيرًا في تفسيره لغريب القرآن على شواهد الشعر،
(1) انظر: تفسير الطبري (شاكر) 9/ 483.
(2)
انظر: تفسير الطبري (شاكر) 2/ 165.
(3)
انظر: تفسير الطبري (شاكر) 1/ 105، 12/ 177، 13/ 53، (هجر) 24/ 725.
(4)
انظر: تفسير الطبري (شاكر) 1/ 439، (هجر) 24/ 314.
(5)
انظر: تفسير الطبري (شاكر) 2/ 236، لسان العرب 14/ 106 - 107 (نزع).
وقد أورد عددًا كبيرًا من الشواهد الشعرية لغريب القرآن، وفاقت شواهد الغريب في تفسيره جميع الشواهد الشعرية فبلغت أكثر من النصف من شواهده، ولو جَمَع باحثٌ مفرداتِ غريبِ القرآن من تفسير الطبري مع شواهدها من الشعر، لخرج في كتاب لطيفٍ يُنتفع به (1).
وقد أضاف الطبري كثيرًا من شواهد غريب القرآن لم يستعملها من قبله، وجانب الغريب قد لقي عناية من المفسرين، ولذلك يقول أبو حاتم الرازي بعد أن نقل عن أبي عبيدة استدلاله بالشعر على تفسير القرآن:«يَجوزُ هذا عندي فيما كان من الغريب والإعراب، فأما ما كان من الحلال والحرام، والأمر والنهي، والناسخ والمنسوخ، فليس لبشر أن يتكلم فيه برأيه، إلا ما فسرته سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاله الصحابة والتابعون» (2). وهذا هو الذي يحتج العلماءُ - من المفسرين وغيرهم - عليه بشعر العرب، ولم يكن أحدٌ منهم يحتج بشعر العرب إِلَّا في لغة القرآن وتركيبه، دون حلاله وحرامه، فلا مدخل له فيها، ولذلك قال ابن فارس:«لغة العرب -ومنها الشِّعْر- يُحتجُّ بها فيما اختلف فيه، إذا كان التنازع في اسم أو صفة أو شيء مما تستعمله العرب من سننها في حقيقة ومجاز، أو ما أشبه ذلك، فأما الذي سبيله الاستنباط، أو ما فيه لدلائل العقل مجال، فإن العرب وغيرهم فيه سواء؛ لأن سائلًا لو سأل عن دلالة من دلائل التوحيد، أو حجةٍ في أصل فقهٍ أو فرعه، لم يكن الاحتجاج فيه بشيء من لغة العرب، إذ كان موضوع ذلك غير اللغات» (3).
- ومن أمثلة اعتماد الطبري على الشعر في تفسير غريب القرآن ما جاء عند تفسيره لقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5](4) حيث ذهب إلى
(1) حاول الدكتور عبدالرحمن عميرة ذلك فأخرج كتابه «لغة العرب من تفسير الطبري» لكن فاته الكثير من المفردات والشواهد.
(2)
الزينة 1/ 127.
(3)
الصاحبي 49.
(4)
الفاتحة 5.
أن معناها: «لك اللهمَّ نَخشعُ ونَذِلُّ ونَستكينُ إقرارًا لك يا ربَّنا بالربوبيةِ لا لغيرك» (1).
وقد كان اختيارُه هذا التفسيرَ بناءً على ما روي عن العَربِ في أَشعارِها، وتسميتها الخشوعَ والذلةَ والاستكانةَ عبادةً، وتسميتها الطريق المُذلَّلَ الذي وطئتهُ الأقدامُ مُعبَّدًا، فقال في ذلك: «وإنما اخترنا البيانَ عن تأويله بأنه بِمعنى نَخشعُ ونذلُّ ونستكينُ، دون البيانِ عنه بأَنَّه بِمعنى نَرجو ونَخافُ - وإن كان الرجاءُ والخَوفُ لا يكونان إِلَّا مع ذلةٍ - لأَنَّ العبوديةَ، عند جَميع العربِ، أصلها الذلةُ، وأَنَّها تُسمِّى الطريقَ المذلل الذي قد وطئته الأقدام، وذللتهُ السابلةُ: مُعبَّدًا، ومن ذلك قولُ طَرفةَ بن العَبْدِ:
تُبَارِي عِتَاقًا نَاجياتٍ، وأَتْبَعَتْ
…
وَظِيْفًا وَظِيْفًا فوقَ مَورٍ مُعَبَّدِ (2)
يعني بالمَوْرِ: الطريقَ، وبالمُعبَّدِ: المُذلَّلَ الموطوءَ» (3). وهذا النقل يغني عن التدليل على اعتماد الطبري على الشاهد الشعري المذكور وغيره مِمَّا لم يذكره.
- وهذا مثالٌ آخر يدلُّ على مدى اعتماد الطبري على الشاهد الشعري، وثقته به في تَمثيلهِ للغةِ العربِ أصدقَ تَمثيلٍ، حيث جاء عند تفسير قوله تعالى:{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58)} [الأنفال: 58](4)، فذكر أقوال المفسرين في معنى قوله تعالى:{عَلَى سَوَاءٍ} ، وهي ثلاثة أقوال:
الأول: بمعنى فانبذ إليهم على عَدْلٍ، حتى يعتدل علمك وعلمهم
(1) تفسير الطبري (شاكر) 1/ 160.
(2)
يصف ناقته، ومعنى تباري: تُجاريها وتسابقها، والعتاق هي الكريمة الأصل، والناجية: السريعة، والوظيف: من رُسغي البعير إلى ركبتيه في يديه، والوظيف في البيت هو خف الناقة. انظر: ديوانه 35.
(3)
تفسير الطبري (شاكر) 1/ 161.
(4)
الأنفال 58.
بما عليه بعضكم لبعضٍ من المُحاربة، والثاني: أن السواء بمعنى الوسَط، والثالث: أن السواء بمعنى المَهَل.
فأما القول الأول فاستشهد له بقول الراجز:
واضرِبْ وُجوهَ الغُدُرِ الأَعْداءِ
…
حتى يُجيبوكَ إلى السَّواءِ (1)
يعني: إلى العدل.
وأما القول الثاني، وهو أن السواء بمعنى الوسط، فاستشهد له بقول حسان:
يَا وَيْحَ أَنْصارِ النَّبِيِّ وَرهطهِ
…
بَعْدَ المُغَيَّبِ في سَواءِ المُلْحَدِ (2)
بِمعنى: في وَسطِ اللَّحْدِ. ثم علق الطبري على ذلك تعليقًا ينبي عن اعتداده بالشاهد الشعري في التفسير فقال: «وكذلك هذه المعاني متقاربة؛ لأنَّ «العَدْلَ» وسَطٌ لا يعلو فوق الحق، ولا يقصر عنه. وكذلك «الوَسَطُ» عَدْلٌ. واستواءُ عِلْمِ الفريقين فيما عليه بعضهم لبعضٍ بعد المهادنةِ عَدْلٌ من الفِعْلِ وَوسَطٌ.
وأَمَّا الذي قاله الوليدُ بن مسلمٍ (3) من أَنَّ معناهُ: المَهَلُ، فَما لا أعلمُ لَه وَجهًا في كلامِ العرب» (4). فانظر كيف احتملَ الطبريُّ وقَبِلَ ما جاءت به الشواهد من معاني اللفظة ما لم تتعارض معانيها، ورده ما لم تؤيده الشواهد أنه من لغة العرب. وأمثلة هذا كثيرة في تفسيره (5).
وربما تجاوز الطبري شرح اللفظة الغريبة، إلى بيان اللفظة الفصيحة من غيرها معتمدًا على الشاهد الشعري في ذلك، وبَيانِ أَنَّ الآية قد
(1) لم أجده ولم أعرف قائله.
(2)
انظر: ديوانه 142.
(3)
هو عالم أهل الشام وحافظهم، من تلاميذ سفيان بن عيينة، ومن شيوخ أحمد بن حنبل، توفي مرجعه من الحج عام 194 هـ. وكان ثقة إذا صرح بالتحديث لاتهامه بالتدليس. انظر: طبقات ابن سعد 7/ 470، سير أعلام النبلاء 9/ 211.
(4)
تفسير الطبري (شاكر) 14/ 27.
(5)
انظر: تفسير الطبري (شاكر) 1/ 167، 170، 523، 534، 573، 7/ 62.