الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أولًا: ما اعترف واضعه بوضعه:
حفظ عن عدد من العلماء تصريحهم بالاعتراف بوضع بعض الأشعار، ونسبتها للمتقدمين. ومن أمثلة هذه الشواهد الموضوعة ما أورده المفسرون في مواضع متفرقة من تفاسيرهم، وهو قول الشاعر:
فَأَنْكَرتني ومَا كانَ الذي نَكِرَتْ
…
مِن الحوادثِ إِلَّا الشَّيبَ والصَّلعَا
على أنه للأعشى، فقد استشهد به أبو عبيدة على معنى قوله تعالى:{فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} [هود: 70](1) فقال: «نكرهم وأنكرهم سواء، قال الأعشى
…
» ثم ذكر الشاهد (2). واستشهد به الطبري على المسألة نفسها فقال: «يقال منه: نَكِرْتُ الشيءَ أُنْكِرُهُ، وأَنْكَرتُهُ أُنْكِرُه، بمعنىً واحد، ومِنْ نَكِرْتُ وأَنْكَرْتُ قولُ الأعشى:
وأَنْكَرتني ومَا كانَ الذي نَكِرَتْ
…
مِن الحوادثِ إِلَّا الشَّيبَ والصَّلعَا
فجَمع اللغتين جَميعًا في البيت» (3). واستشهد به الطبري كذلك على أن «العربَ قد تَجمعُ بين اللغتين، كما قال: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)} [الطارق: 17] (4) فجَمَعَ بين التشديد والتخفيف، وكما قال الأعشى .. » ثم ذكر الشاهد (5).
وهذا الشاهد قد نقل أبو عبيدة عن يونس بن حبيب البصري أن أبا عمرو بن العلاء قد اعترف له فقال: «أنا الذي زدتُ هذا البيت في شعر الأعشى إلى آخره فذهب، فأتوب إلى الله منه» (6). والبيت في ديوان الأعشى المطبوع، وقد ذكر المُحقق ما قيل في وضع القصيدة برمتها على الأعشى، وأقوال المحققين تردُّ كثيرًا من أبيات القصيدة ومنها هذا الشاهد، وقد نُسبَ وضعهُ إلى حَمَّاد الراوية، والمشهور أنه لأبي عمرو بن العلاء (7).
(1) هود 70.
(2)
مجاز القرآن 1/ 293.
(3)
تفسير الطبري (هجر) 12/ 472.
(4)
الطارق 17.
(5)
تفسير الطبري (هجر) 23/ 595.
(6)
مجاز القرآن 1/ 293.
(7)
انظر: مراتب النحويين 34، ديوان الأعشى 150.
ورُبَّما يفسر هذا ما فعله الطبري عندما استشهد به على أن العرب قد تجمع بين اللغتين معًا، حيث لم يفرده بالاستشهاد، بل ضم إليه قول أبي ذؤيب الهذلي:
فَنَكِرْنَهُ فَنَفَرْنَ، وامْتَرَسَتْ بِهِ
…
هَوجاءُ هاديةٌ، وهادٍ جُرْشُعُ (1)
وهذا من فطنة الطبري، وعدم ثقته بهذا الشاهد، وحسن بصره ودقته في التعامل مع الشاهد الشعري. وأما الزمخشري فقد استشهد به دون تنبيه على وضعه على غير عادته (2). وقد يكون الفعل متعديًا في اللغة ثلاثيًا وغير ثلاثي (نَكِرَ وأَنْكَرَ)، وهما موجودان في شعر هذيل، ويبدو من دراسة شعرهم، استعمال الفعل (نَكِرَ) إذا شاب معنى الإنكار خوف وتوجس، مثل قول أبي ذؤيب السابق. وهذا المعنى هو الذي تؤديه الآية الكريمة {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} [هود: 70] (3).
أَمَّا (أنكر) فهو أقرب إلى معنى الإنكار الخالص، الذي قد يغلب فيه العجب والدهش، على التوجس والخوف، وذلك مثل قول أبي خراش الهذلي:
رَفَونِي، وقالوا: يا خُويلدُ لا تُرَعْ
…
فقلتُ وأنكرتُ الوجوهَ: هُمُ هُمُ (4)
وقول أبي كبير الهذلي:
وصحوتُ عن ذكرِ الغواني وانتهى
…
عُمري، وأَنكرتُ الغداةَ تَقَتُّلي (5)
وربَّما اتُّهِم النحويونَ بوضع بعض الشواهد الشعرية تأييدًا لما يذهبون إليه، كما في الشاهد الذي أورده سيبويه، للاستشهاد على أن وزن «فَعِلَ» يعمل عَمَلَ فعله. يقول ابن عطية:«واختُلِفَ في عَمَلِ «فَعِلَ» ، فقال سيبويه: إنه عامل، وأنشد:
(1) انظر: ديوانه 154، ديوان الهذليين 1/ 8، انظر: تفسير الطبري (هجر) 12/ 472.
(2)
انظر: الكشاف 2/ 410.
(3)
هود 70.
(4)
انظر: ديوان الهذليين 2/ 144.
(5)
انظر: ديوان الهذليين 2/ 89.
حَذِرًا أُمُورًا لا تَضِيْرُ وآمنٌ
…
ما ليسَ مُنجيهِ من الأَقْدارِ
وادَّعى اللاحقيُّ (1) تدليسَ هذا البيت على سيبويه» (2). وهو يشير إلى ما ذكره بعضُ النحويين من أَنَّ أبانَ اللاحقيَّ هو الذي صنع هذا البيت لسيبويه لغرض الاستشهاد به، دون أن يفطن سيبويه لذلك، وقد شاع هذا لدى كثير من المفسرين وأهل العربية. وعلة طعن العلماء في هذا الشاهد أنَّ كثيرًا منهم لا يرون أن صيغة «فَعِلَ» تعمل فيما بعدها، فحاولوا الطعن في الشاهد الشعري الذي ذكره سيبويه، في حين أن سيبويه أورد شاهدًا آخر على إعمال فعل، وهو:
أَو مِسْحَلٌ شَنِجٌ عِضَادَةَ سَمْحَجٍ
…
بِسَراتِهَا نَدَبٌ لَهُ وكُلُومُ (3)
فقد أعملَ «شَنِجٌ» في «عِضَادةَ» . وأقدم من ردَّ هذا الشاهد هو المُبَرِّدُ، فقد قال عنه:«وهذا بيت موضوعٌ مُحْدَثٌ» (4). غير أَنَّ السيرافيَّ دافع عن هذا الشاهد فقال: «وقد زعمَ قومٌ أَنَّ أبا يَحيى اللاحقيَّ حكى أَنَّ سيبويه سأله عن شاهدٍ في إعمال فَعِلَ، فعملَ له البيت. وإذا حكى أبو يحيى مثلَ هذا عن نفسه، ورضي بأَنْ يُخبِرَ أنه قليلُ الأمانة، وأَنَّه اؤتِمِنَ على الرواية الصحيحة فخانَ، لم يكن مثلهُ يُقبلُ قوله، ويُعترَضُ به على ما قد أثبته سيبويه. وهذا الرجلُ أحبَّ أنْ يتجمَّلَ بأَنَّ سيبويه سأله عن شيءٍ، فخبَّرَ عن نفسه بأَنَّه فعلَ ما يُبطل الجَمَالَ، ويُثبتُ عليهِ عارَ الأَبَدِ. ومن كانت هذه صورته بَعُدَ في النفوس أن يسأله سيبويه عن
(1) هو أبو يحيى أبان بن عبدالحميد بن لاحق بن عفير الرقاشي، شاعر بصري مطبوع، توفي سنة 193 هـ. انظر: الفهرست 150، خزانة الأدب 8/ 173.
(2)
المحرر الوجيز 12/ 62.
(3)
البيت للبيد بن ربيعة كما في ديوانه 125، وليس لابن أحمر كما في الكتاب 1/ 112 ومعناه: يصف فحلًا من الحُمُر بأنه ملازم لأُتُنِهِ، ولشدته وصلابته قد لازمها، وقبض الناحية التي بينها وبينه، ولم يحجزه عن ذلك رَمْحُها وعَضُّها. وشَنِجٌ مبالغة شَانِج، أي ملازم. انظر: شرح الطوسي للديوان 125.
(4)
المقتضب 2/ 117.