الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَصَبَرْتُ نَفْسًا عندَ ذلكَ حُرَّةً
…
تَرْسُو إذا نفسُ الجَبانِ تَطَلَّعُ (1)». (2)
فاستشهد بالشعر لتوجيه معنى القراءة.
3 -
وربما اعتمد المفسر على الشعر في ترجيحه قراءةً على أُخرى، وأكثرَ من ذلك الطبري في تفسيره، وتعقبه العلماءُ في رده بعضَ القراءات التي استقر الرأيُ بعدهُ على تواترها وصحتها واتصال أسانيدها، وقد كتبت في ذلك دراسات. (3)
ومن ذلك أن الطبري بعد أن ذكر القراءات في قوله تعالى: {وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} [الأعراف: 165] كما تقدم شيء من ذلك في مثال سابق قال أبو جعفر: «وأولى هذه القراءات عندي بالصواب، قراءة من قرأه: {بَئِيسٍ} بفتح الباء، وكسر الهمزة ومدها، على مثال «فَعِيل» ، كما قال ذو الإصبع العدواني:
حَنَقًا عَلَيَّ، وما تَرى
…
لي فيهمُ أَثَرًا بَئيِسا (4)
لأَنَّ هذا التأويلَ أَجْمعوا على أَنَّ معناه: شديدٌ، فدلَّ ذلك على صحة ما اخترنا». (5) فقد اختار هذه القراءة دون غيرها مع كون القراءات الأخرى التي تركها صحيحة متواترة.
الاستشهاد لما يصح لغة لا قراءةً
.
يوجد في القرآن الكريم بعض الألفاظ التي لها عدة أوجه صحيحة تكلمت بها العرب، غير أن القرآن الكريم اقتصر على إحداهما، ومن ثم لا يجوز القراءة إلا بما ورد.
ومن أمثلة هذه الصورة من صور الاستشهاد اللغوي ما يلي:
(1) انظر: ديوانه 49.
(2)
المحرر الوجيز 9/ 153.
(3)
انظر: دفاع عن القراءات المتواترة في مواجهة الطبري المفسر للدكتور لبيب السعيد.
(4)
مجاز القرآن 1/ 231، الأغاني 3/ 102، 103.
(5)
تفسير الطبري (شاكر) 13/ 201 - 202.
1 -
قال الطبري عند تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} [البقرة: 70](1) وهو يذكر القراءات في الآية: «وقرأ بعضهم: (إنَّ الباقر)(2)، وذلك - وإن كان في الكلام جائزًا، لِمَجيئهِ في كلام العربِ وأَشعارِها، كما قال ميمون بن قيس:
وما ذَنْبُهُ أَنْ عافَتِ الماءَ باقِرٌ
…
وما إِنْ تَعافُ الماءَ إِلَّا لِيُضرَبا (3)
وكما قال أمية:
ويسُوقُونَ باقِرَ السَّهْلِ لِلطَّـ
…
ـودِ مَهازِيلَ خَشيةً أَنْ تبورا (4)
- فغيرُ جائزةٍ القراءةُ به، لِمُخالفتهِ القراءةَ الجائيةَ مَجيءَ الحُجَّةِ، بنقلِ مَنْ لا يَجوزُ عليه - فيما نقلوه مُجمعينَ عليه - الخطأُ والسَّهوُ والكذبُ». (5)
فقد بَيَّنَ الطبري أن العرب قد تسمي البقرةَ «باقرًا» ، بدليل ورود ذلك في شعر مَنْ يُحتج بقوله منهم. قال الليث:«الباقرُ: جَماعةُ البَقَرِ مع راعيِها» . (6)
غير أن هذا وإن صح لغةً إلا أنه لا يصح القراءة به، لعدم وروده بنقل صحيحٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه قاعدة مُطَّردةٌ في القراءة، فهي سنة متبعةٌ، ولا مدخلَ للقياسِ فيها. (7)
2 -
قال الطبري وهو يبين القراءات في اسم «اليَسَع» في قوله تعالى: {وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا} [الأنعام: 86](8): «قرأته عامةُ قَرَأَةِ
(1) البقرة 70.
(2)
هذه قراءة شاذة قرأ بها عكرمة ويحيى بن يعمر وابن أبي ليلى وابن أبي عبلة. انظر: معاني القرآن للأخفش 1/ 105، مختصر في شواذ القرآن لابن خالويه 14، الدر المصون 1/ 285.
(3)
انظر: ديوانه 90.
(4)
انظر: ديوانه 35.
(5)
تفسير الطبري (شاكر) 2/ 209 - 210.
(6)
تهذيب اللغة 9/ 137، الصحاح 2/ 594.
(7)
انظر: فتاوى ابن تيمية 13/ 389 - 403، منجد المقرئين لابن الجزري 110.
(8)
الأنعام 86.
الحجازِ والعراقِ: {وَالْيَسَعَ} بلامٍ واحدةٍ مُخففةٍ. (1) وقد زعم قومٌ أنه «يَفعلُ» من قولِ القائلِ: وَسِعَ، يَسَعُ.
ولا تكاد العربُ تُدخِلُ الألفَ واللامَ على اسمٍ يكونُ على هذه الصورةِ - أعني على «يَفْعلُ» - لا يقولونَ: رأيتُ اليزيدَ، ولا أَتاني اليَحْيَى، ولا مَررتُ باليَشْكُر، إِلا في ضَرورة الشِّعرِ، وذلك أيضًا إذا تُحُرِّىَ به المدحُ (2)، كما قال بعضهم (3):
وجَدْنا الوليدَ بنَ اليَزِيد مُبارَكًا
…
شَدِيدًا بأَحْناءِ الخِلافةِ كاهِلُهْ (4)
فأدخل في اليزيد الألف واللام، وذلك لإدخاله إياهما في الوليد، فأتبعه اليزيد بِمثلِ لفظه». (5) وعلى رأي الطبري تكون دخلت الألف واللام في «اليزيد» للمدح. ثم ذكر القراءة الثانية للاسم وهي «اللَّيسَع» بلامين وبالتشديد. (6) ثم رجح القراءة الأولى لإجماع القُراء عليها.
والطبري قد أورد الشاهد الشعري للاستشهاد به على أن زيادة الألف واللام في «اليزيد» تكونُ في الشعرِ خاصةً دون النثر، ويُرادُ بها المدحُ، وأن الألف واللام في «اليَسَع» جُزءٌ من اسمٍ أعجميٍّ، فليست داخلةً على فعلِ «يَسَع» كما ذكر بعضهم، فاسم «اليَسَع» عند الطبري أعجميٌّ يُنطقُ على ما هو، ولا يُعلمُ دخولُ الألف واللام إِلَّا فيما جاء من أسماءِ العرب على «يَفْعَل» ، وأمَّا الاسم الأعجمي فإِنَّما يُنطقُ به على ما سَمُّوا به، فإن غُيِّر منه شيءٌ إذا تكلمت العرب به، فإِنَّما يُغَيَّرُ بتقويم
(1) هذه قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر وعاصم. انظر: السبعة 262، التيسير 104، النشر 2/ 260.
(2)
انظر: معاني القرآن للفراء 1/ 342.
(3)
هو ابن ميادة.
(4)
انظر: ديوانه 192، وتخريجه في 195، خزانة الأدب 2/ 226.
(5)
تفسير الطبري (شاكر) 11/ 510.
(6)
هي قراءة حمزة والكسائي وخلف والأعمش وغيرهم. انظر: السبعة 262، التيسير 104، النشر 2/ 260.
حرفٍ منهُ مِنْ غَيْرِ حذفٍ ولا زيادةٍ ولا نُقصانٍ. (1)
وللعلماء في قراءة الجمهور «اليَسَع» تأويلان:
الأول: أَنَّهُ منقولٌ من فعلٍ مضارعٍ، والأصلُ: يَوْسَع كيَوْعِد، فوقعت الواو بين ياءٍ وكسرةٍ تقديرية؛ لأنَّ الفتحة إنَّما جيءَ بِها لأجل حرف الحلق فحذفت لحذفها في يَضَعُ، ويَدَعُ، ويَهَبُ وبابه، ثم سُمِّي به مُجرَّدًا عن ضميرٍ، وزيدت فيه الألف واللام، ويكون ذلك كزيادتها في «اليزيد» كما في بيت الشعر، أو تكون الألف واللام للتعريف بعد تنكير الاسم قبل دخولها.
الثاني: أنَّ «اليَسَع» اسمٌ أعجميٌّ لا اشتقاق له، وهو نبيٌّ بُعِثَ بعد إِلياس عليهما السلام، وكان تلميذًا له. (2) وقيل: هو يوشع بن نون فتى موسى. واختاره القرطبي فقال: «والحق في هذا أنه اسم أعجمي، والعجمة لا تؤخذ بالقياس، إنما تؤخذ سماعًا، والعرب تغيرها كثيرًا، فلا ينكر أن يأتي الاسم بلغتين» (3).
والطبري يرى أن «اليسع» كُلَّهُ اسمٌ أعجميٌّ، وغيره يرى أنَّ الألفَ واللام زائدتان أو معرفتان دخلتا على «يَسَع» الذي هو الاسمُ الأعجميُّ. (4) وما ذهب إليه الطبري أولى لأَنَّ الألفَ واللام من أصل الكلمة، إذ أصلها بالعِبْريَّةِ «أِلِيشَاع» . . . . . بمعنى «الله هو الخلاص» ، فعُرِّبت بصورة «اليَسَع» ، وعوملت لامُها مُعاملةَ لام التعريف، وهذا يوافق سُنَنَ التعريب، فقد عوملت «ال» في بعض الكلمات المُعرَّبة المبدوءة
(1) انظر: تفسير الطبري (شاكر) 11/ 511 - 512.
(2)
انظر: الإعلام بأصول الأعلام للدكتور ف. عبد الرحيم 46.
(3)
الجامع لأحكام القرآن 7/ 33، المعرب للجواليقي بتحقيق أحمد شاكر 347، 403.
(4)
انظر: الكشف عن وجوه القراءات 1/ 438، حجة القراءات 259، الجامع لأحكام القرآن 7/ 32، الدر المصون 5/ 28 - 29، تفسير غريب القرآن لزين الدين الرازي 313.
بهما هذه المعاملة. (1)
والذين قالوا بزيادة الألف واللام، منهم من يرى أن زيادتها لازمة شذوذًا كلزومها في «الآن». وقال ابن مالك:«ما قارنت الأداة نقله كالنضر والنعمان، أو ارتجاله اليسع والسموءل فإن الأغلب ثبوت «أل» فيه، وقد تحذف». (2)
3 -
ذكر الطبري عند تفسير قوله تعالى: {بِحُورٍ عِينٍ} [الدخان: 54](3) قول قتادة: وفي حرف ابن مسعودٍ (بِعِيسٍ عِيْن)، وقراءة ابن مسعودٍ هذه تنبئُ عن أَنَّ معنى الحُورِ غَيْرُ الذي ذهب إليه مجاهد - وهو أنهنَّ سُمُّوا بذلك لأَنَّ الطَّرْفَ يَحارُ فيهنَّ (4) - لأنَّ العيسَ عند العرب جَمعُ عَيْسَاء، وهي البيضاء من الإبل، كما قال الأعشى:
ومَهْمهٍ نازحٍ تعوي الذئابُ بهِ
…
كَلَّفْتُ أَعيسَ تَحتَ الرَّحْلِ نَعَّابا (5)
يعني بالأَعيسِ: جَمَلًا أبيض» (6).
وما ذكره الطبري موافق لما ذكره اللغويون من معنى الأعيس، قال الليث:«العَيَسُ والعِيسَةُ لونٌ أبيضُ مشربٌ صفاءً في ظُلمةٍ خفيَّةٍ، يقال: جَمَلٌ أعيسُ» . (7) وقال أبو عبيدة: «رَجلٌ أَعْيَسُ الشَّعَرِ: أبيضهُ» (8).
فيكون تسميةُ الحُورِ العِيْنِ بذلك من البياضِ لا من حَيْرَةِ الطَّرْفِ فيهنَّ كما قال مجاهد، استئناسًا بقراءة ابن مسعود التي يدل معناها على
(1) انظر: الإعلام بأصول الأعلام للدكتور ف. عبد الرحيم 47 - 48، والمعرب للجواليقي بتحقيق الدكتور ف. عبد الرحيم 76 - 77.
(2)
شرح الكافية الشافية 1/ 329.
(3)
الدخان 54.
(4)
قال مجاهد في معنى الحُورِ: «الحُورُ اللاتي يَحَارُ فيهنَّ الطَّرْفُ، بادٍ مُخُّ سُوقِهِنَّ من وراء ثيابِهنَّ، ويَرى الناظرُ وجهَهُ في كَبِدِ إحداهنَّ كالمرآةِ من رِقَّةِ الجِلْدِ وصفاءِ اللون» . انظر: تفسير الطبري (هجر) 21/ 65.
(5)
انظر: ديوانه 361.
(6)
تفسير الطبري (هجر) 21/ 66.
(7)
تهذيب اللغة 3/ 94، الصحاح 3/ 954، لسان العرب 9/ 497 (عيس).
(8)
المصدر السابق 3/ 94.