الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإطلاق، أعني الياء في أصنعِ» (1).
ثالثًا: الشرح الأدبي
.
وأعني به النظر إلى الشاهد الشعري نظرة أدبية نقدية، يبدي فيها المفسر رأيه في جمال البيت من حيث المعنى، أو من حيث اللفظ، على عادة نقاد الشعر. وتجد لذلك أمثلة في كتب التفسير، على أن المفسرين لم ينظروا إلى الشاهد الشعري نظرة فنية في كتب التفسير، ولم يكن ذلك من أغراضهم، وإنما نظروا للشاهد الشعري على أنه حجة يحتج بها في اللغة ونحوها، ووسيلة ضرورية لغاية أسمى وهي فهم معاني القرآن وتفسيرها. بل إن أكثر علماء اللغة كانت اهتمامهم بالشعر للمحافظة على ثبات اللغة، والاستعانة به في فهم القرآن، والاحجاج له. فكانت الغاية دينية في حركة جمع الشعر وشرحه (2).
ومن ذلك قول ابن عطية: «قول الشاعرِ (3):
ليسَ مَنْ ماتَ فاستراحَ بِمَيْتٍ
…
إِنَّما المَيْتُ مَيّتُ الأَحياءِ (4)
استراحَ من الراحةِ، وقيل: من الرائحةِ
…
وأمَّا قولُ الشاعرِ (5):
إذا مَا مَاتَ مَيْتٌ مِنْ تَميمٍ
…
فَسَرَّكَ أن يعيشَ فَجِئْ بِزَادِ (6)
فالأبلغُ في الهجاءِ أَنْ يريدَ الميتَ حقيقةً، وقد ذهب بعضُ الناس إلى أَنَّه أرادَ مَنْ شارفَ الموتَ، والأولُ أَشعرُ». (7) وأضاف في موضع آخر شرحًا لهذا الشاهد فقال:«وقد تأول قومٌ «استراحَ» في هذا البيت
(1) المحرر الوجيز 5/ 124.
(2)
انظر: جهود الطبري في دراسة الشواهد الشعرية للمالكي 18 - 19.
(3)
هو عدي بن الرعلاء الغساني.
(4)
الأصمعيات 152.
(5)
هو يزيد بن الصعق الكلابي كما في معجم الشعراء للمرزباني 480، وقيل لأبي مهوش الفقعسي كما في حواشي الكامل 1/ 224.
(6)
البيان والتبيين 1/ 190، الكامل 1/ 224.
(7)
المحرر الوجيز 2/ 48.
بِمعنى: اكتسبَ رائحةً؛ إذ قائلُهُ جاهليٌّ، لا يرى في الموت راحةً» (1).
وفي هذا توظيف لمعرفته بعصر قائل الشعر ودينه في فهم الشاهد الشعري وترجيح بعض معانيه على بعض، كما إن فيه دلالة على حسن تذوقه للأدب، وبراعته في ترجيح العبارات بحسب معانيها، وهذا جزء من عمل الناقد الأدبي.
ومن الأمثلة قول ابن عطية عند تفسير قوله تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119)} [طه: 118، 119](2): «وجعل الله تعالى الجوعَ في هذه الآية مع العُري، والظمأَ مع الضحاءِ، وكان عُرْفُ الكلامِ أن يكون الجوعُ مع الظمأِ المتناسب، والعريُ مع الضحاءِ؛ لأنها تتضادُ إذ العُريُ يَمسُّ بسببه البردُ، والحَرُّ يفعل ذلك بالضاحي، وهذه الطريقة مهيعٌ في كلام العرب، أَن تُفرقَ النِّسَبَ، ومنه قول امرئ القيس:
كأَنِّيَ لَمْ أَرْكَبْ جَوَادًا لِلذَّةٍ
…
ولَمْ أَتَبَطَّنْ كَاعِبًا ذاتَ خَلْخَالِ
ولم أَسْبَأِ الزِّقَّ الرَّويَّ ولم أَقُلْ
…
لِخَيليَ كُرِّيْ كَرَّةً بعدَ إِجْفَالِ (3)
وقد ذهب بعض الأدباء إلى أن بيتي امرئ القيس حافظةٌ لنسبٍ، وأنَّ ركوبَ الخيل للصيدِ وغَيره من الملاذِ يُناسبُ تبطنَ الكاعب» (4). وقد ذكر المرزباني هذا التوجيه لأبيات امرئ القيس (5).
ومن الأمثلة كذلك لإشارات المفسرين للجوانب الأدبية في شرح الشاهد الشعري أن ابن عطية ذكر قول حسان بن ثابت رضي الله عنه:
لنَا الجَفَنَاتُ الغُرُّ يلْمَعنَ بالضُّحى
…
وأَسيَافُنَا يَقْطُرنَ مِنْ نَجْدةٍ دَما (6)
واستدل به على أن الجفنات هنا أتت للتكثير لا للتقليل فقال: «فلم
(1) المحرر الوجيز 5/ 20.
(2)
طه 119.
(3)
انظر: ديوانه 35.
(4)
المحرر الوجيز 11/ 111.
(5)
انظر: الموشح 38.
(6)
انظر: ديوانه 371.
يرد إلا كثرة الجفان» ثم علق تعليقًا أدبيًا على البيت فقال: «وتأمل نقد الأعشى في هذا البيت» (1). وهو يقصد نقد النابغة الذبياني لا الأعشى، فقد رُويَ عن أبي عمرو بن العلاءِ قال: «كان النابغةُ الذبيانيّ تُضربُ له قُبَّةٌ من أَدَمٍ بسوق عكاظ فتأتيه الشعراء تعرض عليه أشعارها، فأتاه الأعشى فأنشدهُ أَوَّل من أنشدَ، ثُمَّ أنشدهُ حسّانُ:
لنا الجَفَناتُ الغُرًّ يلمعن بالضُّحى
…
وأسيافُنا يقطرن من نجدة دَما
ولدنا بَنِى العنقاءِ وابنَىْ محرِّقٍ
…
فأكرِمْ بنا خَالًا وأكرمْ بِنَا ابنَمَا
قال النابغةُ: أنت شاعرٌ، ولكنَّك أَقلَلْتَ جِفَانَكَ وسُيوفَك، وفَخَرتَ بِمَن ولدتَ ولم تفخرْ بِمَن وَلَدك» (2). وهذه القصة يذكرها كثير من المفسرين والنقاد على أنها من أوائل النظرات النقدية للشعر عند العرب، وقد رَدَّ هذه النقدات التي ذكرها النابغة عدد من العلماء، منهم ابنُ الأثير فقد ذكر كلامًا طويلًا في تصويب قول حسان (3)، وأشار ابن أبي الإصبع (4) إلى أَنَّ «النابغةَ إِنَّما عاب على حسانَ تركَ المبالغة، والقصةُ مشهورة، والصوابُ مع حسان، وإِنْ رُويَ عنهُ انقطاعهُ في يد النابغةِ» . (5) وأطال البغدادي في شرح هذا البيت، وجمع أقوال النقاد فيه بما لا مزيد عليه، وخلاصته تصويب قول حسان ورد كلام النابغة في نقده للبيت، لأن العبرة بالجمع دون كونه كثرة أو قلة، ولأنه قد ورد وزن جموع القلة في القرآن والشعر مرادًا به الكثرة، فسقط الاعتراض (6).
(1) المحرر الوجيز 13/ 143.
(2)
المصون في الأدب للعسكري 3.
(3)
انظر: المثل السائر 2/ 308 - 309.
(4)
هو زكي الدين عبدالعظيم بن عبدالواحد بن ظافر المصري، (585 - 654 هـ)، اشتغل بالبلاغة والكتابة وبرز فيها. من كتبه تحرير التحبير، وبديع القرآن. انظر: مقدمة تحرير التحبير للمحقق 50.
(5)
تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر وبيان إعجاز القرآن 148.
(6)
انظر: خزانة الأدب 8/ 106 - 116.