الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثانيًا: منهج الشرح
.
عُنيَت كتبُ غريب القرآن في المقام الأول بالمفردة القرآنية دون التركيب، وإن كانت قد تتعرض للتركيب إذا كان له تأثير في معنى المفردة. وقد أكثر أبو عبيدة في كتابه «مجاز القرآن» من بيان معاني التركيب لتعلقه ببيان المفردة القرآنية الغريبة.
في حين عُنيت كتب معاني القرآن بالتركيب في المقام الأول ويدخل فيه الإعراب، غير أنه لمعرفة معاني التركيب لا بد من التقديم ببيان معاني اللفظة الداخلة في التركيب ولا سيما إذا كانت لفظة غريبةً، فكان تعرض كتب معاني القرآن لبيان المفردات وسيلةً لبيان التركيب النحوي للآيات القرآنية. ولا سيما أن الذين صنفوا كتب المعاني جلهم من أهل النحو، الذين اتخذوا من النص القرآني وسيلةً لبيان مذاهبهم النحوية كما صنع الأخفش في «معاني القرآن» ، والفراء في «معاني القرآن» ، وغيرهم.
-
أمثلة من عناية أصحاب كتب غريب القرآن ببيان التركيب:
1 -
ومن أمثلة عناية كتب غريب القرآن ببيان التركيب ما جاء عند تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة: 116](1) حيث قال أبو عبيدة: «{أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ} هذا بابُ تفهيمٍ، وليس باستفهامٍ عن جَهلٍ لِيَعْلَمَهُ، وهو يَخرُجُ مَخرَجَ الاستفهام، وإِنَّما يُرادُ به النهي عن ذلك، ويتهدد به، وقد عَلِمَ قائلُهُ أكان ذلك أَمْ لم يكن. ويقول الرجلُ لعبده: أفعلت كذا؟ وهو يعلم أَنَّه لم يفعلهُ، ولكنْ يُحذِّرُه، وقال جرير:
أَلستُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ المطايا
…
وأَنْدى العالَمِين بُطُونَ راحِ (2)
(1) المائدة 116.
(2)
انظر: ديوانه 97.
ولم يستفهم، ولو كان استفهامًا ما أعطاه عبد الملك مائة من الإبل برعاتها». (1)
فقد وقف أبو عبيدة عند أسلوب الاستفهام في الآية وخروجه عن معنى الاستفهام إلى معنى النهي، واستشهد عليه بالشعر.
2 -
وقال أبو عبيدة في موضعٍ آخرَ وهو يُبَيّن الالتفاتَ في سورة الفاتحة: «ومَجازُ مَنْ جَرَّ {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} [الفاتحة: 4](2) أَنَّهُ حَدَّث عن مُخاطبةِ غائبٍ، ثُمَّ رَجَعَ فخ اطبَ شاهدًا فقال:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا} [الفاتحة: 5، 6]. قال عنترةُ بنُ شدادٍ العبسيِّ:
شَطَّتْ مَزارُ العاشقينَ فَأَصْبَحَتْ
…
عَسِرًا عليَّ طِلابُكِ ابنةَ مَخْرَمِ (3)
وقال أبو كبيرٍ الهذليُّ:
يا لَهْفَ نفسيَ كانَ جِدَّةُ خالدٍ
…
وبَياضُ وَجهكَ للترابِ الأَعْفَرِ (4)». (5)
وهذا بيان لأسلوب الالتفات في الآيات الكريمة، وله أمثلة أخرى في القرآن الكريم (6)، وهو أسلوب عربي له أمثلة كثيرة في الشعر العرببي، اكتفى أبو عبيدة بشاهدين منها. والالتفات عند البلاغيين هو «انصرافُ المتكلِّمِ عن المخاطبة إلى الإخبار، وعن الإخبار إلى المخاطبة وما يشبه ذلك» . (7) وله تعريفات أخرى غير أنَّ أَيَّ انتقالٍ من أسلوبٍ من أساليبِ الخطابِ إلى آخر يعد نوعًا من الالتفات، مأخوذ من التفات الرجل من جهةٍ إلى جهةٍ.
3 -
ومن الأمثلة أيضًا قول ابن قتيبة في تفسير قوله تعالى: {وَمَا
(1) مجاز القرآن 1/ 183.
(2)
الفاتحة 4.
(3)
انظر: ديوانه 27.
(4)
انظر: ديوان الهذليين 2/ 101.
(5)
مجاز القرآن 1/ 23.
(6)
كما في الآية من سورة يونس.
(7)
البديع لابن المعتز 58، العمدة في صناعة الشعر ونقده 2/ 46، معجم المصطلحات البلاغية لمطلوب 174.
نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 74]} (1): «أي: ليس يَنْقِمون شيئًا، ولا يعرفون من الله إلا الصُنْعَ الجميلَ، وهذا كقول الشاعر (2):
ما نَقِمَ الناسُ مِنْ أُميَّةَ
…
إِلَّا أَنَّهمْ يَحْلُمُونَ إِنْ غَضِبوا
وأَنَّهمْ سادةُ المُلوكِ فلا
…
تصلحُ إِلَّا عليهمُ العَرَبُ (3)
وهذا ليس مِمّا يُنْقَمُ، وإِنَّما أراد أَنَّ الناس لا يَنقمون عليهم شيئًا. وكقول النابغة:
ولا عَيْبَ فيهمْ غَيْرَ أَنَّ سُيوفَهُم
…
بِهِنَّ فُلولٌ مِنْ قِراعِ الكتائبِ (4)
أي: ليس فيهم عيبٌ». (5) وابن قتيبة يشير إلى أسلوبٍ بلاغي عرف فيما بعد بأسلوب «المدح بما يشبه الذم» ، وله أمثلة كثيرة في الشعر العربي. (6)
ويوجد في كتب غريب القرآن أيضًا حديث عن المسائل النحوية في مواضع منها، غير أنها ليست كثيرة كما هو الحال في كتب معاني القرآن. ومِنْ أمثلة المسائل النحوية التي تعرضت لها كتب غريب القرآن قول أبي عبيدة: «{وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} [البقرة: 17](7) ثم انقطع النصبُ، وجاء الاستئنافُ {صُمٌّ بُكْمٌ} [البقرة: 18] (8) قال النابغةُ:
تَوَهَّمْتُ آياتٍ لَها فَعَرَفْتُها
…
لِستَّةِ أعوامٍ وذا العامُ سَابِعُ (9)
ثم استأنفَ فَرَفَعَ فقال:
رمادٌ ككُحْلِ العينِ لأيًا أُبِينُهُ
…
ونُؤْيٌ كَجِذْمِ الحوضِ أَثْلَمُ خاشِعُ». (10)
وأبو عبيدة قد حَمَلَ الرفعَ في قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ} على الاستئناف، وتُعْرَبُ خَبَرًا لمبتدأٍ محذوفٍ، تقديره: هم صُمٌّ بُكْمٌ عميٌ.
(1) التوبة 74.
(2)
هو عبد الله بن قيس الرُّقيَّات.
(3)
انظر: ديوانه 4.
(4)
انظر: ديوانه 54.
(5)
غريب القرآن 190.
(6)
انظر: نضرة الإغريض للعلوي 128، معجم المصطلحات البلاغية 611.
(7)
البقرة 17.
(8)
البقرة 18.
(9)
انظر: ديوانه 30.
(10)
مجاز القرآن 1/ 32 - 33.