الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: منهج التابعين وأتباعهم في الاستشهاد بالشعر في التفسير
تَمْتَدُّ الحقبة التي يدرسها هذا المبحث منذ وفاة آخر الصحابة رضي الله عنهم، وهو عند الأكثر أنس بن مالك رضي الله عنه المتوفى سنة 93 هـ (1) حتى نهاية القرن الثاني الهجري تقريبًا، وعصر الصحابة متداخلٌ مع عصر التابعين، وكذلك عصر التابعين متداخل مع عصر أتباع التابعين وهكذا، لصعوبة الفصل بين هذه الطبقات، ولأخذ اللاحق عن السابق، مِمَّا يجعل الدراسة بناء على هذا دراسة تقريبية.
وقد تقدم أن الصحابة رضي الله عنهم قد سبقوا إلى الاستشهاد بالشعر في تفسير القرآن الكريم، وإيضاح معانيه، غير أن المروي عنهم في ذلك قليل، ولولا ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في ذلك لما أمكن دراسة منهج الصحابة في الاستشهاد بالشعر في تفسير القرآن الكريم، لقلة ما روي عنهم في التفسير عمومًا، ومن الاستشهاد بالشعر في التفسير بصفة خاصة. فالحديث عن منهج الصحابة في الاستشهاد بالشعر إنما هو حديث عن منهج ابن عباس خاصة، وقد تقدم قول ابن الأنباري:«جاء عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وتابعيهم من الاحتجاج على غريب القرآن ومشكله باللغة والشعر ما بَيَّنَ صحةَ مذهب النحويين في ذلك» . (3) وقال بعد أن أورد شواهد الشعر في التفسير عن ابن عباس
(2) انظر: سير أعلام النبلاء 3/ 396.
(3)
إيضاح الوقف والابتداء 1/ 61.
وغيره: «وهذا كثير في الحديث عن الصحابة والتابعين» . (1) غير أنه لم يصل من الروايات عن غير ابن عباس ما يُمَكِّنُ من دراستها والحكم عليها.
يقول حاجي خليفة: «ولما انتشر الإسلام، واتسعت الأمصار، وتفرقت الصحابة في الأقطار، وحدثت الفتن واختلاف الآراء، وكثرت الفتاوى والرجوع إلى الكبراء، أخذوا في تدوين الحديث والفقه وعلوم القرآن، وكان مطمح نظرهم في التدوين ضبط معاقل القرآن والحديث ومعانيها، ثم دونوا فيما هو كالوسيلة إليهما، واشتغلوا بالنظر والاستدلال والاجتهاد والاستنباط .... وكان ذلك مصلحة عظيمة، وفكرة في الصواب مستقيمة» . (2) وكانَ لِحَبْرِ الأُمِّة عبدِ الله بنِ عبَّاسٍ القِدْحُ المُعَلَّى في توظيف الشاهد الشعري في تفسير القرآن الكريم (3)، لسعة علمه، وكثرة حفظه لشعر العرب، وبركة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم له بالفقه في كتاب الله في قوله:«اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل» (4). وفي رواية أخرى: «اللهم علمه الكتاب» (5). وقد كان لهذه الدعوات أثر مبارك في علم ابن عباس، وتفسيره للقرآن، فقد فَاقَ ما رُوي عنه في التفسير ما رُوي عن سائرالصحابة في التفسير (6).
(1) المصدر السابق 1/ 99.
(2)
كشف الظنون 1/ 33 - 34.
(3)
انظر: مذاهب التفسير الإسلامي لزيهر 90.
(4)
أخرجه الإمام أحمد في المسند 1/ 266، 314، 328، 335، وفي فضائل الصحابة 2/ 955، وابن حبان في صحيحه كما في الإحسان لابن بلبان 15/ 531، والبيهقي في دلائل النبوة 6/ 193، والطبراني في الكبير 10/ 320.
(5)
أخرجها البخاري في صحيحه في عدة مواضع 4/ 1432، 1442، وانظر: فتح الباري 1/ 169.
(6)
بلغت المرويات في التفسير عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير الطبري (5809) روايات، يليه في العدد المروي عن ابن مسعود (856) روايات، ثم المروي عن غيرهما دونهما في ذلك.
• أهم مدارس التفسير في عصر التابعين:
تفرق الصحابة رضي الله عنهم في الأمصار، وصار لكل منهم تلاميذ يأخذون عنه علم القرآن والتفسير والفقه، وبدأ هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم، يشكلون ما يمكن تسميته بالمراكز أو المدارس العلمية، وقد بدأت هذه المراكز بالظهور في النصف الثاني من القرن الأول الهجري وأهمها:
أولًا: مدرسة المدينة المنورة، ومؤسس هذه المدرسة هو الصحابي الجليل أُبَيُّ بن كعبٍ الأنصاري، وكان لكبار الصحابة أثر فيها كعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهم، وممن أخذ عن هذه الطبقة من التابعين أبو العالية الرياحي (ت 93 هـ)، وسعيد بن المسيب (ت 94 هـ)، وعطاء بن يسار (ت 94 هـ)، ومحمد بن كعب القرظي (ت 120 هـ)، والزُّهريُّ (ت 124 هـ)، وغيرهم، وزيد بن أسلم (ت 136 هـ)(1).
ثانيًا: مدرسة مكة المكرمة، ومؤسس هذه المدرسة هو شيخ المفسرين وحَبْرُ الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما (ت 68 هـ)، وتلاميذه الذين لازموه وأخذوا عنه كثيرون منهم أبو الشعثاء جابر بن زيد (ت 93 هـ)، وسعيد بن جبير (ت 95 هـ)، ومجاهد بن جبر (ت 104 هـ)، وعكرمة مولى ابن عباس (ت 105 هـ)، ، وطاووس بن كيسان (ت 106 هـ)، وعطاء بن أبي رباح (ت 114 هـ) وغيرهم. وتُعدُّ هذه المدرسة أوثق مدارس التفسير، وأكثرها استشهادًا بالشعر في التفسير، لمكانة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في علم التفسير، يقول ابن تيمية:«وأما التفسير فإن أعلم الناس به أهلُ مكة؛ لأنهم أصحاب ابن عباس» (2).
ثالثًا: مدرسة الكوفة، ومؤسسها هو الصحابي الجليل عبد الله بن
(1) انظر: الإتقان 2/ 192، التفسير والمفسرون 1/ 113.
(2)
مقدمة التفسير 61، وانظر: مفتاح السعادة 2/ 54، التفسير والمفسرون 1/ 118 - 127.
مسعود الهذلي رضي الله عنه (ت 32 هـ)، وأصحابه الذين أخذوا عنه ولازموه علقمة بن قيس (ت 61 هـ)، ومسروق بن عبدالرحمن (ت 63 هـ)، والأسود بن يزيد النخعي (ت 64 هـ)، والشعبي (105 هـ)، وغيرهم.
رابعًا: مدرسة البصرة، وقد حظيت بصحابيين جليلين هما أبو موسى الأشعري، وأنس بن مالك رضي الله عنهما، وقد أخذ عن هذين الصحابيين من التابعين الحسن البصري، وأيوب السختياني وغيرهما (1).
وقد كان لعلم التفسير في هذا العصر حظ وافر من الانتشار والذيوع؛ لأهميته وحاجة الناس إليه، فلا يكاد يخلو مسجد أو حلقة درس من تفسير القرآن الكريم، ومن أوائل من وصلت تفاسيرهم للقرآن الكريم من عصر التابعين تفسير مجاهد بن جبر (ت 104 هـ)، وتفسير عطاء الخراساني (ت 133 هـ)، وتفسير سفيان الثوري (ت 161 هـ) وتفسير عبدالرزاق الصنعاني (ت 211 هـ)، وغيرها.
• تفسير التابعين:
وتُعَدُّ جهود التابعين في التفسير امتدادًا لجهود الصحابة رضي الله عنهم، وقد كان لأصحاب ابن عباس رضي الله عنهما من التابعين حرص كبير على علمه ولا سيما ما يتعلق منه بتفسير القرآن الكريم، فقد عرض مجاهد القرآن الكريم عليه ثلاثين مرة (2)، ويقول أيضًا: عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات، من فاتحته إلى خاتمته، أقفه عند كل آية، وأسأله عنها (3)، ويدون ذلك في ألواح كان يصطحبها معه كما قال ابن أبي مليكة: رأيت مجاهدًا يسأل ابن عباس عن تفسير القرآن، ومعه ألواحه، فيقول له ابن عباس: اكتب، قال: حتى سأله عن التفسير
(1) انظر: تاريخ التراث العربي 1/ 146، تفسير التابعين للخضيري 1/ 87 - 600.
(2)
انظر: طبقات ابن سعد 5/ 466، حلية الأولياء 3/ 280، تهذيب الكمال 27/ 233.
(3)
انظر: تفسير الطبري (شاكر) 1/ 90، حلية الأولياء 3/ 279، تهذيب التهذيب 10/ 43.