الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ممن عني بشواهد الشعر، والتأكيد على العناية بها في كتبه.
وإذا كان هذا في جانب الأخبار والرواية فإن للشاهد في كتب المفسرين شأن آخر، فإن المتناول لكلام الله بالتفسير والبيان يكون في غاية الاحتياط والحذر، وقد بالغ المفسرون في الاحتياط والحذر لفهم معاني القرآن الكريم، فاستشهدوا بالقرآن وقراءاته، والحديث النبوي، والأخبار وكلام العرب شعرًا ونثرًا، غير أنَّ اعتمادهم على هذه الأساليب كان متفاوتًا من مُفسرٍ إلى آخر، كما يختلف في طبيعته، إذ يمكن التمييز فيه بين اتجاهين: اتجاهِ الاحتجاجِ والتقعيد عند المفسرين القدماء والعناية بتقوية أوجه الاستدلال، واتِّجاه توضيحيّ عند المتأخرين من المفسرين، يرى أنه قد فَرغَ القدماءُ من الاحتجاج، وأنَّهُ يُكتفى بالتوضيح لشواهدِ القُدماء (1).
والشعر مِن أهمِّ ما استشهد به أهل العربية والمفسرونَ في بيان الدلالة اللغوية والاحتجاج للأحكام النحوية، وقد احتلَّ في كتب التفسير مَنْزِلةً هامةً، زادت من حيثُ الكمُّ عن غيرها، حيث بدا الشعرُ لديهم مادة غنيةً، وموئلًا واسعًا، يُعتمدُ عليه في الاحتجاج، والتوضيح، والتدليل، والترجيح. وقد كان لهم في ذلك منازعُ مختلفةٌ تبعًا لأسلوب كُلٍّ منهم وغايته، والمرحلة التي أَلَّفَ فيها تفسيره، إذ كان بعضهم يكثر الاعتماد عليه، وبعضهم يقتصد، وآخر يستأنس به استئناسًا.
-
حاجة المفسر إلى الشاهد الشعري:
ليس هناك شواهد شعرية في كتب التفسير لكل لفظ في القرآن
(1) ما زال هذا المنهج متبعًا حتى العصر الحاضر، فقد ذكر محمد كرد علي أن معروف الرصافي كان حريصًا على حفظ شعر الشواهد حتى لقبه شيخه الألوسي بالشواهدي نسبة لشواهد الشعر. انظر: المعاصرون 440، وذكر محمد الأصمعي عن عبدالرحيم محمود مثل ذلك في كتابه عن أبي الفرج الأصبهاني 301.
الكريم لعدم الحاجة إلى ذلك، فهناك مسائل كثيرة ظاهرة لم يكن بالمفسرين حاجة للاستشهاد لها بالشاهد الشعري أو غيره، فلم يكونوا يستشهدون إلا فيما يَحتاجُ إلى شاهدٍ، من لفظٍ غريبٍ، أو تركيبٍ مُشكلٍ أو نحو ذلك. كما أن هناك ألفاظٌ لم ترد إلا في القرآن الكريم، وأخذ أهل اللغة معناها عن المفسرين، كلفظةِ «التَّفَثِ» في قوله تعالى:{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 29](1) فليس لها شاهد من الشعر مع غرابتها، قال ابن دريد:«قال أبو عبيدة (2): هو قصُّ الأظافر، وأَخذُ الشاربِ، وكُلُّ ما يَحرمُ على المُحْرِمِ إِلَّا النكاح، ولم يَجئْ فيه شِعْرٌ يُحتج به» (3)، ويقول الزجاج:«والتَّفَثُ في التفسيرِ جاءَ، وأهلُ اللغةِ لا يعرفونَهُ إِلَّا من التفسير» (4). فقول ابن دريد: ولم يَجئ فيهِ شعرٌ يُحتجُّ بهِ، مِمَّا يدل على بَحثهِ وتطلبه للشاهدِ من الشِّعرِ، ولكنَّه لم يَجد. وقال ابن العربي أيضًا:«وهذه اللفظةُ لم يَجدْ أهلُ العربيةِ فيها شِعرًا، ولا أَحاطوا بِها خُبْرًا» (5)، وعدم وجود شاهد لهذه اللفظة منقول عن أبي عبيدة، وقد وجد غيره شواهد لهذه اللفظة من شعر أمية بن أبي الصلت وغيره، وستأتي.
وأما ما لا حاجة إلى الاستشهاد عليه لظهوره وبيانه، فإنهم لا يطلبون له الشواهد، وهو لا يَخرج عن إحدى الصور الآتية:
- ألفاظ ظاهرة المعنى، لا لبس فيها ولا غموض، فلا يرى المفسر حاجةً إلى أن يأتي بشواهد من شعر العرب يوضح بها معنى هذه اللفظة. ومن ذلك قول الطبري بعد أن استشهد لمِجَيء الظنِّ بِمَعنى اليقين:«فأَمَّا الظنُّ بِمَعنى الشكِّ، فأكثرُ مِنْ أَن تُحصى شواهدُه» (6). فلم يَرَ حاجةً إلى أن يورد شواهدَ من الشعرِ على أنَّ الظنَّ يأتي بمعنى الشك، لأنه هو
(1) الحج 29.
(2)
انظر: مجاز القرآن 2/ 50، وليس فيه قوله:«ولم يجئ فيه شعر يحتج به» . فكأنه من قول ابن دريد، أو نقل من غير مجاز القرآن.
(3)
جمهرة اللغة 1/ 422.
(4)
معاني القرآن 3/ 422.
(5)
أحكام القرآن 3/ 1270.
(6)
تفسير الطبري (شاكر) 3/ 145.
الأكثر في معناه (1).
- أساليب ظاهرة من أساليب العرب، اشتهرت في كلامهم، ووردت في أشعارهم، وفي القرآن والسنة، حتى أصبحت معروفة واضحةً، والسامع لا يلتبس عليه المقصود، فلا يطلب المفسر لها شواهد من الشعر أو غيره. وقد ذكر ابن جني أسلوب حذف المضاف في اللغة، وذكر أن في القرآن منه ما يزيد على ألف موضع، ثم قال:«والأمر في هذا أظهر من أن يؤتى بمثال له، أو شاهد عليه» (2).
ومن ذلك قول الطبري عند تفسيره لقوله تعالى: {وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 246](3) وهو يتحدث عن دخول «أن» في هذه الآية، وعدم دخولها في قوله تعالى:{وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ} [الحديد: 8](4): «هما لغتان فصيحتان للعرب، تحذفُ «أَنْ» مرةً مع قولِهَا: مَالَكَ .... وهذا هو الكلام الذي لا حاجةَ بالمتكلمِ إلى الاستشهاد على صحتهِ، لفشو ذلك على أَلْسُنِ العربِ» (5). ثم ذكر الوجه الآخر. فهو لا يرى حاجةً للشاهد إذا كان هذا الأسلوب شائع الاستعمال.
ومن ذلك قول أبي جعفر النحاس وهو يوجِّه القول بأَنَّ مَجيء قولهِ تعالى: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3)} [الفاتحة: 3](6) مِن بابِ التوكيد: «وهو كثيرٌ في كلام العرب، يستغني عن الاستشهاد» (7). وهو يعني أن مثل هذا التوكيد أسلوب معروف عند العرب، مستغنٍ عن الاستشهاد له بشواهد من كلامهم شعرًا أو نثرًا.
ومن ذلك قول أبي جعفر النحاس أيضًا وهو يفسر معنى قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7](8)، وأن
(1) انظر: لسان العرب 8/ 271 (ظن).
(2)
الخصائص 1/ 192.
(3)
البقرة 246.
(4)
الحديد 8.
(5)
تفسير الطبري (شاكر) 5/ 300.
(6)
الفاتحة 3.
(7)
معاني القرآن 1/ 54.
(8)
الفاتحة 7.
المغضوب عليهم والضالين وإن كان لفظهما عامًا، إلا أن المقصود بهما اليهود والنصارى بدليل الحديث (1)، فَعَقَّبَ النحاسُ على ذلك بقوله:«فعلى هذا يكون عامًّا يُرادُ به الخاصُّ، وذلك كثير في كلام العرب، مُستغنٍ عن الشواهد لشهرته» (2).
- القواعد المشتهرة، بحيث تكون من مُسَلَّمَاتِ اللغة، كرفع الفاعل، ونصب المفعول ونحو ذلك، فهذا لا يطلب له المفسرون شواهد من الشعر لظهوره واشتهاره. ولذلك أمسك النحاة عن الاستشهاد على الفاعل بأنه اسم، أو أنه مرفوع، وأن المبتدأ يكون اسمًا، معرفةً ونحو ذلك من المسائل الظاهرة. ومن قواعدهم «أَنَّ مَن تَمسَّكَ بالأَصلِ خَرجَ عن عهدة المطالبة بالدليل، ومَنْ عَدَلَ عن الأصلِ افتقرَ إلى إقامةِ الدليل؛ لعدوله عن الأصل، واستصحابُ الحال أحد الأدلة المعتبرة» (3).
- مِمَّا أجْمعَ السلفُ على تفسيره فلا حاجة إلى الاستشهاد عليه لوجود الإجماع، ومن ذلك قول الطبري:«مع أن إجماع الأمة من منع التسمي به - أي الرحمن- جميع الناس ما يغني عن الاستشهاد على صحة ما قلنا في ذلك بقول الحسن وغيره» (4). فوجود الإجماع على التفسير يلغي الحاجة إلى الاستشهاد بالشواهد الشعرية، لتقديم تفسير السلف وإجْماعهم. ولو تعارض تفسير الصحابي مع تفسير علماء اللغة فإن المفسرين يقدمون قول الصحابي، لكونه أعلم بالتفسير واللغة من المتأخرين، ولذلك يقول الطبري عند كلامه عن قولهم عن الشمس:
(1) انظر: تفسير الطبري (شاكر) 1/ 187، الدر المنثور 1/ 84.
(2)
المصدر السابق 1/ 69.
(3)
الإنصاف للأنباري 1/ 300، وانظر: معاني القرآن للفراء 2/ 102، لمع الأدلة 141، الاقتراح للسيوطي 113 - 114، القواعد الكلية والأصول العامة للنحو العربي للدكتور غريب نافع 17.
(4)
تفسير الطبري (شاكر) 1/ 134.