الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل: قلت: قد تقدم أن الأعمال تعرض على الله تعالى يوم الخميس ويوم الأثنين، وعلى الأنبياء والآباء والأمهات يوم الجمعة ولا تعارض، فإنه يحتمل أن يخص نبينا عليه السلام بالعرض كل يوم ويوم الجمعة مع الأنبياء والله أعلم.
باب ما جاء في عقوبة مانعي الزكاة وفضيحة الغادر والغال في الموقف وقت الحساب
مسلم «عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صحفت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار.
قيل يا رسول الله: فالإبل؟ قال: ولا صاحب إبل لا يؤدي منها حقها ومن حقها حلبها يوم وردها إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر أو فر ما كانت لا يفقد منها فصيلاً واحداً تطؤه بأخفافها وتعضه بأفواهها قيل: يا رسول الله فالبقر والغنم؟ قال: ولا صاحب بقر ولا غنم لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع لا يفقد منها شيئاً ليس فيها عقصاء ولا جلحاء ولا غضباء تنطحه بقرونها
وتطؤه بأظلافها، كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار» وذكر الحديث.
أخرجه البخاري بمعناه.
وروى مالك موقوفاً والنسائي والبخاري مرفوعاً «عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه يعني شدقيه ثم يقول أنا مالك أنا كنزك ثم تلا {ولا يحسبن الذين يبخلون} الآية» ، وذكر مسلم «من حديث جابر قال ولا صاحب كنز لا يؤدي فيه حقه إلا جاء يوم القيامة شجاعاً أقرع يتبعه فاتحاً فاه فإذا أتاه فر منه فيناديه خذ كنزك الذي خبأته فأنا عنه غني فإذا رأى أن لا بد له منه سلك يده في فيه فيقضمها قضم الفحل» وذكر الحديث.
«وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فذكر الغلول وعظم أمره ثم قال: لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء يقول يا رسول الله أغثني فأقول: لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة يقول يا رسول الله أغثني فأقول: لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك.
لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء يقول يا رسول الله أغثني فأقول: لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها
صياح فيقول يا رسول الله: أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك.
لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك.
لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك» أخرجه البخاري أيضاً.
«وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة» وذكر أبو داود الطيالسي قال: «حدثنا قرة بن خالد، عن عبد الملك بن عمير، عن رافع بن شداد، عن عمرو بن الحمق الخزاعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا آمن الرجل الرجل على دمه ثم قتله رفع له لواء غدر يوم القيامة»
فصل: علماؤنا رحمهم الله «في قوله تعالى {ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة} أن ذلك على الحقيقة كما بينه صلى الله عليه وسلم أي يأت به حاملاً له على ظهره ورقبته معذباً بحمله وثقله ومرعوباً بصوته وموبخاً بإظهار خيانته على رؤوس الأشهاد» ، وكذا مانع الزكاة كما في صحيح الحديث.
قال أبو حامد: فمانع زكاة الإبل يحمل بعيراً على كاهله له رغاء وثقل يعدل الجبل العظيم، ومانع زكاة البقر يحمل ثوراً على كاهله له خوار وثقل يعدل الجبل العظيم، ومانع زكاة الغنم يحمل شاة لها ثغاء وثقل يعدل الجبل العظيم والرغاء والخوار والثغاء كالرعد القاصف، ومانع زكاة الزرع يحمل على كاهله أعدالاً قد ملئت من الجنس الذي كان يبخل به براً كان أو شعيراً أثقل ما يكون ينادي تحته بالويل والثبور، ومانع زكاة المال يحمل شجاعاً أقرع له زبيبتان وذنبه قد انساب في منخريه واستدارت بجيده وثقل على كاهله كأنه طوق بكل وحي في الأرض وكل واحد ينادي مثل هذا فتقول الملائكة هذا ما بخلتم به في الدنيا رغبة فيه وشحاً عليه وهو قوله تعالى {سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة} .
قلت: وهذه الفضيحة التي أوقعها الله بالغال ومانعي الزكاة نظير الفضيحة التي يوقعها بالغادر، وجعل الله هذه المعاقبات حسب ما يعهده البشر ويفهمونه ألا ترى إلى قول الشاعر:
أسمى ويحك هل سمعت بغدرة
…
رفع اللواء لنا بها في المجمع
فكانت العرب ترفع للغادر لواء في المحافل ومواسم الحج، وكذلك يطاف بالجاني مع جنايته، وذهب بعض العلماء إلى أن ما يجيء به الغال يحمله عبارة عن وزر ذلك وشهرة الأمر أي يأتي يوم القيامة قد شهر الله أمره كما يشهر لو حمل يعيراً له رغاء أو فرساً له حمحمة.
قلت: وهذا عدول عن الحقيقة إلى المجاز والتشبيه، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بالحقيقة فهو أولى.
«وقد روى أبو داود عن سمرة بن جندب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصاب غنيمة أمر بلالاً فنادى في الناس فيجيئون بغنائمهم فيخمسها ويقسمها، فجاء رجل يوماً بعد النداء بزمام من شعر، فقال يا رسول الله: هذا كان فيما أصبناه من الغنيمة.
قال: أسمعت بلالاً ثلاثاً؟ قال: نعم قال: فما منعك أن تجيء به فاعتذر إليه فقال كلا أنت تجيء به يوم القيامة فلن أقبله منك»
فصل: وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الحجر ليرن لسبع خلفات فيلقى في جهنم فيهوي فيها سبعين خريفاً، ويؤتى بالغلول فيلقى معه ثم يكلف صاحبه أن يأتي به قال فهو قول الله تعالى {ومن يغلل يأت بما غل يوم
القيامة} » ذكره علي بن سليمان المرادي في الأربعين له.
وقوله: «يرفع لكل غادر لواء يوم القيامة» دليل على أن في الآخرة للناس ألوية، فمنها ألوية خزي وفضيحة يعرف بها أهلها، ومنها ألوية حمد وثناء وتشريف وتكريم.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لواء الحمد بيدي» .
وروي لواء الكرم وقدم وتقدم.
وروى الزهري «عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم امرؤ القيس صاحب لواء الشعراء إلى النار» فعلى هذا من كان إماماً ورأساً في أمر ما معروفاً به فله لواء يعرف به خيراً كان أو شراً، وقد يجوز أن يكون للصالحين الأولياء ألوية يعرفون بها تنويهاً بهم وإكراماً لهم، والله أعلم.
وإن كانوا غير معروفين قال النبي صلى الله عليه وسلم «رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره» وقال «إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي» أخرجهما مسلم.
وقال أبو حامد في كتاب كشف علوم الآخرة: وفي الحديث الصحيح «أن أول ما يقضي الله فيه الدماء، وأول من يعطى الله أجورهم الذين ذهبت أبصارهم ينادى يوم القيامة بالمكفوفين فيقال لهم أنتم أحرى أحق من ينظر إلينا ثم يستحي الله تعالى منهم ويقول لهم: اذهبوا إلى ذات اليمين
ويعقد لهم راية وتجعل بيد شعيب عليه السلام فيصير أمامهم ومعهم ملائكة النور ما لا يحصى عددهم إلا الله تعالى يزفونهم كما تزف العروس، فيمر بهم على الصراط كالبرق الخاطف وصفة أحدهم الصبر والحلم كابن عباس ومن ضاهاه من الأئمة ثم ينادي أين أهل البلاء؟ ويريد المجذومين فيؤتى بهم فيحييهم الله بتحية طيبة بالغة فيؤمر بهم إلى ذات اليمين ويعقد لهم راية خضراء وتجعل بيد أيوب عليه السلام فيصير أمامهم ذات اليمين، وصفة المبتلى صبر وحلم كعقيل بن أبي طالب ومن ضاهاه من الأئمة ثم ينادي: أين الشباب المتعففون؟ فيؤتى بهم إلى الله فيرحب بهم نعماً ويقول ما شاء الله أن يقول، ثم يؤمر بهم إلى ذات اليمين ويعقد لهم راية خضراء ثم تجعل في يد يوسف عليه السلام ويصير أمامهم إلى ذات اليمين، وصفة الشباب صبر وعلم وحلم كراشد بن سليمان ومن ضاهاه من الأئمة، ثم يخرج النداء أين المتحابون في الله؟ فيؤتى بهم إلى الله تعالى فيرحب بهم ويقول ما شاء الله أن يقول، ثم يؤمر بهم إلى ذات اليمين، وصفة المتحاب في الله صبر وعلم وحلم لا يسخط ولا يسيء من رضى الأحوال الدنيوية كأبي تراب أعني علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومن ضاهاه من الأئمة، ثم يخرج النداء أين الباكون؟ فيؤتى بهم إلى الله تعالى فتوزن دموعهم ودم الشهداء ومداد العلماء فيرجع الدمع فيؤمر بهم إلى ذات اليمين ويعقد لهم راية ملونة لأنهم بكوا في أنواع مختلفة هذا بكى خوفاً وهذا بكى طمعاً وهذا بكى ندماً وتجعل بيد نوح عليه السلام،
فتهم العلماء بالتقدم عليهم ويقولون علمنا بكاءهم فإذا النداء على رسلك يا نوح فتوقف الزمرة ثم يوزن مداد العلماء فيرجع دم الشهداء فيؤمر بهم إلى ذات اليمين ويعقد لهم راية مزعفرة وتجعل في يد يحيى عليه السلام، ثم ينطلق أمامهم فيهم العلماء بالتقدم عليهم ويقولون عن علمنا قاتلوا فنحن أحق بالتقدم، فيضحك لهم الجليل جل جلاله ويقول لهم أنتم عندي كأنبيائي أشفعوا فيمن تشاءون، فيشفع العالم في جيرانه وإخوانه ويأمر كل واحد منهم ملكاً ينادي في الناس: ألا إن فلاناً العالم قد أمر له أن يشفع فيمن قضى له حاجة أو أطعمه لقمة حين جاع أو سقاه شربة ماء حين عطش فليقم إليه فإنه يشفع له» .
وفي الصحيح أول من يشفع المرسلون، ثم النبيون، ثم العلماء ويعقد لهم راية بيضاء وتجعل بيد إبراهيم عليه السلام، فإنه أشد المرسلين مكاشفة ثم ينادي: أين الفقراء؟ فيؤتى بهم إلى الله عز وجل فيقول لهم مرحباً بمن كانت الدنيا سبحنهم، ثم يؤمر بهم إلى ذات اليمين ويعقد لهم راية صفراء وتجعل في يد عيسى بن مريم عليه السلام ويصير إلى ذات اليمين، ثم ينادي أين الأغنياء؟ فيؤتى بهم إلى الله عز وجل فيعدد عليهم ما خولهم فيه خمسمائة عام، ثم يؤمر بهم إلى ذات اليمين ويعقد لهم راية ملونة وتجعل بيد سليمان عليه السلام
ويصير أمامهم في ذات اليمين.
وفي الحديث: «أن أربعة يستشهد عليهم بأربعة: ينادى بالأغنياء وأهل الغبطة فيقال لهم: ما شغلكم عن عبادة الله؟ فيقولون: أعطانا الله ملكاً وغبطة شغلنا عن القيام بحقه في دار الدنيا فيقال لهم: من أعظم ملكاً: أنتم أم سليمان؟ فيقولون: بل سليمان.
فيقال: ما شغله ذلك عن القيام بحق الله والدأب في ذكره.
ثم يقال: أين أهل البلاء؟ فيؤتى بهم أنواعاً فيقال لهم: أي شيء شغلكم عن عبادة الله تعالى؟ فيقولون: ابتلانا الله في دار الدنيا بأنواع من الآفات والعاهات شغلتنا عن ذكره والقيام بحقه فيقال لهم: من أشد بلاء: أنتم أم أيوب؟ فيقولون بل أيوب.
فيقال لهم: ما شغله ذلك عن حقنا والدأب لذكرنا ثم ينادي: ابن الشباب العطرة والمماليك فتقول الشباب: أعطانا الله جمالاً وحسناً فتناً به فكنا مشغولين عن القيام بحقه وكذلك المماليك فيقولون: شغلنا رق العبودية في الدنيا فيقال لهم: أنتم أكثر جمالاً أم يوسف عليه السلام.
فلقد كان في رق العبودية ما شغله ذلك عن القيام بحقنا ولا الدأب لذكرنا ثم ينادي: أين الفقراء؟ فيؤتى بهم أنواعاً فيقال لهم: ما شغلكم عن عبادة الله تعالى؟ فيقولون: ابتلانا الله في دار الدنيا بفقر شغلنا فيقال لهم: من أشد فقراً..
أنتم أم عيسى عليه السلام؟ ! فيقولون: بل عيسى فيقول لهم: ما شغله ذلك عن القيام بحقنا والدأب لذكرنا
…
فمن بلى بشيء من هذه الأربع فليذكر صاحبه» ..
فصل: وقوله «هذه غدرة فلان ابن فلان» دليل على أن الناس يدعون
في الآخرة بأسمائهم وأسماء آبائهم وقد تقدم هذا في غير موضع، وفي هذا رد على من قال إنما يدعون بأسماء أمهاتهم لأن في ذلك ستراً على آبائهم، وهذا الحديث خلاف قولهم.
خرجه البخاري ومسلم وحسبك.
فصل: وقوله «فيكوي بها جنبه» الحديث إنما خص الجنب والجبهة والظهر بالكي لشهرته في الوجه وشناعته، وفي الجنب والظهر لأنه آلم وأوجع، وقيل خص الوجه لتقطيبه في وجه السائل أولاً والجنب لأزوراره عن السائل ثانياً والظهر لانصرافه إذا راد في السؤال وأكثر منه، فرتب الله تعالى هذه العقوبات في هذه الأعضاء لأجل ذلك والله أعلم.
وقالت الصوفية: لما طلبوا الجاه والمال شان الله وجوههم، ولما طووا كشحاً عن الفقير إذ جالسهم كويت جنوبهم ولما أسندوا ظهورهم إلى أموالهم ثقة بها واعتماداً عليها كويت ظورههم.
فصل: وقوله {في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة} قيل: معناه لو حاسب فيها غير الله تعالى وإنما هو سبحانه وتعالى يفرغ منه في مقدار نصف نهار من أيام الدنيا.
وقيل: قدر مواقفهم للحساب عن الحسن وقال ابن اليمان كل موقف منها ألف سنة.
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده إنه ليخف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة»
وقد تقدم من حديث أبي سعيد الخدري وذكر ابن المبارك قال أخبرنا معمر عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن أبي هريرة قال: يقصر يومئذ على المؤمن حتى يكون كوقت الصلاة.
وفي الحديث «لا ينتصف النهار حتى يستقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار» ذكره ابن عزير في غريب القرآن له.
وبطح: ألقي على وجهه.
قاله بعض المفسرين.
وقال أهل اللغة: البطح: هو البسط كيفيما كان غير الوجه أو على الوجه، ومنه سميت بطحاء مكة لانبساطها، وبقاع قرقر أي موضع مستو واسع وأصل القاع: الموضع المنخفض الذي يستقر فيه الماء وجمعه قيعان، والعقصاء: الملتوية القرن.
والجلحاء: التي لا قرن لها.
والعضباء: المكسورة داخلة القرن يريد: إنها كلها ذوات قرون صحاح ويمكن بها النطح والطعن حتى يكون أشد لألمه وأبلغ في عذابه، والله أعلم.