الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحسن عليه السلام معاوية إلى إنقضاء بني أمية من المشرق نحو من سبعين سنة وانتقاله إلى بني العباس والدين الملة والسلطان ومن قوله تعالى {ليأخذ أخاه في دين الملك} أي في سلطانه.
وقوله: «تدور رحى الإسلام» دوران الرحى كناية عن الحرب والقتال شبهها بالرحى الدائرة التي تطحن لما يكون فيها من قبض الأرواح وهلاك الأنفس.
باب ما جاء أن عثمان رضي الله عنه لما قتل سل سيف الفتنة
الترمذي عن ابن أخي عبد الله بن سلام قال: لما أريد عثمان رضي الله عنه جاء عبد الله بن سلام فقال له عثمان بن عفان رضي الله عنه: ما جاء بك؟ قال: جئت في نصرتك.
قال: اخرج إلى الناس فاطردهم عني فإنك خارجاً خير لي من داخل.
قال: فخرج عبد الله بن سلام إلى الناس فقال: أيها الناس إنه كان في الجاهلية اسمي فلان بن فلان فسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله، ونزلت في آيات من كتاب الله تعالى نزلت {وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين} ونزلت في {قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب} إن الله سيفاً مغموداً عنكم وإن الملائكة قد جاورتكم في بلدكم
هذا الذي نزل فيه نبيكم، فالله الله في هذا الرجل أن تقتلوه، فوالله إن قتلتموه لتطردن جيرانكم الملائكة ولتسلن سيف الله المغمود عنكم فلا يغمد إلى يوم القيامة.
قال: فقالوا اقتلوا اليهودي واقتلوا عثمان.
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب.
قلت: ومثل هذا من عبد الله لا يكون إلا عن علم من الكتاب أعني التوراة على ما يأتي أو سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، وسيأتي قول حذيفة لعمران: إن بينك وبينها باباً مغلقاً يوشك أن يكشر.
فصل
قال العلماء بالسير والأخبار: إنه دخل على أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه في الدار جماعة من الفجار منهم: كنانة بن بشر التجيبي فأشعره مشقصاً أي قتله به فافتضح الدم على المصحف ووقع على قوله تعالى {فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم} وقيل ذبحه رجل من أهل مصر يقال له عمار، وقيل ذبحه رومان، وقيل قتله الموت الأسود يقال له أيضاً الدم الأسود من طغاة مصر، فقطع يده، فقال عثمان: أما والله إنها لأول كف خطت في المصحف، وهذه البلوى التي ثبتت في الصحيح «عن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم
دخل حائطاً وأمرني بحفظ باب الحائط، فجاء رجل يستأذن فقال: ائذن له وبشره بالجنة فإذا أبو بكر ثم جاء آخر يستأذن، فقال: ائذن له وبشره بالجنة فإذا عمر، ثم جاء آخر يستأذن فسكت هنيهة ثم قال ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه، فإذا عثمان بن عفان» .
لفظ البخاري ذكره في مناقب عثمان.
وقد قيل: إن الصحيح في مقتله رضي الله عنه أنه لم يتعين له قاتل معين بل أخلاط الناس وهم رعاع جاءوا من مصر ومن غير قطر، وجاء الناس إلى عثمان فيهم عبد الله بن عمر متقلداً سيفه وزيد بن ثابت، فقال له زيد بن ثابت: إن الأنصار بالباب يقولون إنشئت كنا أنصار الله مرتين.
قال: لا حاجة لي في ذلك كفواً، وكان معه في الدار الحسن والحسين وابن عمر وعبد الله بن الزبير وأبو هريرة وعبد الله بن عامر بن ربيعة ومروان بن الحكم كلهم يحملون السلاح، فعزم عليهم في وضع أسلحتهم وخروجهم ولزوم بيتهم، فقال له الزبير ومروان: نحن نعزم على أنفسنا أن لا نبرح، فضاق عثمان رضي الله عنه من الحصار ومنع من الماء حتى أفطر على ماء البحر الملح.
قال الزبير بن بكار: حاصروه شهرين وعشرين يوماً، وقال الواقدي حاصروه تسعة وأربعين يوماً ففتح الباب فخرج الناس وسلموا له راية في إسلام نفسه.
قال سليط بن أبي سليط: فنهانا الإمام عثمان عن قتالهم ولو أذن لنا لضربناهم حتى نخرجهم من أقطارها ودخلوا عليه في أصح الأقوال، وقتله من شاء الله من سفلة الرجال.
وروى أبو عمر بن عبد البر «عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ادعوا لي بعض أصحابي، فقلت أبو بكر؟ قال: لا.
فقلت: عمر؟ فقال: لا.
فقلت: ابن عمك؟ قال: لا.
فقلت عثمان.
قال: نعم.
فلما جاءه قال لي بيده فتنحيت، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يساره ولون عثمان يتغير، فما كان يوم الدار وحصر عثمان قيل له ألا نقاتل عنك قال: لا.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلي عهداً وأنا صابر عليه» .
وفي الترمذي «عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: يا عثمان لعل الله يقمصك قميصاً فإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه لهم» قال: هذا حديث حسن غريب.
وفيه «عن ابن عمر قال: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فتنة فقال: يقتل فيها هذا مظلوماً لعثمان» وقال حديث حسن غريب.
ويروى أنه دخل عليه عبد الله بن عمر بن الخطاب قال انظر ما يقول هؤلاء يقولون اخلع نفسك أو نقتلك قال له: أمخلد أنت في الدنيا؟ قال: لا فهل يزيدون على أن يقتلوك؟ قال: لا.
قال: هل يملكون لك جنة أو ناراً.
قال: لا.
قال: فلا تخلع قميص الله عليك فيكون سنة كلما كره قوم خليفة خلعوه وقتلوه.
واختلف في سنه رضي الله عنه حين قتله من قتله من الفجار ـ أدخلهم الله بحبوحة النار ـ فقيل: قتل وهو ابن ثمان وثمانين وقيل ابن تسعين سنة، وقال قتادة: قتل عثمان وهو ابن ست وثمانين وقيل غير هذا.
وقتل مظلوماً كما شهد له بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وجماعة أهل السنة وألقي على مزبلة، فأقام فيها ثلاثة أيام لم يقدر أحد على دفنه، حتى جاء جماعة بالليل خفية فحملوه على لوح وصلوا عليه ودفن في موضع من البقيع يسمى حوش كوكب، وكان مما حبسه عثمان رضي الله عنه وزاده في البقيع، وكان إذا مر به يقول يدفن فيك رجل صالح.
وكان هو المدفون فيه وعمي قبره لئلا يعرف، وقتل يوم الجمعة لثماني ليال خلون من ذي الحجة يوم التروية سنة خمس وثلاثين قاله الواقدي.
وقيل ليلتين بقيتا من ذي الحجة،
وكانت خلافته إحدى عشر سنة إلا أياماً اختلف فيها رضي الله عنه.
وقيل إن المتعصبين على عثمان رضي الله عنه من المصريين ومن تابعهم من البلدان كانوا أربعة آلاف، وبالمدينة يومئذ أربعون ألفاً.
وقد اختلف العلماء فيمن نزل به مثل نازلة عثمان ألحقه الله جناح المغفرة والرضوان هل يلقى بيده أو يستنصر، فأجاز جماعة من الصحابة والتابعين وفقهاء المسلمين أن يستسلم وهو أحد قولي الشافعي، وقال بعض العلماء: لا يسلم بيده بل يستنصر ويقاتل ولكل من القولين وجه ودليل، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
وقال بعض العلماء: ولو اجتمع أهل المشرق والمغرب على نصرة عثمان لم يقدروا على نصرته، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنذره في حياته فأعلمه بالبلوى التي تصيبه، فكان ذلك من المعجزات التي أخبر بوقوعها بعد موته صلى الله عليه وسلم وما قال رسول الله شيئاً قط إلا كان.
وقال حسان بن ثابت:
قتلتم ولي الله في جوف داره
…
وجئتم بأمر جائر غير مهتد
فلا ظفرت إيمان قوم تعاونوا
…
على قتل عثمان الرشيد المسدد
وخرج مسلم في صحيحه قال: وحدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن حاتم قالا: حدثنا معاذ بن جبل قال: حدثنا ابن عوف عن محمد قال: قال جندب جئت يوم الجرعة، فإذا رجل جالس فقلت له ليهراقن اليوم ههنا
دم.
فقال ذلك الرجل: كلا والله.
قلت: بلى والله.
قال: كلا والله.
قلت: بلى والله.
قال ثلاثاً كلا إنه لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنيه قلت: بئس الجليس لي أنت منذ اليوم تسمعني أخالفك، وقد سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تنهني ثم قلت: ما هذا الغضب فأقبلت عليه أسائله فإذا الرجل حذيفة.
والجرعة: موضع بجهة الكوفة على طريق الحيرة قيده الحفاظ بفتح الجيم والراء، وقيده بعض رواة الحفاظ بإسكان الراء وهو يوم خرج فيه أهل الكوفة متألبين متعصبين ليردوا إلى عثمان بن عفان، وهو سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس، وكتبوا إلى عثمان لا حاجة لنا في سعيدك ولا وليدك، وكان رده سنة أربع وثلاثين، وكتبوا إلى عثمان ان يولي عليهم أبا موسى الأشعري، فلم يزل والياً عليهم إلى أن قتل عثمان ولما سمع بقتله يعلى بن أمية التميمي الحنظلي أبو صفوان، أبي هريرة يقال له خالد أسلم يوم الفتح وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنيناً والطائف وتبوك وكان صاحب الجند وصنعاء أقبل لينصره، فسقط عن بعيره في الطريق فانكسرت فخذه فقدم مكة بعد انقضاء الحج فخرج إلى المسجد وهو كسير على سرير، واستشرف إليه الناس واجنمعوا فقال: من خرج يطلب بدم عثمان فعلي جهازه فأعان الزبير بأربعمائة ألف وحمل سبعين رجلاً من قريش، وحمل رضي الله عنها على جمل أذب ويقال أذب لكثرة وبره اشتراه ابن أمية الحنظلي بمائتي دينار.
قاله ابن عبد البر
في الاستيعاب، وقال ابن شبة في كتاب الجمل له: اشتراه بثمانين ديناراً والأول أصح واسمه عسكر.
وذكر ابن سعد قال: أخبرنا محمد بن عمر قال: حدثني اسماعيل بن إبراهيم عن أبيه قال: كان عبد الله بن أبي ربيعة عاملاً لعثمان على صنعاء، فلما بلغه خبر عثمان أقبل سريعاً لينصره، فلقيه صفوان بن أمية وصفوان على فرس، وعبد الله بن أبي ربيعة على بغلة، فدنا منها الفرس فحادت فطرحت ابن أبي ربيعة فكسرت فخذه، فقدم مكة بعد الضرر وعائشة بمكة يومئذ تدعو إلى الخروج تطلب دم عثمان، فأمر بسرير فوضع له سرير في المسجد ثم حمل فوضع على سريره، فقال: أيها الناس من خرج في طلب دم عثمان فعلي جهازه.
قال: فجهز ناساً كثيراً وحملهم ولم يستطع إلى الجمل لما كان برجله.
أخبرنا محمد بن عمر قال: حدثني محمد بن عبد الله ابن عبيد عن أبي مليكة، عن عبد الله بن أبي السائب قال: رأيت عبد الله بن أبي ربيعة على سرير في المسجد الحرام يحض الناس على الخروج في طلب دم عثمان ويحمل ما جاء.
انتهى كلام ابن سعد في الطبقات ولا تعارض والحمد لله، فإنه يحتمل أن يكون خرجا جميعاً في نصرة عثمان فكسروا أو اجتمعا بمكة وجعلا يجهزان من يخرج، والله أعلم.
وكانت عائشة رضي الله عنها حاجة في السنة التي قتل فيها عثمان، وكانت مهاجرة له، فاجتمع طلحة والزبير ويعلى وقالوا لها بمكة: عسى أن تخرجي رجاء أن يرجع الناس إلى أمهم ويراعوا نبيهم وهي تمتنع عليهم، فاحتجوا عليها بقوله تعالى {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس} وقالوا لها: إن المتألبين على عثمان بالبصرة كثير فبلغت الأقضية مقاديرها.
فاصطف الناي للقتال ورموا علياً وأصحابه بالنبال، فقال علي: لا ترموا بسهم ولا تضربوا بسيف ولا تطعنوا برمح، فرمى رجل من عسكر القوم بسهم فقتل رجلاً من أصحاب علي فأتى به إلى علي فقال: اللهم أشهد ثم رمي آخر، فقتل رجلاً من أصحاب علي، فقال علي: اللهم أشهد ثم رمي آخر، فقال علي اللهم اشهد، وقد كان علي نادى الزبير يا أبا عبد الله: ادن إلي اذكرك كلاماً سمعته أنا وأنت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: علي الأمان.
فقال: على الأمان فبرز فأذكره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له وقد وجدهما يضحكان بعضهما إلى بعض «أما أنك ستقاتل علياً وأنت له ظالم» فقال الزبير:
اللهم إني ما ذكرت هذا إلا في هذه الساعة وثنى عنان فرسه لينصرف، فقال له ابنه عبد الله: إلى أين؟ قال: أذكرني علي كلاماً قاله له رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: كلا ولكنك رأيت سيوف بني هاشم حداداً ويحملها حداداً ويحملها رجال شداد.
قال: ويلك ومثلي يعير بالجبن هلم الرمح، فأخذ الرمح وحمل في أصحاب علي، فقال علي: افرجو للشيخ فإنه محرج، فشق الميمنة والميسرة والقلب ثم رجع وقال لابنه: لا أم لك أبفعل هذا جبان وانصرف.
وقامت الحرب على ساق، وبلغت النفوس إلى التراق، فأفرجت عن ثلاثة وثلاثين ألف قتيل، وقيل عن سبعة عشر ألفاً وفيه اختلاف فيهم.
من الأزد أربعة آلاف، ومن ضبة ألف ومائة وباقيهم من سائر الناس كلهم من أصحاب عائشة.
وقتل فيها من أصحاب علي نحو من ألف رجل وقيل أقل، وقطع على خطام الجمل سبعون يداً من بني ضبة كلما قطعت يد رجل أخذ الزمام آخر وهم ينشدون:
نحن بنو ضبة أصحاب الجمل
…
ننازل الموت إذا الموت نزل
والموت أشهى عندنا من العسل
وكان الجمل للراية إلى أن عقر الجمل، وكانوا قد ألبسوه الأدراع، وقال جملة من أهل العلم: إن الوقعة بالبصرة بينهم كانت على غير عزيمة منهم على الحرب، بل فجأة وعلى سبيل دفع كل واحد من الفريقين
عن أنفسهم لظنه أن الفريق الآخر قد غدر به، لأن الأمر كان انتظم بينهم على الصلح والتفريق على الرضا، فخاف قتلة عثمان من التمكن منهم والإحاطة بهم، فاجتمعوا وتشاوروا واختلفوا ثم اتفقت آراؤهم على أن يفترقوا فريقين ويبدوا في الحرب شجرة في العسكرين وتختلف السهام بينهم ويصيح الفريق الذي في عسكر علي غدر طلحة والزبير، والذي في عسكر طلحة والزبير غدر علي، فتم لهم ما أرادوا ودبروه ونشبت الحرب، فكان كل فريق دافعاً لمكرته عند نفسه ومانعاً من الإشاطة بدمه وهذا صواب من الفريقين وطاعة الله إذ وقع القتال والامتناع منهما على هذا السبيل، وهذا هو الصحيح المشهور، وكان قتالهم من ارتفاع النهار يوم الخميس إلى قريب العصر لعشر ليال خلون من جمادي الآخرة سنة ست وثلاثين.
وفي صحيح مسلم من كتاب الفتن «عن ابن عمر قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيت عائشة فقال: رأس الكفر من ها هنا من حيث يطلع قرنا الشيطان» يعني المشرق وقيل: هذا بنصف ورقة بأسانيد منها عن عبد الله بن عمر القواريري ومحمد بن المثنى باضطراب في بيت حفصة، ثم قال وقال عبد الله بن سعيد في روايته قام رسول الله صلى الله عليه وسلم
عند باب عائشة فقال بيده نحو المشرق «الفتنة ها هنا من حيث يطلع قرنا الشيطان» قالها مرتين أو ثلاثاً.
وذكر الإمام أحمد بن حنبل في مسنده في الخامس عشر من مسند عائشة رضي الله عنها قال: حدثني محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة، عن إسماعيل بن ابي خالد عن قيس بن أبي حازم أن عائشة رضي الله عنها لما أتت الحوبة سمعت نباح الكلاب فقالت: ما أظنني ألا راجعة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا: «أيتكن تنبح كلاب الحوأب» فقال لها الزبير: ترجعين عسى الله أن يصلح لك بين الناس.
وروى أبو بكر بن أبي شيبة قال: «حدثنا وكيع بن الجراح، عن عصام بن قدامة، عن عكرمة، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أيتكن صاحبة الجمل الأذيب يقتل حولها قتلى كثيرة وتنجو بعد ماكادت» وهذا حديث ثابت صحيح رواه الإمام المجمع على عدالته وقبول روايته الإمام أبو بكر عبد الله بن أبي شيبة، وكذلك وكيع مجمع على عدالته وحفظه وفقهه عن عصام وهو ثقة عدل فيما ذكر أبو عمر بن عبد البر في كتاب الاستيعاب له، عن عكرمة وهو عند أكثر العلماء ثقة عالم وهذا الحديث من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم وهو إخباره بالشيء قبل كونه.
وقوله [الأذيب] أراد الأذب، فأظهر التضعيف والعجب من القاضي أبي بكر بن العربي كيف أنكر هذا الحديث في كتبه.
منها في كتاب العواصم من القواصم، وذكر أنه لا يوجد أصلاً وأظهر
لعلماء المحدثين بإنكاره غباوة وجهلاً، وشهرة هذا الحديث أوضح من فلق الصبح وأجلى، وقد رواه أبو عمر بن عبد البر في كتاب الاستيعاب فقال حدثنا سعيد بن نصر قال: حدثنا قاسم بن أصبغ قال: حدثنا محمد بن وضاح قال: حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة، فذكره بسنده المتقدم.
وروى أبو جعفر الطبري قال: لما خرجت عائشة رضي الله عنها من البصرة طالبة المدينة بعد انقضاء الحرب جهزها علي رضي الله عنه جهازاً حسناً، وأخرج معها من أراد الخروج واختار عليها أربعين امرأة معروفات من نساء البصرة، وجهز معها أخاها محمداً وكان خروجها من البصرة يوم السبت غرة رجب سنة ست وثلاثين وشيعها علي رضي الله عنه على أميال وسرح معها بنيه يوماً.
فصل:
فإن قيل: فلم ترك علي القصاص من قتلة عثمان؟ فالجواب إنه لم يكن ولي دم، وإنما كان أولياء الدم أولاد عثمان وهم جماعة: عمرو وكان أسن ولد عثمان وأبان وكان محدثاً فقيهاً وشهد الجمل مع عائشة والوليد بن عثمان، وكان عنده مصحف عثمان الذي كان في حجره حين قتل، ومنهم الوليد بن عثمان.
ذكر ابن قتيبة في المعارف أنه كان صاحب شارب وفتوة ومنهم
سعيد بن عثمان وكان والياً لمعاوية على خرسان، فهؤلاء بنو عثمان الحاضرون في ذلك الوقت، وهم أولياء الدم غيرهم ولم يتحاكم إلى علي أحد منهم ولا نقل ذلك عنهم، فلو تحاكموا إليه لحكم بينهم إذكان أقضى الصحابة للحديث المروي فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وجواب ثان: أنه لم يكن في الدار عدلان يشهدان على قاتل عثمان بعينه، فلم يكن له أن يقتل بمجرد دعوى في قاتل بعينه، ولا إلى الحاكم في سبيل ذلك مع سكوت أولياء الدم عن طلب حقهم، ففي تركهم له أوضح دليل، وكذلك فعل معاوية حين تمت له الخلافة وملك مصر وغيرها بعد أن قتل علي رضي الله عنه لم يحكم على واحد من المتهمين بقتل عثمان بإقامة قصاص، وأكثر المتهمين من أهل مصر والكوفة والبصرة وكلهم تحت حكمه وأمره ونهيه وغلبته وقهره، وكان يدعي المطالبة بذلك قبل ملكه ويقول: لا نبايع من يؤوي قتلة عثمان ولا يقتص منهم والذي كان يجب عليه شرعاً أن يدخل في طاعة علي رضي الله عنه حين انعقدت خلافته في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومهبط وحية ومقر النبوة وموضع الخلافة بجميع من كان فيها من المهاجرين والأنصار يطوع منهم وارتضاء واختيار، وهم أمم لا يحصون وأهل عقد وحل، والبيعة تنعقد بطائفة من أهل الحل والعقد، فلما بويع له رضي الله عنه طلب أهل الشام في شرط البيعة التمكن من قتلة عثمان، وأخذ القود منهم، فقال لهم علي عليه السلام: ادخلوا في البيعة واطلبوا الحق تصلوا إليه فقالوا لا تستحق بيعة وقتلة عثمان معك نراهم صباحاً ومساء، وكان علي في ذلك أسد رأياً
واصوب قيلاً، لأن علياً لو تعاطى القود معهم لتعصب لهم قبائل وصارت حرباً ثالثة، فانتظر بهم إلى أن يستوثق الأمر وتنعقد عليه البيعة ويقع الطلب من الأولياء في مجلس الحكم فيجري القضاء بالحق.
قال ابن العربي أبو بكر ولا خلاف بين الأمة أنه يجوز للإمام تأخير القصاص إذا أدى إلى إثارة فتنة أو تشتيت الكلمة، وكذلك جرى لطلحة والزبير فإنهما ماخلعا علياً من ولاية ولا اعتراضاً عليه في ديانة، وإنما رأوا أن البداية بقتل أصحاب عثمان أولى.
وذكر ابن وهب قال: حدثني حرملة بن عمران عن يزيد بن أبي حبيب أنه سمعه يحدث محمد بن أبي زياد الثقفي قال: اصطحب قيس بن خرشة وكعب الكناني حتى إذا بلغا صفين وقف كعب ثم نظر ساعة فقال: لا إله إلا الله ليهراقن في هذه البقعة من دماء المسلمين ما لم يهرق ببقعة من الأرض، فغضب قيس ثم قال: وما يدريك يا أبا إسحاق ما هذا، فإن هذا من الغيب الذي استأثر الله تعالى به، فقال كعب: ما من سبر من الأرض إلا هو مكتوب في التواراة التي أنزل الله على موسى بن عمران ما يكون عليه إلى يوم القيامة.
أخبرنا شيخنا القاضي لسان المتكلمين أبو عامر بن الشيخ الفقيه الإمام أبي الحسين بن عبد الرحمن بن ربيع الأشعري إجازة عن شيخه المحدث الثقة المؤرخ أبي القاسم خلف بن عبد الملك بن بشكوال قال: حدثنا جماعة من شيوخنا رحمهم الله.
منهم الفقيه المفتي أبو محمد بن عنان قال: أنبأنا الإمام أبو عمر بن عبد البر فيما أجازه لنا بخطه قال: حدثنا خلف بن القاسم قال: حدثنا عبد الله بن عبد البر قال: حدثنا أحمد بن يحيى قال: حدثنا أحمد بن محمد بن الحجاج قال: حدثني خالد أبو الربيع وأحمد بن صالح وأحمد بن عمر وابن السرح ويحيى بن سليمان قال: حدثني ابن وهب فذكره.
وأحمد بن محمد بن الحجاج هو ابن رشيد بن سعد أبو جعفر مصري قال أبو أحمد بن عدي: كذبوه وأنكرت عليه أشياء ومحمد بن يزيد بن أبي زياد مجهول.
قاله الدارقطني وباقي السند ثقات معرفون.
وأما وقعة صفين فإن معاوية لما بلغه مسير أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه إليه من العراق خرج من دمشق حتى ورد صفين في النصف من المحرم، فسبق إلى سهولة المنزل وسعة المناخ وقريب الماء من الفرات وبنى قصراً لبيت ماله.
وصفين صحراء ذات كدى وأكمأت، وكان أهل الشام قد سبقوا إلى المشرعة من سائر الجهات ولم يكن ثم مشرعة سواها للواردين والواردات، فمنعت علياً رضي الله عنه إياها وحمتها تلك الكماة، فذكرهم بالمواعظ الحسنة والآيات، وحذرهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم فيمن منع فضل الماء بالفلاة، فردوا قوله وأجابوا بألسنة الطغاة إلى أن قاتلهم بالقواضب والسمهريات، فلما غلبهم عليها رضي الله عنه أباحها للشاربين والشاربات، ثم بنى مسجداً على تل
بأعلى الفرات ليقيم فيه مدة مقامه فرائض الصلوات لفضل صلاة الجماعة على صلاة الفرد بسبع وعشرين من الدرحات على ما ثبت في الصحيح من رواية ابن عمر وغيره من الصحابة العدول الثقاة، وحضرها مع علي جماعة من البدريين، ومن بايع تحت الشجرة من الصحابة المرضيين، وكان مع علي رايات كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل المشركين، وكان مقام علي رضي الله عنه ومعاوية بصفين سبعة أشهر، وقيل تسعة، وقيل ثلاثة أشهر، وكان بينهم قبل القتال نحو من سبعين زحفاً وقتل في ثلاثة أيام من أيام البيض وهي ثلاث عشرة وأربعة عشرة وخمسة عشرة ثلاثة وسبعون ألفاً من الفريقين.
وذكره الثقة العدل أبو إسحاق وإبراهيم بن الحسين الكساي الهمداني المعروف بابن ديزيل وهو الملقب بسفينة، وسفينة طائر إذا وقع على الشجرة لم يقم عنها ويترك فيها شيئاً، وهو في تلك الليالي هي ليله الهرير جعل يهر بعضهم على بعض.
والهرير: الصوت يشبه النباح لأنهم تراموا بالنبل حتى فنيت، وتطاعنوا الرماح حتى اندقت وتضاربوا بالسيوف حتى انقضت، ثم نزل القوم يمشي بعضهم إلى بعض قد كسروا جفون سيوفهم واضطربوا بما بقي من السيوف وعمد الحديد، فلا تسمع إلا غمغمة القوم والحديد في الهام، ولما صارت السيوف كالمناجل
بالحجارة، ثم جثوا على الركب فتحاثوا بالتراب، ثم تكادموا بالأفواه وكسفت الشمس وثار القتام وارتفع الغبار وضلت الألوية والرايات ومرت أوقات أربع صلوات، لأن القتال كان بعد صلاة الصبح واقتتلوا إلى نصف الليل، وذلك في شهر ربيع الأول سنة تسع وثلاثين.
قال الإمام أحمد بن حنبل في تاريخه وقال غيره في شهر ربيع الأول.
وكان أهل الشام يوم صفين خمسة وثلاثين ومائة وألفاً، وكان أهل العراق عشرين أو ثلاثين ومائة وألفاً.
ذكره الزبير بن بكار أبو عبد الله القاضي العدل قال: حدثني عمر بن أبي بكر المؤملي، عن زكريا بن عيسى، عن ابن شهاب، عن محمد بن عمرو بن العاص وكان من شهد صفين وأبلى فيه وفيه يقول:
فلو شهدت جمل مقامي ومشهدي
…
بصفين يوماً شاب منها الذوائب
غداة أتى أهل العراق كأنهم
…
من البحر لج موجه متراكب
وجئناهم نمشي كأن صفوفنا
…
سحائب غيث رفعتها الجنائب
ويروى: شهاب حريق رفعته الجنائب.
وقالوا لنا إنا نرى أن تبايعوا
…
علياً فقلنا بل نرى أن نضارب
وطارت إلينا بالرماح كماتهم
…
وطرنا إليهم بالأكف قواضب
إذا نحن قنا استهزموا عرضت لنا
…
كتائب منهم واشمأزت كتائب
فلا هم يولون الظهور فيدبروا
…
فراراً كفعل الخادرات الدرائب
قال ابن شهاب: فأنشدت عائشة رضي الله عنها أبياته هذه، فقالت ما سمعت بشاعر أصدق شعراً منه.
قال الحافظ ابن دحية: قوله: بل نرى أن نضارب أن هنا مخففة من الثقيلة محذوفة الاسم تقديره أننا نضارب، وقوله [كفعل الخادرات الدرائب] الخادرات: الأسود يقال أسود خادر، كأن الأجمة له خدر، فمعناه أنهم لا يدبرون كالأسود التي لا تدبر عن فرائسها، لأنها قد ضربت بها ودربت عليها والدربة الضراوة.
يقال: درب يدرب ورفع الدرائب لأنها بدل من الضمير في يدبروا.
قال: والإجماع منعقد على أن طائفة الإمام طائفة عدل، والأخرى طائفة بغي ومعلوم أن علياً رضي الله عنه كان الإمام.
وخرجه أيضاً من حديث إسحاق بن إبراهيم، وإسحاق بن منصور، ومحمد بن غيلان، ومحمد بن قدامة قالوا: أخبرنا النضر بن شميل، عن شعبة، عن أبي سلمة بهذا الإسناد نحوه غير أن في حديث النضر قال أخبرني من هو خير مني أبو قتادة وله طرق غير هذا في صحيح مسلم.
وقال أبو عمر بن عبد البر في كتاب الاستيعاب له في ترجمة عمار وتواترت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يقتل عمار الفئة الباغية» وهو من أصح الأحاديث.
وقال فقهاء الإسلام فيما حكاه الإمام عبد القاهر في كتاب الإمامة من تأليفه، وأجمع فقهاء الحجاز والعراق من فريقي الحديث والرأي منهم مالك والشافعي وأبو حنيفة والأوزاعي، والجمهور الأعظم من المتكلمين إلى أن علياً مصيب في قتاله لأهل صفين كما فالوا بإصابته في قتل أصحاب الجمل، وقالوا أيضاً بأن الذين قاتلوه بغاة ظالمون له، ولكن لا يجوز تكفيرهم ببغيهم.
وقال الإمام أبو منصور التيمي البغدادي في كتابه الفرق من تأليفه في شان القصة عقيدة أهل السنة وأجمعوا أن علياً كان مصيباً في قتاله لأهل صفين كما قالوا بإصابته في قتل أصحاب الجمل، وقالوا أيضاً: بأن الذين قاتلوه بغاة ظالمون له ولكن لا يجوز تكفيرهم ببغيهم.
وقال الإمام أبو منصور التيمي البغدادي في كتاب الفرق في بيان عقيدة أهل السنة: وأجمعوا أن علياً كان كصيباً في قتال أهل الجمل: أعني طلحة والزبير وعائشة بالبصرة، وأهل صفين: أعني معاوية وعسكره.
وقال الإمام أبو المعالي في كتاب الإرشاد فصل: علي رضي الله عنه كان إماماً حقاً في توليته، ومقاتلوه بغاة وحسن الظن بهم يقتضي أن يظن بهم قصد الخير وإن أخطأوه، فهو آخر فصل ختم به كتابه، وحسبك يقول سيد المرسلين وإمام المتقين لعمار رضي الله عنه «تقتلك الفئة الباغية» .
وهو من أثبت الأحاديث كما تقدم ولما لم يقدر معاوية على إنكاره لثبوته عنده قال: إنما قتله من أخرجه، ولو كان حديثاً فيه شك لرده معاوية وامكره وأكذب ناقله وزوره.
وقد أجاب علي رضي الله عنه عن قول معاوية بان قال: فرسول الله صلى الله عليه وسلم اذن قتل حمزة حين أخرجه، وهذا من علي رضي الله عنه إلزام لا جواب عنه وحجة لا اعتراض عليها.