الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَأَخَذَ الْمُشْرِكُونَ يَدُورُونَ حَوْلَ الْخَنْدَقِ، يَتَحَسَّسُونَ نُقْطَةً ضَعِيفَةً، لِيَنْحَدِرُوا مِنْهَا، لَكِنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا، فَأَخَذُوا يُنَاوِشُونَ (1) الْمُسْلِمِينَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ وِجَاهَهُمْ يَحْرُسُونَ خَنْدَقَهُمْ وَيَتَطَلَّعُونَ إِلَى جَوْلَاتِ الْمُشْرِكِينَ، وَيَرْشُقُونَهُمْ (2) بِالنَّبْلِ، حَتَّى لَا يَجْتَرِئُوا عَلَى الاقْتِرَابِ مِنْهُ.
وَأَقَامُوا عَلَى ذَلِكَ بِضْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً قَرِيبًا مِنْ شَهْرٍ، لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ حَرْب إِلَّا الرَّمْيُ بِالنَّبْلِ، وَالحِصَارُ (3).
*
نَقْضُ بَنِي قُرَيْظَةَ الْعَهْدَ:
ثُمَّ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْب كَلَّمَ حُيَيَّ بْنَ أَخْطَبَ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ يَسْأَلُهُمْ أَنْ يَنْقُضُوا الْعَهْدَ الذِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَيَكُوُنوا مَعَهُمْ عَلَيْهِ، فَخَرَجَ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ حَتَّى أَتَى كَعْبَ بْنَ أَسَدٍ الْقُرَظِيَّ -سَيِّدَ بَنِي قُرَيْظَةَ- فَأَغْلَقَ كَعْبٌ عَلَى نَفْسِهِ بَابَ حِصْنِهِ، وَأَبَى أَنْ يُقَابِلَ حُيَيَّ بْنَ أَخْطَبَ، لَكِنَّ حُيَيَّ بْنَ أَخْطَبَ أَلَحَّ عَلى كَعْبِ بْنِ أَسَد وَأَخَذَ يَضْربُ عَلَى بَابِه وَيُنَاديه: وَيْحَكَ يَا كَعْبُ! افتحْ لِي، فَقَالَ كَعْبٌ: وَيْحَكَ يَا حُيَيُّ إِنَّكَ امْرُؤٌ مَشْؤُومٌ، وَإِنِّي قَدْ عَاهَدْتُ مُحَمَّدًا فَلَسْتُ بِنَاقِضٍ مَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وَلَمْ أَرَ مِنْهُ إِلَّا وَفَاءً وَصِدْقًا.
فَقَالَ حُيَيٌّ: وَيْحَكَ يَا كَعْبُ! افتحْ لِي أُكَلِّمْكَ، قَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ، فَقَالَ
(1) الْمُنَاوَشَةُ في القتالِ: تَدانِي الفَريقينِ. انظر النهاية (5/ 112).
(2)
الرَّشْقُ: الرَّمْيُ. انظر النهاية (2/ 206).
(3)
انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 283).
حُيَيٌّ: وَاللَّهِ مَا أَغْلَقْتَ الْحِصْنَ دُونِي إِلَّا تَخَوُّفَكَ مِنْ أَنْ آكُلَ مِنْ جَشِيشَتِكَ (1)، فَفَتَحَ لَهُ البَابَ، وَدَخَلَ حُيَيٌّ، فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا كُعْبُ! جِئْتُكَ بِعِزِّ الدَّهْرِ وَبِبَحْرٍ طَامٍ (2)، جِئْتُكَ بِقُرَيْشٍ عَلَى قَادَتِهَا وَسَادَتِهَا، وَبِغَطَفَانَ عَلَى قَادَتِهَا وَسَادَتِهَا، وَقَدْ عَاهَدُونِي عَلَى أَنْ لَا يَبْرَحُوا (3) حَتَّى نَسْتَأْصِلَ مُحَمَّدًا وَمَنْ مَعَهُ، فَقَالَ لَهُ كَعْبٌ: جِئتُنِي وَاللَّهِ بِذُلِّ الدَّهْرِ وَبِجَهَامٍ (4) قَدْ هَرَاقَ مَاءَهُ فَهُوْ يَرْعُدُ وَيَبْرُقُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ، وَيْحَكَ يَا حُيَيُّ فَدَعْنِي وَمَا أَنَا عَلَيْهِ، فَإِنِّي لَمْ أَرَ مِنْ مُحَمَّدٍ إِلَّا صِدْقًا وَوَفَاءً، وَاللَّهِ مَا أَكْرَهَنَا عَلَى دِينٍ، وَلَا غَصَبَنَا مَالًا، وَلَا نَنْقِمُ (5) مِنْ مُحَمَّدٍ وَعَمَلِهِ شَيْئًا، وَأَنْتَ تَدْعُو إِلَى الْهَلَكَةِ، فَنُذَكِّرُكَ اللَّهَ إِلَّا مَا أَعْفَيْتَنَا مِنْ نَفْسِكَ.
وَتَكَلَّمَ عَمْرُو بْنُ سَعْدِي الْقُرَظِيُّ فَذَكَرَ وَفَاءَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَمُعَاهَدَتَهُمْ إِيَّاهُ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ! إِنَّكُمْ قَدْ حَالفتُمْ مُحَمَّدًا عَلَى مَا قَدْ عَلِمْتُمْ أَنْ لَا تَخُونُوهُ وَلَا تَنْصُرُوا عَلَيْهِ عَدُوًّا، وَأَنْ تَنْصُرُوهُ عَلَى مَنْ دَهَمَ يَثْرِبَ، فَأَوْفُوا عَلَى مَا عَاهَدْتُمُوهُ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَخَلُّوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدُوِّهِ وَاعْتَزِلُوهُمْ.
وَلَكِنَّ حُيَيًّا مَا زَالَ بِكَعْبٍ يَفْتِلُهُ فِي الذُّرْوَةِ وَالغَارِبِ (6)، حَتَّى سَمَحَ لَهُ
(1) الجَشِيشَةُ: هي نوعٌ من أنواع الطعام: وهي أَنْ تُطْحَنَ الحِنْطَةُ طَحْنًا جَلِيلًا، ثم تُجْعَلَ في القُدورِ ويُلقى عليها لَحْمٌ أو تَمر وتُطْبَخُ. انظر النهاية (1/ 264).
(2)
طَمَا البحرُ: ارتفعَ بأمواجِهِ. انظر النهاية (3/ 126).
(3)
بَرِحَ مكانَهُ: أي زَالَ عنهُ. انظر لسان العرب (1/ 361).
(4)
الجَهَامُ: بفتح الجيم السَّحابُ الذي لا ماءَ فيهِ. انظر النهاية (1/ 311).
(5)
نَقِمَ الشَّيْءَ: أنكرَهُ. انظر لسان العرب (14/ 272).
(6)
الغَارِبُ: مُقَدَّمُ السِّنانِ وهو الرُّمْحُ، والذُّرْوَةُ: أعلاهُ، أراد أَنَّهُ ما زالَ يُخادِعُهُ ويتلطَّفُ =