الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 -
كِتَابُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم إِلَى هِرَقْلَ (1) مَلِكِ الرُّومِ
وَبَعَثَ رَسُولُ صلى الله عليه وسلم دِحْيَةَ بنَ خَلِيفَةَ الكَلْبِيَّ رضي الله عنه، إلى هِرَقْلَ مَلِكِ الرُّومِ يَدْعُوهُ إلى الإِسْلَامِ، وَكَتَبَ مَعَهُ كِتَابًا، وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إلى قَيْصَرَ، وَفِي رِوَايَةٍ: أَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إلى عَظِيِم بُصْرَى (2) وَهُوَ الحَارِثُ بنُ أَبِي شِمْرٍ (3) مَلِكُ غَسَّانَ لِيَدْفَعَهُ إِلَى هِرَقْلَ.
*
سَفَرُ هِرَقْلَ مِنَ القُسْطَنْطِينِيَّةِ إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ:
وَكَانَ هِرَقْلُ قَدْ نَذَرَ إِنْ ظَهَرَتِ (4) الرُّومُ عَلَى فَارِسٍ أَنْ يَمْشِيَ حَافِيًا مِنَ القُسْطَنْطينِيَّةِ إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ، فَلَمَّا انْتَصَرَ الرُّومُ عَلَى فَارِسٍ (5)، خَرَجَ هِرَقْلُ مِنْ بِلَادِهِ يَمْشِي عَلَى قَدَمَيْهِ شُكْرًا للَّهِ عَلَى انْتِصَارِهِمْ عَلَى فَارِسٍ لِيُصَلِّيَ فِي بَيْتِ المَقْدِسِ، فَلَمَّا انْتَهَى إلى إِيلْيَاءَ (6)، وَقَضَى فِيهَا صَلَاتَهُ وَمَعَهُ
(1) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (1/ 49): هِرَقْل هو ملك الروم، وهو بكسر الهاء وفتح الراء وسكون القاف، ولقبه قيصر، وهو لقب كل من تملك الروم.
(2)
قال الحافظ في الفتح (1/ 55): بُصرى: بضم الباء، وهي مدينة بالشام.
(3)
شِمْر: بكسر الشين وسكون الميم.
(4)
ظَهَرَتْ: أي غَلَبَتْ وانتصرت. انظر النهاية (3/ 152).
(5)
أخرج تفاصيل هذه الوقعة: الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2495)(2769) - والترمذي في جامعه - كتاب التفسير - باب ومن سورة الروم - رقم الحديث (3469)(3471) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (753) - وإسناده صحيح.
(6)
قال الحافظ في الفتح (1/ 49): إيلْيَاء: بهمزة مكسورة اسم مدينة بيت المقدس.
بَطَارِقَتُهُ (1) وَأَشْرَافُ الرُّوم، أَصْبَحَ يَوْمًا خَبِيثَ النَّفْس (2) مَهْمُومًا، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ بَطَارِقَتِهِ: قَدِ اسْتَنْكَرْنَا هَيْئَتَكَ -وَكَانَ هِرَقْلُ حَزَّاءً (3) يَنْظُرُ في النُّجُومِ- فَقَالَ لَهُمْ حِينَ سَأَلُوهُ: إِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ حِينَ نَظَرْتُ فِي النُّجُومِ مُلْكَ (4) الخَتَانِ قَدْ ظَهَرَ (5)، فَمَنْ يَخْتَتِنُ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ (6)؟
قَالُوا: لَيْسَ يَخْتَتِنُ إِلَّا اليَهُودُ فَلَا يَهُمَّنَّكَ شَأْنُهُمْ، وَاكْتُبْ إِلَى مَدَائِنِ مُلْكِكَ فَيَقْتُلُوا مَنْ فِيهِمْ مِنَ اليَهُودِ، فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى أَمْرِهِمْ أُتِيَ هِرَقْلُ بِرَجُلٍ أَرْسَلَ بِهِ مَلِكُ غَسَّانَ يُخْبِرُ عَنْ خَبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَتِ المُلُوكُ تُهَادِي الأَخْبَارَ بَيْنَهَا، فَلَمَّا اسْتَخْبَرَهُ هِرَقْلُ قَالَ: اذْهَبُوا فَانْظُرُوا أَمُخْتَتِنٌ هُوَ أَمْ لَا؟
فَنَظَرُوا إِلَيْهِ، فَحَدَّثُوهُ أَنَّهُ مُخْتَتِنٌ، وَسَأَلهُ عَنِ العَرَبِ فَقَالَ: هُمْ يَخْتَتِنُونَ؟ فَقَالَ هِرَقْلُ: هَذَا وَاللَّهِ الذِي أُرِيتُ، ثُمَّ كَتَبَ هِرَقْلُ إلى صَاحِبٍ لَهُ بِرُومِيَّةَ،
(1) البَطَارِقَة: جمع بِطْرِيقٍ بكسر الباء وسكون الطاء وكسر الراء، وهو الحَاذِقُ بالحَرْبِ وأُمُورِها بلُغَة الروم. انظر النهاية (1/ 134).
(2)
قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (1/ 60): خبيثُ النفس: أي رَدِيءُ النَّفْسِ غير طيبها، أي مهمومًا.
(3)
قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (1/ 60): حزَّاء: بفتح الحاء وبتشديد الزاي: أي كاهنًا.
(4)
قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (1/ 61): مُلْك: بضم الميم وإسكان اللام، وللكشميهني بفتح الميم وكسر اللام.
(5)
قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (1/ 61): أي غلب، يعني دَلَّه نَظَرُهُ في حُكْمِ النجوم على أن ملك الخان قد غلب، وهو كما قال؛ لأن في تلك الأيام كان ابتداء ظهور الرسول صلى الله عليه وسلم إِذْ صالَحَ كُفَّار مكة بالحديبية، وأنزل اللَّه تَعَالَى عليه:{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} ، إذ فتح مكة كان سببه نقض قريش العهد الذي كان بينهم بالحديبية.
(6)
قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (1/ 61): أي من أهل هذا العصر.
وَكَانَ نَظِيرَهُ فِي العِلْمِ، يَسْأَلُهُ عَمَّا عِنْدَهُ بِشَأْنِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم.
وَلَمْ يَلْبَثْ هِرَقْلُ أَنْ أَتَاهُ رَسُولُ عَظِيمِ بُصْرَى فَدَفَعَ إِلَيْهِ كِتَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ هِرَقْلُ لِصَاحِبِ شُرْطَتِهِ: انْظُرْ لَنَا مِنْ قَوْمِهِ -أَيْ مِنْ قَوْمِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم أَحَدًا نَسْأَلُهُ عَنْهُ، وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ بنُ حَرْبٍ بِالشَّامِ مَعَ رِجَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ فِي تِجَارَةٍ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي رَكْبٍ (1) مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَانُوا تُجَّارًا بِالشَّامِ فِي المُدَّةِ (2) التِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَادَّ فِيهَا أَبَا سُفْيَانَ وَكُفَّارَ قُرَيْشٍ، فَأَتَوْهُ وَهُمْ بِإِيلْيَاءَ، فَأُدْخِلْنَا عَلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ فِي مَجْلِسِ مُلْكِهِ، عَلَيْهِ التَّاجُ، وَإِذَا حَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ، ثُمَّ دَعَا بِتَرْجُمَانِهِ، فَقَالَ لَهُ: سَلْهُمْ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا بِهَذَا الرَّجُلِ الذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ؟
فَقَالَ أَبُو سُفْيَانُ: أَنَا أَقْرَبُهُمْ إِلَيْهِ نَسَبًا، قَالَ: مَا قَرَابَتُكَ مِنْهُ؟
قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: هُوَ ابْنُ عَمِّي، قَالَ: وَلَيْسَ فِي الرَّكْبِ يَوْمَئِذٍ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ (3) غَيْرِي.
(1) الرَّكْبُ: اسم من أسماءِ الجمع، وهو من العشرة فما فوقها. انظر النهاية (2/ 233) - فتح الباري (1/ 49).
(2)
يعني مُدَّة الصلح بالحديبية، وكانت مدَّتها عشر سنين، كما تقدم.
(3)
قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (1/ 50): وعبدُ مَنَافٍ الأبُ الرابع للنبي صلى الله عليه وسلم وكذا لأبي سفيان، وأطلَقَ عليه ابن عَمٍّ؛ لأنه نزل كلا منهما منزلة جدّه، . . . وإنما خَصّ هرقل الأقرب لأنَّه أحْرَى بالإطلاع على أُمُورِه ظاهرًا وباطنًا أكثر من غيره؛ ولأن الأبْعَدَ لا يُؤْمَنُ أن يَقْدَحَ في نسبه بخلاف الأقرب.
فَقَالَ هِرَقْلُ: أَدْنُوهُ مِنِّي، ثُمَّ أَمَرَ بِأَصْحَابِي، فَجُعِلُوا خَلْفَ ظَهْرِي عِنْدَ كَتِفِي، ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لِأَصْحَابِهِ إِنِّي سَائِلٌ هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ الذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، فَإِنْ كَذَبَنِي، فكَذِّبُوهُ.
قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَوَاللَّهِ لَوْلَا الحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثُرَ أَصْحَابِي عَنِّيَ الكَذِبَ لَكَذَبْتُهُ حِينَ سَأَلَنِي، وَلَكِنِّي اسْتَحْيَيْتُ أَنْ يَأْثُرُوا الكَذِبَ عَنِّي، فَصَدَقْتُهُ.
ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُ كَيْفَ نَسَبُ هَذَا الرَّجُلِ فِيكُمْ؟
قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ.
قَال هِرَقْلُ: فَهَلْ قَالَ هَذَا القَوْلَ مِنْكُمْ أَحَدٌ قَطُّ قَبْلَهُ؟
قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَقُلْتُ: لَا.
قَالَ هِرَقْلُ: فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟
قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: قُلْتُ: لَا.
قَالَ هِرَقْلُ: فَأَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟
قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: قُلْتُ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ.
قَالَ هِرَقْلُ: أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟
قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: قُلْتُ: بَلْ يَزِيدُونَ.
قَالَ هِرَقْلُ: فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً (1) لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟
(1) قال الإِمام النووي في شرح مسلم (12/ 89): سَخْطَة: بفتح السين، والسخط: كراهية الشيء وعدم الرضى به.
قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: قُلْتُ: لَا.
قَالَ هِرَقْلُ: فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟
قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: قُلْتُ: لَا.
قَالَ هِرَقْلُ: فَهَلْ يَغْدِرُ (1)؟
قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لَا، وَنَحْنُ الآنَ مِنْهُ فِي مدَّةٍ لَا نَدْرِي مَا هُوَ فَاعِلٌ فِيهَا.
قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: وَلَمْ تُمْكِنِّي كَلِمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا أَنْتَقِصُهُ بِهِ غَيْرَ هَذِهِ الكَلِمَةِ.
قَالَ هِرَقْلُ: فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟
قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: قُلْتُ: نَعَمْ.
قَالَ هِرَقْلُ: فكَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ؟
قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: قُلْتُ: الحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالٌ (2)، يَنَالُ مِنَّا وَنَنَالُ مِنْهُ.
قَالَ هِرَقْلُ: مَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟
قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: قُلْتُ: يَأْمُرُنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَيَنْهَانَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا، ويَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ، وَالصِّدْقِ (3)، وَالعَفَافِ، وَالصِّلَةِ.
(1) قال الإِمام النووي في شرح مسلم (12/ 89): يَغْدِرُ: بكسر الدال، وهو ترك الوفاء بالعهد.
(2)
سِجَالٌ: بكسر السين: أي مرة لنا ومرة علينا. انظر النهاية (2/ 310).
(3)
في رواية أخرى في صحيح البخاري - رقم الحديث (2940): قال الصَّدقة، بدل الصدق.
فَقَالَ هِرَقْلُ لِلتَّرْجُمَانِ: قُلْ لَهُ: سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ (1) قَوْمِهَا.
وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَالَ هَذَا القَوْلَ مِنْكُمْ أَحَدٌ قَطُّ قَبْلَهُ؟ فَذَكَرْتَ: أَنْ لَا، فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ أَحَدٌ قَالَ هَذَا القَوْلَ قَبْلَهُ لقلْتُ رَجُلٌ يَأْتَسِي بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ.
وَسَأَلْتُكَ: هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ فَذَكَرْتَ: أَنْ لَا، فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ قُلْتُ: رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ أَبِيهِ.
وَسَأَلْتُكَ: هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ فَذَكَرْتَ: أَنْ لَا، فَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الكَذِبَ عَلَى النَّاسِ، وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ.
وَسَأَلْتُكَ: أَشْرَافُ النَّاسِ يَتْبَعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمُ اتَّبَعُوهُ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ.
وَسَأَلْتُكَ: أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ فَذَكَرْتَ: أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ، وَكَذَلِكَ أَمْرُ الإِيمَانِ حَتَّى يَتِمَّ.
وَسَأَلْتُكَ: هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ فَذَكَرْتَ: أَنْ لَا، وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ (2) حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ القُلُوبَ.
(1) قال الإِمام النووي في شرح مسلم (12/ 90): يعني في أفضل أنسابهم وأشرفها.
(2)
قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (1/ 53): أي أمر الإيمان؛ لأنه يظهر نُورًا، ثم لا يزال في زيادة حتى يتم بالأمور المعتبرة فيه من صلاة وزكاة وصيام وغيرها، ولهذا نزلت في آخر سِنِيِّ النبي صلى الله عليه وسلم قوله تَعَالَى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} سورة المائدة آية (3).
وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَغْدِرُ؟ فَذَكَرْتَ: أَنْ لَا، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لَا تَغْدِرُ.
وَسَأَلْتُكَ: هَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّكُمْ قَدْ قَاتَلْتُمُوهُ، وَأَنَّ الحَرْبَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ سِجَالٌ، يَنَالُ مِنْكُمْ وَتَنَالُونَ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى ثُمَّ تَكُونُ لَهُمُ العَاقِبَةُ.
وَسَأَلْتُكَ: بِمَ يَأْمُرُكُمْ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّه وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَيَنْهَاكُمْ عَنْ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلَاةِ وَالصِّدْقِ وَالعَفَافِ.
فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ، وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارجٌ، وَلَمْ أَكُنْ أَظُنُّهُ أَنَّهُ مِنْكُمْ، فَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ (1) لِقَاءَهُ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمَيْهِ، وَلَيَبْلُغَنَّ مُلْكُهُ مَا تَحْتَ قَدَمَيَّ.
ثُمَّ دَعَا هِرَقْلُ بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الذِي بَعَثَ بِهِ دِحْيَةُ إلى عَظِيمِ بُصْرَى، فَدَفَعَهُ إلى هِرَقْلَ فَقَرَأَهُ فَإِذَا فِيهِ:
"بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ. سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى، أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإِسْلَامِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ يُؤْتكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ. فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمُ الأَرِيسِيِّينَ (2) و {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ
(1) تجشَّمت: تكلَّفت. انظر النهاية (1/ 265).
(2)
قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (1/ 57): الأرِيسِيِّين: جمع أَرِيسي: أي الفلاحين والزراعين.
وفي رواية ابن إسحاق في السيرة قال: الأكَّارِين: يعني الفَلَّاحين والزراعين.
شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (1).
فَلَمَّا قُرِئَ كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى هِرَقْلَ اهْتَزَّ وَتَأَثَّرَ.
قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَلَمَّا قَالَ مَا قَالَ، وَفَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الكِتَابِ، كَثُرَ عِنْدَهُ الصَّخَبُ (2)، وَارْتَفَعَتِ الأَصوَاتُ، وَأُخْرِجْنَا، فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي حِينَ أُخْرِجْنَا: لَقَدْ أمِرَ (3) أمْرُ ابنُ أَبِي كَبْشَةَ (4)، إِنَّهُ يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الأَصْفرِ، فَمَا زِلتُ مُوقِنًا أَنَّهُ سَيَظْهَرُ حَتَّى أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيَّ الإِسْلَامَ.
وَسَارَ هِرَقْلُ إلى حِمْصَ (5)، فَلَمْ يَرِمْ (6) حِمْصَ حَتَّى أَتَاهُ كِتَابٌ مِنْ صَاحِبِ رُومِيَّه، الذِي كَانَ قَدْ كتَبَ إِلَيْهِ بِشَأْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، يُوَافِقُ رَأْيَهُ عَلَى
(1) سورة آل عمران آية (64).
(2)
الصَّخَبُ: الضَّجَّة، واضطراب الأصوات للخصام. انظر النهاية (3/ 14).
وفي رواية الإِمام مسلم في صحيحه - رقم الحديث (1773): اللَّغَطُ: وهو بفتح الغين، وهي الأصوات المختلفة.
(3)
قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (1/ 58): أَمِرَ: بفتح الهمزة وكسر الميم: أي عَظُم.
(4)
قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (1/ 58): المقصود بأبي كبشة: هو والد الرسول صلى الله عليه وسلم من الرضاعة وهو الحارث بن عبد العزى السَّعْدِيُّ زوج حليمة السعدية.
(5)
قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (1/ 63): كانت حِمْصُ دار مُلْكِهِ، وكانت في زمانهم أعظم من دمشق، وكان فتحها على يَدِ أبي عبيدة بن الجرَّاح رضي الله عنه سنة ست عشرة للهجرة بعد هذه القصة بعشر سنين.
(6)
قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (1/ 62): يَرِم: بفتح الياء وكسر الراء: أي لم يَصِلْ إلى حمص.
خُرُوجِ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم وَأَنَّهُ نَبِيٌّ، فَأَذِنَ (1) هِرَقْلُ لِعُظَمَاءِ الرُّومِ في دَسْكَرَهٍ (2) لَهُ بِحِمْصَ، ثُمَّ أَمَرَ بِأَبْوَابِهَا فَغُلِّقَتْ، ثُمَّ اطَّلَعَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الرُّومِ، هَلْ لَكُمْ فِي الفَلَاحِ وَالرُّشْدِ وَأَنْ يَثْبُتَ مُلْكُكُمْ فَتُبَايِعُوا هَذَا النَّبِيَّ؟ فَحَاصُوا (3) حَيْصَةَ حُمُرِ الوَحْشِ إِلَى الأَبْوَابِ فَوَجَدُوهَا قَدْ غُلِّقَتْ، فَلَمَّا رَأَى هِرَقْلُ نَفْرَتَهُمْ وَأَيِسَ مِنْ إِسْلَامِهِمْ، وَخَافَهُمْ عَلَى نَفْسِهِ وَمُلْكِهِ، قَالَ: رُدُّوهُمْ عَلَيَّ، فَقَالَ: إِنِّي قُلْتُ مَقَالَتِي آنِفًا أَخْتَبِرُ بِهَا شِدَّتَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ، فَقَدْ رَأَيْتُ مِنْكُمُ الذِي أُحِبُّ، فَسَجَدُوا لَهُ وَرَضُوا عَنْهُ (4).
ثُمَّ إِنَّ هِرَقْلَ أَكْرَمَ دِحْيَةَ الكَلْبِيَّ رضي الله عنه وَقَال لَهُ قُلْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنِّي
(1) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (1/ 63): فأذِنَ: أي أعلم.
(2)
قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (1/ 63): الدَّسْكَرة: بفتح الدال وبسكون السين: القَصْرُ الذي حَوْلَه بُيُوت، وكأنه دخل القصر ثم أغلقه وفتح أبواب البيوت التي حوله وأَذِنَ للروم في دخولها، ثم أغْلَقَهَا ثم طلع عليهم فخاطبهم، وإنما فعل ذلك خشْيَةَ أن يَثِبُوا عليه فيقتلوه.
(3)
قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (1/ 63): حاصُوا: أي نفروا، وشبَّههم بالوحوش؛ لأن نفْرَتَهَا أشَدُّ من نفرة البهائم الإنسِيَّة، وشبههم بالحمر دون غيرها من الوحوش لمُنَاسَبَةِ الجهل وعدم الفِطْنَةِ، بل هم أضَلّ.
(4)
أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب بدء الوحي - رقم الحديث (7) - وأخرجه في كتاب الجهاد والسير - باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلى الإِسلام. . . - رقم الحديث (2940)(2941) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل - رقم الحديث (1773) - وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2370) - وأخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب التاريخ - باب ذكر وصف كتب النبي صلى الله عليه وسلم رقم الحديث (6555).
مُسْلِمٌ، فَقَدْ أَخْرَجَ ابنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: . . . ثُمَّ قَالَ هِرَقْلُ لِرَسُولِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قَدْ تَرَى أَنِّي خَائِفٌ عَلَى مَمْلَكَتِي، وَكتَبَ إلى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنِّي مُسْلِمٌ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ بِدَنَانِيرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَرَأَ الكِتَابَ:"كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ، لَيْسَ بِمُسْلِمٍ، وَهُوَ عَلَى النَّصْرَانِيَّةِ"، ثُمَّ قَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الدَّنَانِيرَ (1).
قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: وَمِمَّا يُقَوِّي أَنَّ هِرَقْلَ آثَرَ مُلْكَهُ عَلَى الإِيمَانِ وَاسْتَمَرَّ عَلَى الضَّلَالِ أَنَّهُ حَارَبَ المُسْلِمِينَ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ سَنَةَ ثَمَانٍ بَعْدَ هَذِهِ القِصَّةِ (2).
3 -
كِتَابُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم إِلَى كِسْرَى (3) مَلِكِ الفُرْسِ
وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَبْدَ اللَّهِ بنَ حُذَافَةَ السَّهْمِيَّ (4) رضي الله عنه، إِلَى كِسْرَى بنِ هُرْمُزَ مَلِكِ الفُرْسِ يَدْعُوهُ إِلَى الإِسْلَامِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إلى عَظِيمِ البَحْرَيْنِ المُنْذِرِ بنِ سَاوَى (5)، لِيَدْفَعَهُ عَظِيمُ البَحْرَيْنِ إِلَى كِسْرَى، وَهَذا نَصُّ الكِتَابِ:
(1) أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب السير - باب ذكر الإباحة للإمام قبول الهدايا من المشركين - رقم الحديث (4504).
(2)
انظر فتح الباري (1/ 55).
(3)
قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (8/ 470): كسرى: بفتح الكاف وبكسرها لَقَبُ كل من تملَّك الفرس، وكسرى هذا هو ابن بروِيز بن هُرْمُز بن أنُوشَرْوَان، وهو كسرى الكبير المشهور.
(4)
قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (8/ 470): هذا هو المعتمد، وقد أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر - رقم الحديث (4424).
(5)
قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (210/ 1): ساوى بفتح السين وفتح الواو.
"بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. مِنْ مُحَمَّدٍ رَسولِ اللَّهِ إلى كِسْرَى عَظِيمِ فَارِسَ، سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى، وَآمَنَ بِاللَّهِ وَرَسولِهِ، وَشَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورَسولُهُ، وَأَدْعُوكَ بِدُعَاءِ اللَّهِ، فَإِنِّي رَسولُ اللَّهِ إلى النَّاسِ كَافَّةً لِأُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ القَوْلُ عَلَى الكَافِرِينَ، فَأَسْلِمْ تَسْلَمْ، فَإِنْ أَبَيْتَ، فَإِنَّ إِثْمَ المَجُوسِ عَلَيْكَ"(1).
فَلَمَّا قُرِئَ الكِتَابُ عَلَى كِسْرَى أَخَذَهُ فَمَزَّقَهُ، وَقَالَ: يَكْتُبُ إِلَيَّ هَذَا وَهُوَ عَبْدِي! فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَعَا عَلَيْهِمْ أَنْ يُمَزَّقُوا كُلَّ مُمَزَّقٍ (2).
ثُمَّ كَتَبَ كِسْرَى إِلَى بَاذَانَ عَامِلِهِ بِاليَمَنِ أَنِ ابْعَثْ مِنْ عِنْدِكَ رَجُلَيْنِ جَلْدَيْنِ (3) إلى هَذَا الرَّجُلِ الذِي بِالحِجَازِ، فَلْيَأْتِيَانِي بِهِ، فَبَعَثَ بَاذَانُ قَهْرَمَانَهُ (4)، وَرَجُلًا آخَرَ، وَكَتَبَ مَعَهُمَا كِتَابًا، فَقَدِمَا المَدِينَةَ، فَدَفَعَا كِتَابِ بَاذَانَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَدَعَاهُمَا إلى الإِسْلَامِ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ صلى الله عليه وسلم:
(1) أورد نصَّ كتاب رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلى كسرى: ابن جرير الطبري في تاريخه (2/ 133) - وحسنه الألباني في تعليقه على فقه السيرة للغزالي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ص 358.
(2)
أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر - رقم الحديث (4424) والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2184).
(3)
الجَلَدُ: القَوِيُّ في نفسه وجسْمِهِ. انظر النهاية (1/ 275).
(4)
القَهْرَمَانُ: بفتح القاف هو كالخازن والوكيل والحافظ لما تحْتَ يده، والقائمُ بأمورِ الرَّجل، بلغة الفرس. انظر النهاية (4/ 113).
روى الإِمام البخاري في صحيحه - كتاب الوكالة - باب وكالة الشاهد والغائب جائزة - قال: وكتب عبد اللَّه بن عمرو إلى قهرمانه وهو غائب عنه أن يزكي عن أهله -أي زكاة الفطر- الصغير والكبير.