الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سَرِيَّةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَتِيكٍ رضي الله عنه لِقَتْلِ سَلَّامِ (1) بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ (2)
وَكَانَتَ هَذِهِ السَّرِيَّةُ التِي بَعَثَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِقَتْلِ سَلَّامِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ بَعْدَ الْخَنْدَقِ فِي رَمَضَانَ مِنَ السَّنَةِ السَّادِسَةِ لِلْهِجْرَةِ (3).
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّهَا قَبْلَ الْخَنْدَقِ فَمَرْدُودٌ؛ لِأَنَّ سَلَّامَ بْنَ أَبِي الْحُقَيْقِ كَانَ مِمَّنْ أَلَّبَ (4) الْأَحْزَابَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
*
تَفَاصِيلُ الْحَادِثَةِ:
كَانَ أَبُو رَافِعٍ سَلَّامُ بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ مِمَّنْ أَلَّبَ الْأَحْزَابَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَعَانَهُمْ بِالْمُؤْنَةِ وَالْمَالِ الْكَثِيرِ، وَكَانَ يُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا انْقَضَى شَأْنُ الْأَحْزَابِ وَأَمْرُ بَنِي قُرَيْظَةَ، اسْتَأْذَنتِ الْخَزْرَجُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي قَتْلِ سَلَّامِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ.
وَكَانَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ قَبَّحَهُ اللَّهُ قُتِلَ عَلَى أَيْدِي رِجَالٍ مِنَ الْأَوْسِ -كَمَا
(1) قال الحافظ في الفتح (8/ 83): سَلَّام: بفتح السين وتشديد اللام.
(2)
قال الحافظ في الفتح (8/ 83): الحُقَيْقُ: بضم الحاء مصغرًا.
(3)
هذا قول ابن سعد في طبقاته (2/ 295)، وهو الذي نَمِيلُ إليه، وجعلها ابن إسحاق في السيرة (3/ 300) بعد الخندق لكن لم يحدد لها تاريخًا.
(4)
أَلَّبَ: جَمَعَ. انظر النهاية (1/ 61).
ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ- فَأَرَادَتِ الْخَزْرَجُ أَنْ لَا يَكُونَ لِلْأَوْسِ فَضْلٌ عَلَيْهِمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَسْرَعُوا إِلَى هَذَا الِاسْتِئْذَانِ، فَأَذِنَ لَهُمْ.
رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: وَكَانَ مِمَّا صَنَعَ اللَّهُ بِهِ لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ هَذَيْنِ الْحَيَّيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ كَانَا يَتَصَاوَلانِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَصَاوُل الْفَحْليْنِ (1)، لا يَضَعُ الْأَوْسُ شيْئًا فِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَنَاءً (2) إِلَّا قَالَتِ الْخَزْرَجُ: وَاللَّهِ لَا تَذْهَبُونَ بِهَذِهِ فَضْلًا عَلَيْنَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْإِسْلَامِ، قَالَ: فَلَا يَنتهُونَ حَتَّى يُوقِعُوا مِثْلَهَا، وَإِذَا فَعَلَتِ الْخَزْرَجُ شَيْئًا قَالَتِ الْأَوْسُ مِثْلَ ذَلِكَ (3).
فَخَرَجَ سِتَّةُ رِجَالٍ مِنَ الْخَزْرَجِ لِقَتْلِ سَلَّامِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ، وَهُمْ: عَبْدُ اللَّهِ
(1) أي لا يفعل أحدهما معه شيئًا إلا فعل الآخر معه شيئًا مثله. انظر النهاية (3/ 57).
(2)
الغَنَاءُ: النَّفْعُ والكِفَايَةُ. انظر لسان العرب (10/ 137).
(3)
انظر سيرة ابن هشام (3/ 300).
قلت: بلغَ التفاخرُ والتنافُسُ بين الأوس والخزرج رضي الله عنهم إلى مرضاة اللَّه ورسوله صلى الله عليه وسلم مبلغًا عَظِيمًا فقد أخرج الطحاوي في شرح مشكل الآثار (10/ 374) - والحاكم في المستدرك - رقم الحديث (7060) - بسند صحيح على شرط مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: افتَخَرَ الحيَّان: الأوس والخزرج، فقالت الأوس: منَّا من اهْتَزَّ لموتهِ عرشُ الرحمن سعدُ بن معاذ، ومنَّا من حَمَتْهُ الدَّبر عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، ومنا من غَسَّلَتْهُ الملائكة حَنْظَلةُ بن أبي عامِرٍ الرَّاهب، ومنا من أُجِيزَتْ شهادته بشهادة رجلين خُزَيْمَة بن ثابت.
فقال الخزرجيون: منَّا أربعة جَمَعُوا القرآن لم يجمعه غيرهم: أُبَيّ بن كعب، ومُعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد.
بْنُ عَتِيكٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُتْبَةَ، وَمَسْعُودُ بْنُ سِنَانٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ، وَأَبُو قتَادَةَ، وَخُزَاعِيُّ بْنُ أَسْوَدَ، رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ.
وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَتِيكٍ، وَنَهَاهُمْ أَنْ يَقْتُلُوا وَلِيدًا أَوِ امْرَأَةً، فَخَرَجُوا حَتَّى إِذَا قَدِمُوا خَيْبَرَ أَتَوْا حِصْنَ أَبِي رَافِعٍ، فَلَمَّا دَنَوْا (1) مِنْهُ، وَقَدْ غَرَبَتِ الشَّمْسُ وَرَاحَ النَّاسُ بِسَرْحِهِمْ (2)، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَتِيكٍ رضي الله عنه لِأَصحَابِهِ: اجْلِسُوا مَكَانَكُمْ، فَإِنِّي مُنْطَلِق وَمُتَلَطِّفٌ لِلْبَوَّابِ لَعَلِّي أَنْ أَدْخُلَ (3)، فَأَقْبَلَ حَتَّى دَنَا مِنَ الْبَابِ ثُمَّ تَقَنَعِّ (4) بِثَوْبِهِ كَأَنَّهُ يَقْضِي حَاجَةً، وَقَدْ دَخَلَ النَّاسُ، فَهَتَفَ بِهِ الْبَوَّابُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ! إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ أَنْ تَدْخُلَ فَادْخُلِ فِإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُغْلِقَ الْبَابَ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَدَخَلْتُ فكَمَنْتُ (5)، فَلَمَّا دَخَلَ النَّاسُ أَغْلَقَ الْبَابَ، ثُمَّ عَلَّقَ الْأَغَالِيقَ (6) عَلَى وَتَدٍ، قَالَ: فَقُصْتُ إِلَى الْأَقَالِيدِ (7) فَأَخَذْتُهَا فَفَتَحْتُ الْبَابَ، وَكَانَ أَبُو رَافِعٍ يُسْمَرُ (8) عِنْدَهُ.
(1) دَنَا: أي اقْتَرَبَ. انظر النهاية (2/ 128).
(2)
السَّرْحُ: الْإِبِلُ. انظر النهاية (2/ 322).
(3)
في رواية ابن سعد في طبقاته (2/ 295) قال: وقَدّموا عبد اللَّه بن عَتِيك؛ لأنه كان يَرْطن باليهودية.
(4)
تَقَنَّع: تَغَطَّي. انظر النهاية (4/ 100).
(5)
كَمَنَ: اسْتَخْفَى واسْتَتَرَ. انظر النهاية (4/ 174).
(6)
الْأَغَالِيقُ: الْمَفَاتِيحُ. انظر النهاية (3/ 341).
(7)
الْأَقَالِيدُ: جمع إِقْلِيدٍ وهو الْمِفْتاحُ. انظر فتح الباري (8/ 85).
(8)
يُسْمَرُ عنده: أي يَتحدثُونَ لَيْلًا. انظر النهاية (2/ 359).
وَكَانَ فِي عَلَالِيَ (1) لَهُ، فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْهُ أَهْلُ سَمَرِهِ صَعِدْتُ إِلَيْهِ، فَجَعَلْتُ كُلَّمَا فتَحْتُ بَابًا أَغْلَقْتُ عَلَيَّ مِنْ دَاخِلٍ، فَقُلْتُ: إِنِ الْقَوْمُ نَذِرُوا (2) بِي لَمْ يَخْلُصُوا إِلَيَّ حَتَّى أَقْتُلَهُ، فَانَتَهَيْتُ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ فِي بَيْتٍ مُظْلِمٍ قَدْ طُفِئَ سِرَاجُهُ وَسَطَ عِيَالِهِ لَا أَدْرِي أَيْنَ هُوَ مِنَ الْبَيْتِ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا رَافِعٍ! قَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَأَهْوَيْتُ (3) نَحْوَ الصَّوْتِ (4) فَضَرَبْتُهُ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ وَأَنَا دَهِشٌ (5)، فَمَا أَغْنَتْ شَيْئًا، وَصَاحَ، فَخَرَجْتُ مِنَ الْبَيْتِ فَمَكَثْتُ غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ دَخَلْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ: مَا هَذَا الصَّوْتُ يَا أَبَا رَافِعٍ (6)؟
فَقَالَ: لِأُمِّكَ الْوَيْلُ، إِنَّ رَجُلًا فِي الْبَيْتِ ضَرَبَنِي قَبلُ بِالسَّيْفِ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَضَرَبْتُهُ ضَرْبَةً أَثْخَنَتْهُ (7) ولمْ أَقْتُلْهُ، ثُمَّ وَضَعْتُ ضَبِيبَ السَّيْفِ (8) فِي بَطْنِهِ حَتَّى أَخَذَ فِي ظَهْرِهِ، فَعَرَفْتُ أَنِّي قتَلْتُهُ، فَجَعَلْتُ أَفتحُ الْأَبْوَابَ بَابًا بَابًا حَتَّى
(1) عَلَالِي: جَمْعُ عُلِيَّةٍ، وهي بضم العين وكسرها وبتشديد الياء وهي الغُرْفَةُ. انظر النهاية (3/ 267).
(2)
نَذِرُوا بكسر الذال: أي عَلِمُوا. انظر النهاية (5/ 33).
(3)
هَوَيْتُ: قَصَدْتُ. انظر لسان العرب (15/ 167).
(4)
في رواية أخرى في صحيح البخاري رقم الحديث (4040) قال رضي الله عنه: فعمدت نحو الصوت.
(5)
دَهِشَ: بكسر الهاء ذهل. انظر لسان العرب (4/ 427).
(6)
في رواية أخرى في صحيح البخاري - رقم الحديث (4040): قال عبد اللَّه رضي الله عنه: ثم جئت كأني أغيثة، فقلت مالك؟ وغيرت صوتي.
(7)
الْإِثْخَانُ في الشيء: الْمبَالَغَةُ فيه، يُقال: أَثْخَنَهُ المرضُ: إذا أَثْقَلَهُ ووَهَنَهُ. انظر النهاية (1/ 203).
(8)
ضَبِيبُ السَّيْفِ: طَرَفُ السيفِ. انظر فتح الباري (8/ 86).