الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عَيْنِي مِنْهُ، وَمَا كُنْتُ أُطِيقُ أَنْ أَمْلَأَ عَيْنِي مِنْهُ إِجْلَالًا لَهُ، وَلَوْ سُئِلْتُ أَنْ أَصِفَهُ مَا أَطَقْتُ؛ لِأنَي لَمْ أَكُنْ أَمْلَأُ عَيْنِي مِنْهُ، وَلَوْ مُتُّ عَلَى تِلْكَ الحَالِ لَرَجَوْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، ثُمَّ وَلينَا أَشْيَاءَ مَا أَدْرِي مَا حَالِي فِيهَا، فَإِذَا أَنَا مُتُّ، فَلَا تَصْحَبْنِي نَائِحَةٌ وَلَا نَارٌ، فَإِذَا دَفَنْتُمُونِي فَشُنُّوا (1) عَلَيَّ التُّرَابَ شَنًّا، ثُمَّ أَقِيمُوا حَوْلَ قَبْرِي قَدْرَ مَا تُنْحَرُ جَزُورٌ (2)، وَيُقْسَمُ لَحْمُهَا، حَتَّى أَسْتَأْنِسَ بِكُمْ، وَأَنْظُرَ مَاذَا أُرَاجعُ بِهِ رُسُلَ رَبَي (3).
*
قِصَّةُ إِسْلَامِ خَالِدِ بنِ الوَلِيدِ رضي الله عنه
-:
وَأَمَّا خَالِدُ بنُ الوَليدِ للَّه، فَقَدْ أَخْرَجَ قِصَّةَ إِسْلَامِهِ البَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ، قَالَ خَالِدٌ رضي الله عنه وَهُوَ يتحَدَّثُ عَنْ قِصَّةِ إِسْلَامِهِ: لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ عز وجل مَا أَرَادَ بِي مِنَ الخَيْرِ، قَذَفَ فِي قَلْبِي الإِسْلَامَ، وَحَضَرَنِي رُشْدِي، وَقُلْتُ: قَدْ شَهِدْتُ هَذِهِ المَوَاطِنَ كُلَّهَا عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فَلَيْسَ مَوْطِنٌ أَشْهَدُهُ إِلَّا أَنْصَرِفُ وَأَنا أَرَى فِي نَفْسِي أني مُوضِعٌ فِي غَيْرِ شَيْءٍ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم سَيَظْهَرُ، فَلَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الحُدَيْبِيَةِ، خَرَجْتُ فِي خَيْلِ المُشْرِكِينَ، فَلَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَصْحَابِهِ بِعُسْفَانَ، فَقُمْتُ بِإِزَائِهِ، وَتَعَرَّضْتُ له، فَصلَّى بِأَصْحَابِهِ
(1) الشنُّ: الصَبُّ المتقطع. انظر النهاية (2/ 453).
(2)
الجَزُور: البَعِيرُ ذكرًا كان أو أنثى. انظر النهاية (1/ 258).
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب كون الإسلام يهدم ما قبله - رقم الحديث (121).
الظُّهْرَ أَمَامَنَا، فَهَمَمْنَا أَنْ نُغِيرَ عَلَيْهِ، ثُمَّ لَمْ يُعْزَمْ لَنَا، وَكَانَتْ فِيهِ خِيرَةٌ، فَأُطْلِعَ عَلَى مَا فِي أَنْفُسِنَا مِنَ الهُمُومِ، فَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ العَصْرِ صَلَاةَ الخَوْفِ، فَوَقَعَ ذَلِكَ مِنَّا مَوْقِعًا، وَقُلْتُ: الرَّجُلُ مَمْنُوعٌ، فَافْتَرَقْنَا، وَأَخَذْتُ ذَاتَ اليَمِينِ، فَلَمَّا صَالَحَ قُرَيْشًا بِالحُدَيْبِيَةِ، قُلْتُ فِي نَفْسِي: أَيُّ شَيْءٍ بَقِيَ؟ أَيْنَ المَذْهَبُ إِلَى النَّجَاشِيِّ، فَقَدْ اتَّبَعَ مُحَمَّدًا، وَأَصْحَابُهُ عِنْدَهُ آمِنُونَ، فَأَخْرُجُ إِلَى هِرَقْلَ، فَأَخْرُجُ مِنْ دِيني إِلَى نَصْرَانِيَّةٍ أَوْ يَهُودِيَّةٍ، فَأُقِيمُ مَعَ عَجَمٍ تَابعٍ مَعَ عَيْبِ ذَلِكَ، أَوْ أُقِيمُ فِي دَارِي فِيمَنْ بَقِيَ.
فَأَنَا عَلَى ذَلِكَ إِذْ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي عُمْرَةِ القَضِيَّةِ، فتَغَيَّبْتُ، وَلَمْ أَشْهَدْ دُخُوله، فَكَانَ أَخِي الوَلِيدُ (1) قَدْ دَخَلَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي عُمْرَةِ القَضِيَّةِ، فَطَلَبَنِي فَلَمْ يَجِدْنِي، وَكتَبَ إِلَيَّ كِتَابًا فَإِذَا فِيهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَمَّا بَعْدُ:
فَإنِّي لَمْ أَرَ أَعْجَبَ مِنْ ذَهَابِ رَأْيِكَ عَنِ الإِسْلَامِ وَعَقْلُكَ عَقَلَكَ، وَمِثْلُ الإِسْلَامِ يَجْهَلُهُ أَحَدٌ؟ قَدْ سَأَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْكَ، فَقَالَ:"أَيْنَ خَالِدٌ؟ "، فَقُلْتُ: يَأْتِي اللَّهُ بِهِ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:"مَا مِثْله يَجْهَلُ الإِسْلَامَ، وَلَوْ كَانَ جَعَلَ نِكَايَتَهُ وَجِدَّهُ المُسْلِمِينَ عَلَى المُشْرِكِينَ كَانَ خَيْرًا لَهُ، وَلقدَّمْنَاهُ عَلَى غَيْرِهِ"، فَاسْتَدْرِكْ
(1) أسلمَ الوليدُ رضي الله عنه قبلَ أخِيهِ خالد رضي الله عنه، ولما أسلم حبسه أخواله، فكان رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يدعو له في القُنُوتِ، ثبت ذلك في صحيح البخاري - رقم الحديث (6200) - ومسلم في صحيحه - رقم الحديث (675) - ثم أفلت رضي الله عنه من أسرهم، ولحق بالرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة وشهد معه عمرة القضية. انظر الإصابة (6/ 484).
يَا أَخِي مَا قَدْ فَاتَكَ، وَقَدْ فَاتَتْكَ مَوَاطِنُ صَالِحَةٌ.
قَالَ خَالِدٌ: فَلَمَّا جَاءَنِي كِتَابُهُ نَشَطْتُ لِلْخُرُوجِ، وَزَادَنِي رَغْبَةً فِي الإِسْلَامِ وَسُّرِّيَ (1) عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَرَأَيْتُ فِي النَّوْمِ كَأَنِّي فِي بِلَادٍ ضَيِّقَة جَدْبَةٍ، فَخَرَجْتُ إِلَى بِلَادٍ خَضْرَاءَ وَاسِعَةٍ، فَقُلْتُ: إِنَّ هَذِهِ لَرُؤْيَا، فَلَمَّا قَدِمْنَا المَدِينَةَ، قُلْتُ لَأَذْكُرَنَّهَا لِأَبِي بَكْرٍ (2) فَذَكَرْتُهَا، فَقَالَ: هُوَ مَخْرَجُكَ الذِي هَدَاكَ اللَّهُ لِلْإِسْلَامِ، وَالضِّيقُ الذِي كُنْتَ فِيهِ الشِّرْكُ.
فَلَمَّا أَجْمَعْتُ الخُرُوجَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قُلْتُ مَنْ أُصَاحِبُ إِلَى مُحَمَّدٍ؟ ، فَلَقِيتُ صَفْوَانَ بنَ أُمَيَّةَ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا وَهْبٍ، أَمَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ، وَقَدْ ظَهَرَ مُحَمَّدٌ عَلَى العَرَبِ وَالعَجَمِ، فَلَوْ قَدِمْنَا عَلَى مُحَمَّدٍ فَاتَّبَعْنَاهُ، فَإِنَّ شَرَفَ مُحَمَّدٍ لَنَا شَرَفٌ، فَأَبَى أَشَدَّ الإِبَاءِ، وَقَالَ لِي: لَوْ لَمْ يبقَ غَيْرِي مَا اتَّبعْتُهُ أَبَدًا. فَافْتَرَقْنَا، وَقُلْتُ: هَذَا رَجُلٌ قُتِلَ أَخُوهُ وَأَبُوهُ بِبَدْرٍ، فَلَقِيتُ عِكْرِمَةَ بنَ أَبِي جَهْلٍ، فَقُلْتُ له مِثْلَ مَا قُلْتُ لِصَفْوَانَ بنِ أُمَيَّةَ، فَقَالَ لِي مِثْلَ مَا قَالَ صَفْوَانُ.
قَالَ: فَخَرَجْتُ إِلَى مَنْزِلي، فَأَمَرْتُ بِرَاحِلَتِي تُخْرَجُ، فَلَقِيتُ عُثْمَانَ بنَ طَلْحَةَ، فَذَكَرْتُ له مَا صَارَ الأَمْرُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: إِنَّمَا نَحْنُ بِمَنْزِلَةِ ثَعْلَبٍ فِي جُحْرٍ لَوْ صُبَّ فِيهِ ذَنُوبٌ (3) مِنْ مَاءٍ خَرَجَ، وَقُلْتُ لَهُ نَحْوًا مِمَّا قُلْتُ لِصفْوَانَ بنِ أُمَيَّةَ
(1) سُرِّي: بضم السين وتشديد الراء المكسورة: أي كشف. انظر النهاية (2/ 328).
(2)
كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه من أعبر المفسرين للرؤيا.
(3)
الذَّنوب: الدلو العظيمة. انظر النهاية (2/ 157).
وَعِكْرِمَةَ بنِ أَبِي جَهْلٍ، فَأَسْرَعَ الإِجَابَةَ وَقَالَ: إِنِّي غَدَوْتُ اليَوْمَ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَغْدُوَ وَهَذِهِ رَاحِلَتِي.
قَالَ خَالِدٌ رضي الله عنه: فَاتَّعَدْتُ (1) أنا وَهُوَ بِيَأْجَجَ (2) إِنْ سَبَقَنِي أَقامَ وَإِنْ سَبَقْتُهُ أَقمْتُ عَلَيْهِ، قَالَ: فَأَدْلَجْنَا (3) سَحَرًا فَلَمْ يَطْلُعِ الفَجْرُ حَتَّى الْتَقَيْنَا بِيَأجَجَ، فَغَدَوْنَا حَتَّى انتهَيْنَا إِلَى الهَدَأَةِ (4) فنَجِدُ عَمْرَو بنَ العَاصِ بِهَا، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالقَوْمِ، فَقُلْنَا: وَبِكَ، قَالَ: أَيْنَ مَسِيرُكُمْ؟ مَا أَخْرَجَكُمْ؟ .
قُلْنَا: مَا أَخْرَجَنَا إِلَّا الدُّخُولُ فِي الإِسْلَامِ، وَاتِّبَاعُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
فَقَالَ عَمْرٌو: وَذَاكَ الذِي أَقْدَمَنِي.
قَالَ خَالِدٌ: فَاصْطَحَبْنَا جَمِيعًا حَتَّى دَخَلْنَا المَدِينَةَ، فَانَخْنَا (5) بِظَهْرِ الحَرَّةِ رِكَابَنَا (6)، فَأُخْبِرَ بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَسُرَّ بِنَا، فَلَبِسْتُ مِنْ صَالِحِ ثِيَابِي، ثُمَّ عَمَدْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَقِيَنِي أَخِي (7) فَقَالَ: أَسْرعْ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أُخْبِرَ بِكَ، فَسُرَّ بِقُدُومِكَ، وَهُوَ يَنْتَظِرُكُمْ، فَأَسْرَعْنَا المَشْيَ، فَاطَّلَعْتُ عَلَيْهِ فَمَا زَالَ صلى الله عليه وسلم يَتْبَسِمُ إِلَيَّ حَتَّى وَقَفْتُ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ بِالنُّبُوَّةِ، فَرَدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ
(1) اتعدت: أي تواعدت.
(2)
يَأجَج: مكان من مكة على ثمانية أميال. انظر معجم البلدان (8/ 492).
(3)
الدلجة: هو سير الليل. انظر النهاية (2/ 120).
(4)
الهَدَأة: بفتح الهاء: موضع بين عسفان ومكة. انظر معجم البلدان (8/ 470).
(5)
أَنَاخ الإبل: أبركها فبركت. انظر لسان العرب (14/ 321).
(6)
الركاب: الإبل التي تحمل القوم. انظر لسان العرب (5/ 296).
(7)
هو الوليد بن الوليد رضي الله عنه.