الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سَرِيَّةُ الْخَبَطِ
(1)
بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ رضي الله عنه فِي ثَلَاثِمِائَةِ رَجُلٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَفِيهِمْ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، لِيَرْصُدُوا (2) عِيرًا لِقُرَيْشٍ (3) مِمَّا يَلِي سَاحِلَ الْبَحْرِ، وَقَدْ زَوَّدَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جِرَابًا (4) مِنْ تَمْرٍ، لَمْ يَجِدْ لَهُمْ غَيْرَهُ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ فَنِي زَادُهُمْ، فَأَمَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ رضي الله عنه بِأَزْوَادِ الْجَيْشِ فَجُمعَ فَكَانَ مِزْوَدَيْ (5) تَمْرٍ، فَكَانَ يَقَوتُهُمْ كُلَّ يَوْمٍ قَلِيلًا قَلِيلًا، حَتَّى فَنِي، فَكَانَ يُعْطِي كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ تَمْرَةً وَاحِدَةً، فَكَانُوا يَمُصُّونَهَا كَمَا يَمَصُّ الصَّبِيُّ، ثُمَّ يَشْرَبُوا عَلَيْهَا الْمَاءَ، فَكَانَتْ تَكْفِيهِمْ يَوْمَهُمْ إِلَى اللَّيْلِ.
(1) الخَبَطُ: ما سقطَ من وَرَقِ الشجر بالْخَبْطِ والنَّفْضِ. انظر النهاية (2/ 8).
(2)
رَصَدَهُ: رَاكبهُ. انظر لسان العرب (5/ 223).
(3)
وقع عند ابن سعد في طبقاته (2/ 315): أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثهم إلى حي من جهينة.
قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 408): وهذا لا يُغاير ظاهره ما في الصحيح؛ لأنه يمكن الجمع بين كونهم يتلقون عيرًا لقريش ويقصدون حيًا من جهينه، ويحتمل أن يكون تلقيهم للعير ليس لمحاربتهم بل لحفظهم من جهينة، ويقوي هذا الجمع ما وقع عند مسلم في صحيحه عن جابر رضي الله عنهما قال: بعث رسول صلى الله عليه وسلم بعثًا إلى أرض جهينة.
(4)
الْجِرَابُ: الوِعَاءُ. انظر لسان العرب (2/ 228).
(5)
الْمِزْوَدُ: بكسر الميم وسكون الزاي: هو ما يُجَعَلُ فيه الزَّادُ. النهاية (2/ 286).
رَوَى الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما: أَنَّهُ سُئِلَ: مَا تُغْنِي عَنْكُمْ تَمْرَةٌ؟
قَالَ رضي الله عنه: لَقَدْ وَجَدْنَا فَقْدَهَا حِينَ فَنِيَتْ.
فَلَمَّا فَنِيَتْ تِلْكَ التَّمَرَاتُ التِي كَانَتْ مَعَهُمْ، وَهُوَ زَادُهُمُ الْوَحِيدُ، لَجَأُوا إِلَى أَكْلِ الْخَبَطِ، فَكَانُوا يَضْرِبُونَ الْخَبَطَ بِعِصِيِّهِمْ، ثُمَّ يبْلُّونَهُ بِالْمَاءِ، فَيَأْكُلُونَهُ حَتَّى تَقَرَّحَتْ أَشْدَاقُهُمْ (1).
قَالَ جَابْرٌ رضي الله عنه: أَقَمْنَا بِالسَّاحِلِ نِصْفَ شَهْرٍ، فَأَصَابَنَا جُوعٌ شَدِيدٌ حَتَّى أَكَلَنَا الْخَبَطَ، فَسُمِّيَ ذَلِكَ الْجَيْشُ جَيْشَ الْخَبَطِ.
وَلَمَّا رَأَى قَيْسُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ رضي الله عنهما، مَا بِالْمُسْلِمِينَ مِنَ الْجَهْدِ وَالْجُوعِ، قَالَ: مَنْ يَشْتَرِي مِنِّي تَمْرًا بِالْمَدِينَةِ بِجَزُورٍ (2) هُنَا؟
فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ جُهَيْنَةَ: مَنْ أَنْتَ؟
قَالَ: أَنَا قَيْسُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ دُلَيْمٍ.
فَقَالَ الْجُهَنِيُّ: مَا أَعْرَفَنِي بِنَسَبِكَ، إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَ سَعْدٍ خُلَّةً (3)، فَابْتَاعَ (4) مِنه تِسعَ جَزَائِرَ، كل جَزُورٍ بِوسْقٍ (5) مِنْ تَمْرٍ، وأَشْهَدَ لَهُ نَفَرًا مِنَ الصَّحَابَةِ،
(1) الأشداق: جوانب الفم. انظر النهاية (2/ 406).
(2)
الْجَزُورُ: البَعِيرُ ذكرًا كان أو أنثى. انظر النهاية (1/ 258).
(3)
الْخُلَّةُ: بضم الخاء: الصَّدَاقَةُ. انظر النهاية (2/ 68).
(4)
ابْتَاعَ الشيءَ: اشترَاه. انظر لسان العرب (1/ 557).
(5)
الْوَسْقُ: بفتح الواو وسكون السين: سِتُّونَ صَاعًا. انظر النهاية (5/ 161).
وَامْتَنَعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، وَقَالَ: مَا أَشْهَدُ، هَذَا يَدِينُ وَلَا مَالَ لَهُ، وَإِنَّمَا الْمَالُ لِأَبِيهِ.
فَقَالَ الْجُهَنِيُّ: وَاللَّهِ مَا كَانَ سَعْدٌ لِيُخْنِيَ (1) بِابْنِهِ، وَأَرَى وَجْهًا حَسَنًا وَفِعْلًا شَرِيفًا.
فَكَانَ بَيْنَ قَيْسٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما كَلَامٌ حَتَّى أَغْلَظَ لَهُ قَيْسٌ الْكَلَامَ، وَأَخَذَ قَيْسٌ الْجُزُرَ، فنَحَرَ لَهُمْ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ ثَلَاثَ جَزَائِرَ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي ثَلَاثَ جَزَائِرَ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ ثَلَاثَ جَزَائِرَ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الرَّابِعُ نَهَاهُ أَبُو عُبَيْدَةَ رضي الله عنه.
وَعِنْدَمَا وَصَلُوا إِلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، أَلَقْي اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَي لَهُمْ حُوتًا مَيْتًا مِنَ الْبَحْرِ، مِثْلَ الظَّرِبِ (2)، يُقَالُ لَهُ: الْعَنْبَرُ.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ قَالَ جَابِرٌ رضي الله عنهما: فَرُفِعَ لَنَا عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ كَهَيْئَةِ الْكَثِيبِ الضَّخْمِ، فَأَتَيْنَاهُ، فَإِذَا هِيَ دَابَّةٌ تُدْعَى الْعَنْبَرَ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ رضي الله عنه: مَيْتَةٌ، ثُمَّ قَالَ: لَا، بَلْ نَحْنُ رُسُلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَقَدِ اضْطُرِرْتُمْ فَكُلُوا، فَأَقَامُوا عَلَيْهِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ لَيْلَةً يَأْكُلُونَ مِنْهُ حَتَّى سَمِنُوا وَصَحَّتْ أَجْسَامُهُمْ.
(1) يُخْنِي: بضم الياء وسكون الخاء: أي يُسْلِمُهُ ويَخْفِرُ ذِمَّتَهُ. انظر النهاية (2/ 81).
(2)
الظَّرِبُ: بكسر الراء: واحد الظِّراب وهي الجَبَلُ الصغيرُ. انظر فتح الباري (8/ 410) - جامع الأصول (7/ 46).
قَالَ جَابِرٌ رضي الله عنه: وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا نَغْتَرفُ مِنْ وَقْبِ (1) عَيْنَيْه الدُّهْنَ بالْقِلَال (2)، وَنَقْتَطِعُ مِنْهُ الْفِدَرَ (3) كَقَدْرِ الثَّوْرِ، وَلقدْ أَخَذَ مِنَّا أَبُو عُبَيْدَةُ رضي الله عنه ثَلَاثَةَ عَشَرَ (4) رَجُلًا فَأَقْعَدَهُمْ فِي وَقْبِ عَيْيهِ، وَأَخَذَ ضِلْعًا مِنْ أَضْلَاعِهِ فنَصَبَهُ، ثُمَّ نَظَرَ إِلَى أَطْوَلِ بَعِيرٍ فَجَعَلَ عَلَيْهِ أَطْوَلَ رَجُلٍ (5) فِي الْجَيْشِ فَمَرَّ مِنْ تَحْتِهِ وَمَا مَسَّتْ رَأْسَهُ، وَتَزَوَّدْنَا مِنْ لَحْمِهِ وَشَائِقَ (6).
ثُمَّ انْصَرَفُوا إِلَى الْمَدِينَةِ وَلَمْ يَلْقَوا كَيْدًا، فَلَمَّا أَتَوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:"هُوَ رِزْقٌ أَخْرَجَهُ اللَّهُ لَكُمْ، فهَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَيْءٌ فَتُطْعِمُونَا؟ "، قَالَ جَابِرٌ رضي الله عنه: فَأَرْسَلْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهُ فَأَكَلَهُ (7).
(1) وَقْبُ العينِ: النَّقْرَةُ التي فيها العين. انظر جامع الأصول (7/ 45).
(2)
القِلَالُ: جمع قُلَّةٍ، وهي الْحُبُّ العظيم. انظر النهاية (91/ 4).
(3)
الفِدَرُ: بكسر الفاء وفتح الدال جَمْعُ فِدْرةٍ، وهي القِطعةُ من اللَّحمِ. انظر جامع الصول (7/ 45).
(4)
في رواية الإمام أحمد في مسنده: قال جابر رضي الله عنهما: ويجلس النفر الخمسة في موضع عينه.
(5)
هو قيس بن سعد بن عباده رضي الله عنهما، قاله الحافظ في الفتح (8/ 411).
(6)
الْوَشَائِقُ: جمع وَشِيقَةٍ، وهىِ لَحْمٌ يُغلَي قليلًا ثم يُقَذَدُ -أي يُمَلَّحُ- ويُحْمَلُ في الأسفار. انظر جامع الأصول (7/ 45).
(7)
أخرج قصة هذه السرية: البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة سيف البحر- رقم الحديث (4360)(4361)(4362) - ومسلم في صحيحه - كتاب الصيد والذبائح - باب إباحة ميتات البحر - رقم الحديث (1935) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (14336)(14337)(14338) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (5007).