الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سَرِيَّةُ ذاتِ السَّلاسِلِ
(1)
وَكَانَ سَبَبُ هَذِهِ السَّرِيَّةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَلَغَهُ أَنَّ جَمْعًا مِنْ قُضَاعَةَ، وَهُمْ بلِي (2)، وعُذْرَةَ (3)، وبَنو القيْنِ، قَدْ تَجَمَّعُوا يُرِيدُونَ الإِغارَةَ عَلى أَطْرَافِ المَدِينَةِ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَمْرَو بنَ العَاصِ رضي الله عنه، فَبَعَثَهُ إِلَيْهِمْ، وَذَلِكَ فِي جُمَادَى الآخِرَةِ سَنَةَ ثَمَانٍ لِلْهِجْرَةِ (4).
قَالَ عَمْرُو بنُ العَاصِ رضي الله عنه: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا عَمْرُو، اشْدُدْ عَلَيْكَ سِلَاحَكَ وَثِيَابَكَ، ثُمَّ ائْتِنِي".
قَالَ عَمْرٌو: فَفَعَلْتُ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ، فَصَعَّدَ فِيَّ النَّظَرَ، ثُمَّ طَأْطَأَهُ (5) فَقَالَ:"يَا عَمْرُو، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَبْعَثَكَ عَلَى جَيْشٍ، فَيُسَلِّمَكَ اللَّهُ وَيُغْنِمُكَ، وَأَزْعَبُ (6) لَكَ مِنَ المَالِ زَعْبَةً صَالِحَةً".
فَقَالَ عَمْرٌو رضي الله عنه: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لَمْ أُسْلِمْ رَغْبَةً فِي المَالِ، إِنَّمَا
(1) السلاسِلُ: هو ماءٌ بأرض جذام، وبه سميت الغزوة. انظر النهاية (2/ 350).
(2)
قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 403): بَليّ: بفتح الباء وكسر اللام الخفيفة.
(3)
قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (8/ 403): عُذْرة: بضم العين وسكون الذال.
(4)
انظر الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 315) - سيرة ابن هشام (4/ 280).
(5)
طأطأ رأسه: خفض رأسه. انظر لسان العرب (8/ 113).
(6)
أزْعَبُ: أي أعطيكَ دُفعة من المال، وأصل الزعب: الدفع والقَسْم. انظر النهاية (2/ 274).
أَسْلَمْتُ رَغْبَةَّ فَي الجِهَادِ، وَالكَيْنُونَةِ مَعَكَ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا عَمْرُو، نِعِمَّا (1) بِالمَالِ الصَّالِحِ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ"(2).
ثُمَّ عَقَدَ له رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِوَاءً أَبْيَضَ، وَبَعَثَهُ فِي ثَلَاثِمِائَةِ رَجُلٍ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، وَمَعَهُمْ ثَلَاثُونَ فَرَسًا، فَخَرَجَ عَمْرُو بنُ العَاصِ رضي الله عنه يَسِيرُ اللَّيْلَ وَيَكْمُنُ النَّهَارَ، فَلَمَّا قَرُبَ مِنَ القَوْمِ بَلَغَهُ أَنَّ لَهُمْ جَمْعًا كَثِيرًا، فَبَعَثَ رَافِعَ بنَ مَكِيثٍ الجُهَنِيَّ رضي الله عنه إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَمِدُّهُ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِ أَبَا عُبَيْدَةَ بنَ الجَرَّاحِ رضي الله عنه فِي مِائَتَيْنِ مِنَ المُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ، فِيهِمْ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رضي الله عنهما، وَأَمَرَهُ أَنْ يَلْحَقَ بِعَمْرٍو، وَأَنْ يَكُونَا جَمِيعًا وَلَا يَخْتَلِفَا.
فَخَرَجَ أَبُو عُبَيْدَةَ رضي الله عنه فَلَحِقَ بِعَمْرٍو، فَأَرَادَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنْ يَؤُمَّ النَّاسَ، فَقَالَ عَمْرٌو: إِنَّمَا قَدِمْتَ عَلَيَّ مَدَدًا وَأَنَا الأَمِيرُ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدةَ: لَا، وَلَكِنِّي عَلَى مَا أَنَا عَلَيْهِ، وَأَنْتَ عَلَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: بَلْ أَنْتَ مَدَدٌ لِي.
وَفِي رِوَايَةٍ فَقَالَ المُهَاجِرُونَ: بَلْ أَنْتَ أَمِيرُ أَصْحَابِكَ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ أَمِيرُ المُهَاجِرِبنَ، فَقَالَ عَمْرٌو: إِنَّمَا أَنْتُمْ مَدَدٌ لَنَا، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَكَانَ
(1) في رواية البخاري في الأدب المفرد: "نِعْمَ".
(2)
أخرج ذلك كله: الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (17763) - والبخاري في الأدب المفرد - رقم الحديث (229) - وابن حبان في صحيحه - كتاب الزكاة - باب ذكر الإباحة للرجل الذي يجمع المال من حله - رقم الحديث (3211) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (6056) - وإسناده صحيح على شرط مسلم.
رَجُلًا حَسَنَ الخُلُقِ لَيِّنَ العَرِيكَةَ (1)، سَهْلًا، هَيِّنًا عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا، قَالَ: لَتَعْلَمُ يَا عَمْرُو! أَنَّ آخِرَ شَيءٍ عَهِدَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ قَالَ: "إِنْ قَدِمْتَ عَلَى صَاحِبِكَ فَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا"، وَإِنَّكَ إِنْ عَصَيْتَنِي لَأُطِيعَنَّكَ، فَقَالَ عَمْرٌو رضي الله عنه: فَإِنِّي الأَمِيرُ عَلَيْكَ، وَأَنْتَ مَدَدٌ لِي، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: فَدُونَكَ، فَكَانَ عَمْرٌو يُصَلِّي بِالنَّاسِ.
وَسَارَ حَتَّى وَطِئَ بِلَادَ بَلِي وَدَوَّخَهَا (2)، حَتَّى أَتَى إِلَى أَقْصَى بِلَادِهِمْ وَبِلَادِ عُذْرَةَ وَبَنِي القَيْنِ، وَلَقِيَ فِي آخِرِ ذَلِكَ جَمْعًا لَيْسَ بِالكَثِيرِ، فَاقْتَتَلُوا ساعَةً وَتَرَامَوْا بِالنَّبْلِ، ثُمَّ حَمَلَ المُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ، فَهَرَبُوا وَتَفَرَّقُوا فِي البِلَادِ.
وَأَقَامَ عَمْرُو بنُ العَاصِ رضي الله عنه أَيَّامًا، وَكَانَ يَبْعَثُ الخَيْلَ، فَيَأْتُونَ بِالشَّاءِ وَالنَّعَمِ، فَيَنْحَرُونَ وَيَأْكُلُونَ.
وَفِي هَذِهِ السَّرِيَّةِ أَمَرَ عَمْرُو بنُ العَاصِ رضي الله عنه النَّاسَ أَنْ لَا يُوقِدُوا نَارًا، فَغَضِبَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رضي الله عنه، وَهَمَّ أَنْ يَنَالَ مِنْهُ، فنَهَاهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه، وَقَالَ لَهُ: دَعْهُ، فَإِنَّ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَسْتَعْمِلْهُ عَلَيْنَا إِلَّا لِعِلْمِهِ بِالحَرْبِ، فَهَدَأَ عَنْهُ.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عِنْدَ ابنِ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ: فكَلَّمَ النَّاسَ أَبَا بَكْرٍ
(1) العَرِيكة: الطبيعة، يقال: فلانٌ ليِّن العريكة: إذا كان سَلِسًا مُطاعًا مُنْقادًا قليلَ الخِلاف والنُّفور. انظر النهاية (3/ 200).
(2)
يقال: داخَ يدوخُ: إذا ذَلّ. انظر النهاية (2/ 129).