الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول في القدر الواجب مسحه من الرأس
مدخل في ذكر الضوابط الفقهية:
- هل الأمر بمسح الرأس في آية المائدة يعتبر مجملًا في اللغة، فيطلب البيان من السنة، أو أن آية المائدة ليس فيها إجمال أصلًا، لأن قوله تعالى:(وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ) يقتضي مسح البعض كما لو قلت: مسحت يدي بالحائط فإن المعنى للمسح يوجد بمسح جزء من أجزاء الحائط.
- الخلاف ليس في مسمى الرأس بل في إيقاع المسح على هذا الجزء، وهذا كما في نظائره من الأفعال، تقول: ضربت رأسه وضربت برأسه، فإنه يوجد هذا المعنى بإيقاع الضرب على جزء من أجزاء الرأس، ومن قال: لا يكون ضاربًا لرأسه حتى يقع الضرب على جميع الرأس فقد جاء بما لا يفهمه أهل اللغة.
وقيل:
- اسم الرأس حقيقة في كله لا بعضه، ولا يقال لبعض الرأس رأس، فكان ذلك مقتضيًا لمسح جميعه.
- كل عضو أمرنا بغسله أو مسحه فالأصل وجوب استيعابه إلا بدليل.
- الفرائض لا تؤدى إلا بيقين، واليقين ما أجمعوا عليه من مسح جميع الرأس.
- الرأس عضو شرع المسح فيه بالماء، فوجب أن يعمه الحكم قياسًا على مسح الوجه بالتيمم
(1)
.
[م-166] اختلف العلماء في المقدار الواجب مسحه من الرأس،
فقيل: يكفي في مسح الرأس مقدار الناصية، وهو ربع الرأس، وهذا مذهب الحنفية
(2)
.
وقيل: يجب مسح جميع الرأس، وهو مذهب المالكية
(3)
،
والمشهور من مذهب
(1)
انظر الذخيرة (1/ 260).
(2)
المبسوط (1/ 63)، بدائع الصنائع (1/ 4)، حاشية ابن عابدين (1/ 99)، شرح فتح القدير (1/ 17)، شرح معاني الآثار (1/ 31).
(3)
الاستذكار (2/ 30)، المنتقى للباجي (1/ 38)، مواهب الجليل (1/ 202).
وقد أورد ابن العربي في أحكام القرآن مذاهب أهل العلم في مسح الرأس، وتكلم عليه في فوائد يحسن بي أن أنقله بتمامه وإن كان طويلًا نظرًا لفائدته، يقول ابن العربي (2/ 64): قوله تعالى: (بِرُؤُوسِكُمْ): الرأس عبارة عن الجملة التي يعلمها الناس ضرورة، ومنها الوجه، فلما ذكره الله سبحانه في الوضوء وعين الوجه للغسل بقي باقيه للمسح. ولو لم يذكر الغسل أولًا فيه للزم مسح جميعه: ما عليه شعر من الرأس، وما فيه العينان والأنف والفم؛ وهذا انتزاع بديع من الآية، وقد أشار مالك إلى نحوه، فإنه سئل عن الذي يترك بعض رأسه في الوضوء؟ فقال: أرأيت لو ترك بعض وجهه أكان يجزئه؟ ومسألة مسح الرأس في الوضوء معضلة، ويا طالما تتبعتها لأحيط بها حتى علمني الله تعالى بفضله إياها؛ فخذوها مجملة في علمها، مسجلة بالصواب في حكمها، واستيفاؤها في كتب المسائل:
اختلف العلماء في مسح الرأس على أحد عشر قولًا:
الأول: أنه إن مسح منه شعرة واحدة أجزأه.
الثاني: ثلاث شعرات.
الثالث: ما يقع عليه الاسم، ذكر لنا هذه الأقوال الثلاثة فخر الإسلام بمدينة السلام في الدرس عن الشافعي.
الرابع: قال أبو حنيفة: يمسح الناصية. = =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= الخامس: قال أبو حنيفة: إن الفرض أن يمسح الربع.
السادس: قال أيضًا في روايته الثالثة: لا يجزيه إلا أن يمسح الناصية بثلاث أصابع أو أربع.
السابع: يمسح الجميع؛ قاله مالك.
الثامن: إن ترك اليسير من غير قصد أجزأه؛ أملاه علي الفهري.
التاسع: قال محمد بن مسلمة: إن ترك الثلث أجزأه.
العاشر: قال أبو الفرج: إن مسح ثلثه أجزأه.
الحادي عشر: قال أشهب: إن مسح مقدمه أجزأه، فهذه أحد عشر قولًا.
ومنزلة الرأس في الأحكام منزلته في الأبدان، وهو عظيم الخطر فيهما جميعًا؛ ولكل قول من هذه الأقوال مطلع من القرآن والسنة:
فمطلع الأول: أن الرأس وإن كان عبارة عن العضو فإنه ينطلق على الشعر بلفظه، قال الله تعالى:(وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ)[البقرة: 196]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «احلق رأسك» ، والحلق إنما هو في الشعر، إذا ثبت هذا تركب عليه: المطلع الثاني:
المطلع الثاني: وهو أن إضافة الفعل إلى الرأس ينقسم في العرف والإطلاق إلى قسمين: أحدهما: أنه يقتضي استيفاء الاسم.
والثاني: يقتضي بعضه؛ فإذا قلت: «حلقت رأسي» اقتضى في الإطلاق العرفي الجميع. وإذا قلت: مسحت الجدار أو رأس اليتيم أو رأسي اقتضى البعض، فيتركب عليه: المطلع الثالث: وهو أن البعض لا حد له مجزئ منه ما كان، قال لنا الشاشي: لما قال الله تعالى: (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ)، وكان معناه شعر رءوسكم، وكان أقل الجمع ثلاثًا قلنا: إن حلق ثلاث شعرات أجزأه، وإن مسحها أجزأه، والمسح أظهر، وما يقع عليه الاسم أقله شعرة واحدة.
المطلع الرابع: نظر أبو حنيفة إلى أن الوضوء إنما شرعه الله سبحانه فيما يبدو من الأعضاء في الغالب، والذي يبدو من الرأس تحت العمامة الناصية، ولا سيما وهذا يعتضد بالحديث الصحيح (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح ناصيته وعمامته).
المطلع الخامس: أنه إذا ثبت مسح الناصية فلا يتيقن موضعها؛ وإنما المقصود تعلق العبادة بالرأس؛ فقد ثبت مسح النبي صلى الله عليه وسلم الناصية، وهي نحو الربع، فيتقدر الربع منه أين كان، ومطلع الربع بتقدير الأصابع يأتي إن شاء الله تعالى.
ومطلع الجميع -يعني مسح جميع الرأس- أن الله سبحانه وتعالى علق عبادة المسح بالرأس، كما علق عبادة الغسل بالوجه؛ فوجب الإيعاب فيهما بمطلق اللفظ. وقول الشافعي: إن مطلق القول في المسح لا يقتضي الإيعاب عرفًا، فما علق به ليس بصحيح؛ إنما هو مبني على الأغراض، وبحسب الأحوال، تقول: مسحت الجدار، فيقتضي بعضه من أجل أن الجدار لا يمكن تعميمه =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= بالمسح حسًا، ولا غرض في استيعابه قصدًا، وتقول: مسحت رأس اليتيم لأجل الرأفة، فيجزئ منه أقله بحصول الغرض به، وتقول: مسحت الدابة فلا يجزئ إلا جميعها؛ لأجل مقصد النظافة فيها، فتعلق الوظيفة بالرأس يقتضي عمومه بقصد التطهير فيه؛ ولأن مطلق اللفظ يقتضيه؛ ألا ترى أنك تقول: مسحت رأسي كله فتؤكده، ولو كان يقتضي البعض لما تأكد بالكل؛ فإن التأكيد لرفع الاحتمال المتطرق إلى الظاهر في إطلاق اللفظ.
ومطلع من قال: إن ترك اليسير من غير قصد أجزأه: أن تحقق عموم الوجه بالغسل ممكن بالحس، وتحقق عموم المسح غير ممكن؛ فسومح بترك اليسير منه دفعًا للحرج، وهذا لا يصح؛ فإن مرور اليد على الجميع ممكن تحصيله حسا وعادة.
ومطلع من قال: إن ترك الثلث من غير قصد أجزأه: قريب مما قبله، إلا أنه رأى الثلث يسيرًا، فجعله في حد المتروك، لما رأى الشريعة سامحت به في الثلث وغيره.
ومطلع من قال: إن مسح ثلثه أجزأه: إلى أن الشرع قد أطلق اسم الكثير على الثلث في قوله من حديث سعد: «الثلث والثلث كثير» .
ولحظ مطلع أبي حنيفة في الناصية حسبما جاء في الحديث، ودل عليه ظاهر القرآن في تعلق العبادات بالظاهر، ومطلع قول أشهب في أن من مسح مقدمه أجزأه إلى نحو من ذلك تناصف ليس يخفى على اللبيب عند اطلاعه على هذه الأقوال، والأنحاء المطلعات أن القوم لم يخرج اجتهادهم عن سبيل الدلالات في مقصود الشريعة، ولا جاوزوا طرفيها إلى الإفراط؛ فإن للشريعة طرفين: أحدهما: طرف التخفيف في التكليف. والآخر: طرف الاحتياط في العبادات. فمن احتاط استوفى الكل، ومن خفف أخذ بالبعض، قلنا: في إيجاب الكل ترجيح من ثلاثة أوجه: أحدهما: الاحتياط. الثاني: التنظير بالوجه، لا من طريق القياس؛ بل من مطلق اللفظ في ذكر الفعل وهو الغسل أو المسح، وذكر المحل؛ وهو الوجه أو الرأس. الثالث: أن كل من وصف وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر أنه مسح رأسه كله. فإن قيل: فقد ثبت أنه مسح ناصيته وعمامته، وهذا نص على البعض؟ قلنا: بل هو نص على الجميع؛ لأنه لو لم يلزم الجميع لم يجمع بين العمامة والرأس، فلما مسح بيده على ما أدرك من رأسه وأمر يده على الحائل بينه وبين باقيه أجراه مجرى الحائل من جبيرة أو خف، ونقل الفرض إليه كما نقله في هذين. جواب آخر: وهو أن هذا الخبر حكاية حال وقضية في عين؛ فيحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم مزكومًا، فلم يمكنه كشف رأسه؛ فمسح البعض ومر بيده على جميع البعض، فانتهى آخر الكف إلى آخر الناصية، فأمر اليد على العمامة، فظن الراوي أنه قصد مسح العمامة، وإنما قصد مسح الناصية بإمرار اليد؛ وهذا مما يعرف مشاهدة، ولهذا لم يرو عنه قط شيء من ذلك في أطواره بأسفاره على كثرتها. اهـ