الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشرط الخامس
أن يكون جازمًا بالنية
مدخل في ذكر الضوابط الفقهية:
- النية قصد لا يتصور توجهه إلا إلى معلوم أو مظنون فلا تتعلق بمشكوك فيه.
- من العلماء من يبطل العبادة بتعليق النية مطلقًا؛ لأن شرط العبادة عنده أن تكون النية جازمة، ومنهم من يجيزه مطلقًا، ومنهم من يجيزه إن استند إلى أصل أو ظاهر، كما لو اقتدى بمسافر شك هل هو قاصر أو متم، فقال: إن قصر قصرت، وإلا أتممت، ومثله لو قال: إن كان غدًا من رمضان فأنا صائم، ولا يقدر إلا على هذا.
[م-90] اختلف الفقهاء في حكم تعليق النية في الوضوء؟
فقيل: لا يصح تعليق النية إلا إن قصد بكلمة إن شاء الله تعالى التبرك أو الاستعانة، وهذا مذهب الجمهور من المالكية
(1)
، والشافعية
(2)
، والحنابلة
(3)
.
(1)
حاشية الدسوقي (1/ 94)، منح الجليل (1/ 50)، مواهب الجليل (1/ 239).
(2)
حاشية قليبوبي وعميرة (1/ 45).
(3)
قال في الإنصاف (3/ 296): لو قال: أنا صائم غدًا إن شاء الله تعالى، فإن قصد بالمشيئة الشك والتردد في العزم والقصد فسدت نيته، وإلا لم تفسد.
وأما الحنفية فقد سبق أنهم يرون النية سنة، فلا يضر تعليقها
(1)
.
واختلفوا فيما لو توضأ بنية إن كان محدثًا فالنية رفع الحدث، وإلا فهو تجديد:
فقيل: لا يصح الوضوء بهذه النية، وهذا مذهب المالكية؛ لعدم الجزم بالنية.
جاء في حاشية الدسوقي: «فالواجب عليه إذا توضأ أن يتوضأ بنية جازمة، فإن توضأ بنية غير جازمة -بأن علقها بالحدث المحتمل- كان هذا الوضوء باطلًا»
(2)
.
-وجه القول بالبطلان:
أن هذا الإنسان إما أن يكون متطهرًا أو محدثًا، فإن كان متطهرًا فلا اعتبار به، إذ لم ينو التجديد، بل نوى رفع الحدث وليس عليه، وإن كان محدثًا فلا يصح، لعدم جزم نيته.
وقيل: يصح الوضوء، وهو مذهب الشافعية.
(3)
.
وقالوا: يغتفر التعليق هنا، كالمسافر إذا نوى خلف من شك في نية القصر، فقال: إن قصر قصرت
(4)
.
قلت: لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، فهذا غاية ما يمكن أن يفعله، وهو أن يقول: إن كنت محدثًا فهذا الوضوء عنه، فإن كان على طهارة لم يضره هذا الوضوء، وإن كان محدثًا فقد نواه معلقًا، والتعليق يغتفر، وقد رجح المحققون من العلماء صحة التعليق في مسألة مشابهة، كما لو قال رجل: إن كان غدًا من رمضان فأنا صائم، فتصح نيته
(1)
انظر العزو إليهم في مسألة «حكم النية» وقد مر معنا في هذا الباب.
(2)
حاشية الدسوقي (1/ 94)، وجاء في التاج والإكليل (1/ 343):
(3)
المجموع (1/ 374).
(4)
انظر المرجع السابق.
على الصحيح
(1)
؛ لأن هذا غاية ما يمكن أن يفعله، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها.
وفيه قول ثالث في مذهب الشافعية:
قالوا: يرتفع حدثه، إلا إن انكشف الحال وتبين أنه محدث، فيلزمه استئناف الوضوء
(2)
.
وإنما صح الوضوء للضرورة؛ لأن هذا غاية ما يسعه، وإذا زالت الضرورة، وانكشف الحال، وتبين أنه محدث فقد زالت الضرورة، فيلزمه أن يعيد الوضوء؛ لأن النية لم تكن جازمة.
قال أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله: «لا نقول بأنه لا يرتفع حدثه على تقدير تحقق الحدث، وإنما نقول: لا يرتفع على تقدير انكشاف الحال، ويكون وضوءه هذا رافعًا للحدث إن كان موجودا في نفس الأمر، ولم يظهر لنا للضرورة، فإذا انكشف الحال زالت الضرورة، فوجبت الإعادة بنية جازمة»
(3)
.
[م-91] ولا يشرع للإنسان أن يحدث لكي يجزم بالنية، فلم يرشد الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الحالة إلى هذا الفعل، وإنما أرشد بالأخذ باليقين وطرح الشك، كما قال صلى الله عليه وسلم إذا شك أحدكم في الصلاة فلا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا.
وقيل: يجوز التعليق بالشروط في كل موضع يحتاج إليه العبد، وهذا قول رابع، اختاره ابن تيمية وابن القيم.
قال ابن القيم في أعلام الموقعين عند الكلام على تعليق التوبة بالشرط، قال: «وقد شرع الله لعباده التعليق بالشروط في كل موضع يحتاج إليه العبد، حتى بينه وبين ربه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لضباعة بنت الزبير وقد شكت إليه وقت الإحرام، فقال: (حجي
(1)
ذكر صاحب الإنصاف (3/ 295) أن هذا القول رواية عن أحمد، ورجحها ابن تيمية، قال في الإنصاف: وهو المختار.
(2)
المجموع (1/ 375).
(3)
المجموع (1/ 375).
واشترطي على ربك فقولي: إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني، فإن لك ما اشترطت على ربك) فهذا شرع مع الله في العبادة، وقد شرعه على لسان رسوله لحاجة الأمة إليه، ويفيد شيئين: جواز التحلل، وسقوط الهدي، وكذلك الداعي بالخيرة يشترط على ربه في دعائه، فيقول: اللهم إن كان هذا الأمر خيرًا لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري عاجله وآجله فاقدره لي ويسره لي، فيعلق طلب الإجابة بالشرط لحاجته إلى ذلك لخفاء المصلحة عليه».
وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم اشترط على ربه أيما رجل سبه أو لعنه وليس لذلك بأهل أن يجعلها كفارة له وقربة يقربه بها إليه، وهذا تعليق للمدعو به بشرط الاستحقاق. وكذلك المصلي على الميت شرع له تعليق الدعاء بالشرط، فيقول: اللهم أنت أعلم بسره وعلانيته، إن كان محسنا فتقبل حسناته، وإن كان مسيئا فتجاوز عن سيئاته؛ فهذا طلب للتجاوز عنه بشرط، فكيف يمنع تعليق التوبة بالشرط؟
وقال شيخنا: كان يشكل علي أحيانا حال من أصلي عليه الجنائز، هل هو مؤمن أو منافق؟ فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فسألته عن مسائل عديدة منها هذه المسألة، فقال: يا أحمد الشرط الشرط، أو قال: علق الدعاء بالشرط، وكذلك أرشد أمته صلى الله عليه وسلم إلى تعليق الدعاء بالحياة والموت بالشرط فقال: لا يتمنى أحدكم الموت لضر نزل به، ولكن ليقل: اللهم أحيني إذا كانت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي.
وكذلك قوله في الحديث الآخر: وإذا أردت بعبادك فتنة فتوفني إليك غير مفتون
(1)
.
- ومثل تعليق النية التردد بالنية، وعدم الجزم بها، وله حالتان:
الحال الأولى:
[م-92] أن يحصل التردد منه بعد فراغه من الوضوء، أو ينوي رفض الوضوء بعد الفراغ منه.
(1)
أعلام الموقعين (3/ 300).
فالصحيح عند الجمهور أن ذلك لا يؤثر في وضوئه
(1)
.
- ودليلهم على الصحة:
القياس على الصلاة والصوم والحج، فكما أنه لو رفض الصوم أو الصلاة أو الحج بعد فراغه منه لم يبطل صومه ولا صلاته ولا حجه، فكذلك لا يبطل وضوءه.
وقيل: إن وضوءه يبطل، وهو وجه ثان في مذهب الأئمة الثلاثة
(2)
.
- وتعليهم بالبطلان:
أن حكم الوضوء -وهو رفع الحدث- ما زال باقيًا، بدليل أنه يصح له أن يصلي به، بخلاف الصلاة والصوم والحج فإنها تنقضي حسًا بعد أدائها وخروج وقتها، والصحيح الأول.
الحالة الثانية:
أن يتردد في الوضوء هل يتمه أو يقطعه:
وهذا فيه تفصيل:
[م-93] أن يحصل له التردد من أول الوضوء إلى آخره، فهذا وضوءه باطل على الصحيح؛ لأن التردد ينافي النية؛ لأن النية هي القصد إلى الشيء قصدًا جازمًا.
[م-94] أن يحصل التردد أثناء الوضوء، فهو قد شرع في الوضوء، وهو جازم على رفع الحدث، وفي أثنائه حصل له التردد، ففي هذا خلاف بين أهل العلم:
(1)
قال صاحب (البيان في مذهب الشافعي)(1/ 106): إذا فرغ من الطهارة، ثم نوى قطعها ففيه وجهان:
أحدهما، وهو المشهور: أن طهارته لا تبطل، كما لو فرغ من الصلاة، ثم نوى قطعها.
والثاني: حكاه الصيدلاني: أن طهارته تبطل، كما لو ارتد. اهـ الإنصاف (1/ 151)، المبدع (1/ 120)، الشرح الكبير على المقنع (1/ 53، 54).
(2)
انظر المراجع السابقة.
فقيل: وضوءه باطل، وهو الصحيح من مذهب أحمد
(1)
، ووجه في مذهب الشافعية
(2)
.
وقيل: لا يبطل الوضوء فيما مضى، وإذا أراد إتمام الطهارة قبل تطاول الفصل فلا بد من تجديد النية لما بقي، وهو مذهب المالكية
(3)
، والصحيح في مذهب الشافعية
(4)
، واختاره بعض الحنابلة
(5)
، وهذا أصح من القول الأول.
وهذا التفصيل بالنسبة للوضوء، وأما غيره من العبادات فإن الحكم يختلف إذا خرج من النية قبل تمام العبادة، فهناك من العبادات ما يخرج منها قولًا واحدًا، فإذا نوى قطع الإيمان صار مرتدًا، والعياذ بالله.
وإذا نوى الخروج من الحج أو العمرة بعد دخوله في النسك لم يخرج منهما بهذه النية، لقوله تعالى:(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ)[البقرة: 196]، وسوف يأتي إن شاء الله تعالى بسط هذه المسألة في كتاب المناسك، بلغنا الله إياه بمنه وكرمه.
* * *
(1)
قال في الإنصاف (1/ 151): لو أبطل النية في أثناء الطهارة بطل ما مضى منها على الصحيح من المذهب، اختاره ابن عقيل والمجد في شرحه، وقدمه في الرعايتين والحاويين. اهـ
(2)
البيان في مذهب الشافعي (1/ 106).
(3)
مواهب الجليل (1/ 241)، والتاج والإكليل (1/ 239) بهامش المواهب.
(4)
انظر البيان في مذهب الشافعي (1/ 106)،
(5)
قال في الإنصاف (1/ 151)«وقيل: لا يبطل ما مضى منها، جزم به المصنف في المغني، لكن إن غسل الباقي بنية أخرى قبل طول الفصل صحت طهارته، وإن طالت انبنى على وجوب المولاة» .اهـ