الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السابع في الوضوء مما مست النار
مدخل في ذكر الضوابط الفقهية:
• أحاديث الأمر بالوضوء من لحوم الإبل خاصة، وأحاديث عدم الوضوء مما مست النار عامة، والخاص مقدم على العام.
• لو كانت العلة في الوضوء من لحوم الإبل الأمر بالوضوء مما مست النار، والتي يدعى أن الأمر فيها قد نسخ لم يكن هناك فرق بين الغنم والإبل، وبين غيرهما، فلما فرق بين لحم وآخر علم أن مناط الحكم هو جنس اللحم وليس مس النار.
• إذا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالوضوء مما مست النار، ثم لم يتوضأ أحيانًا منه لم يكن هذا دليلًا على النسخ، وإنما هو قرينة على أن الأمر ليس للوجوب، وإذا نهى عن شيء، ثم خالفه أحيانًا كان ذلك قرينة على أن النهي للكراهة ما لم يقم دليل صريح على أن ذلك الفعل خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم.
• إثبات ما يوجب الحدث متلقى من الشرع، ولهذا ينقض الوضوء أكل لحم الإبل، وهو طاهر حلال، ولا ينقضه أكل لحم الخنزير، وهو نجس حرام، ومس الذكر ينقض الوضوء على الصحيح، مع أنه بضعة طاهرة من إنسان طاهر، ومس النجاسات لا ينقض الوضوء، كما أن البول نجس، ويوجب الطهارة الصغرى، والمني طاهر على الصحيح، ويوجب الطهارة الكبرى.
[م-212] اختلف الفقهاء في الوضوء مما مست النار:
فقيل: يجب الوضوء مما مسته النار، اختاره بعض الصحابة رضي الله عنهم، منهم ابن عمر، وعائشة، وأبو هريرة، وأنس بن مالك، وأبو طلحة، وزيد بن ثابت، وغيرهم
(1)
.
ورجحه الزهري رحمه الله تعالى
(2)
.
وقيل: لا يجب فيه وضوء، وعليه عمل الخلفاء الراشدين
(3)
، وهو مذهب جماهير أهل العلم على خلاف بينهم:
هل كان الوضوء منه واجبًا فنسخ؟ اختاره بعض المالكية
(4)
، وهو مذهب
(1)
انظر الأوسط لابن المنذر (2/ 213)، التمهيد (3/ 331).
(2)
التمهيد (3/ 331).
(3)
التمهيد (3/ 332)، المفهم (1/ 603).
(4)
قال الباجي في المنتقى (1/ 65): «روي عن النبي صلى الله عليه وسلم بأسانيد لا بأس بها، أنه قال: توضئوا مما أنضجت النار» واختلف أصحابنا في تأويل ذلك، فمنهم من قال: إنه لم يكن قط الوضوء مما أنضجت النار واجبًا، وإنما كان معناه المضمضة وغسل الفم على وجه الاستحباب، ومنهم من قال: قد واجبًا، ثم نسخ، وتعلقوا في ذلك بما رواه شعيب ابن أبي حمزة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله أنه قال: كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار.
وقال القرطبي في المفهم (1/ 603): «قوله: «توضئوا مما مست النار» هذا الوضوء هنا هو الوضوء الشرعي العرفي عند جمهور العلماء، وكان الحكم كذلك ثم نسخ، كما قال جابر
ابن عبد الله: «كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار» وعلى هذا تدل الأحاديث الآتية بعد، وعليه استقر عمل الخلفاء ومعظم الصحابة وجمهور العلماء من بعدهم، وذهب أهل الظاهر والحسن البصري والزهري إلى العمل بقوله: «توضئوا مما مست النار، وأن ذلك ليس بمنسوخ ...... وذهبت طائفة إلى أن ذلك الوضوء إنما هو الوضوء اللغوي، وهو غسل اليد والفم من الدسم والزفر
…
والصحيح الأول فليعتمد عليه».
وضعف ابن عبد البر تأويل الوضوء مما مست النار بغسل الأيدي من الدسم، وذهب إلى القول بالنسخ، انظر التمهيد (3/ 330).
الشافعية
(1)
،
والحنابلة
(2)
، واختيار ابن حزم
(3)
.
أو كان معنى الوضوء مما مست النار، هو المضمضة وغسل الفم على وجه الاستحباب، وهو مذهب الحنفية
(4)
، واختاره بعض المالكية
(5)
.
وقيل: الوضوء مما مسته النار، مستحب، وليس بواجب، وترك الوضوء مما مست النار لم يكن من قبيل النسخ، وإنما هو لبيان أنه ليس بواجب، وهو وجه في مذهب أحمد، رجحه ابن تيمية رحمه الله تعالى
(6)
، وابن القيم، وهو الراجح.
• وسبب الخلاف اختلافهم في الأحاديث الواردة:
فثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: توضئوا مما مست النار،
(485 - 339) رواه مسلم من طريق عقيل بن خالد قال: قال ابن شهاب: أخبرني عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، أن خارجة بن زيد الأنصاري أخبره،
أن أباه زيد بن ثابت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الوضوء مما مست النار
(7)
.
(1)
قال النووي في المجموع (2/ 68): «والجواب عن أحاديثهم -يعني: أحاديث الوضوء مما مست النار- أنها منسوخة، هكذا أجاب الشافعي وأصحابه وغيرهم من العلماء، ومنهم من حمل الوضوء فيها على المضمضة، وهو ضعيف» .
وقال في نهاية المحتاج (6/ 215): نظم جلال الدين السيوطي، فقال:
وأربع تكرر النسخ لها
…
جاءت بها الأخبار والآثار
فَقِبلة ومتعة وخمر
…
كذا الوضوء مما تمس النار
(2)
المغني (1/ 121، 122).
(3)
المحلى (1/ 226).
(4)
المبسوط (1/ 80)، بدائع الصنائع (1/ 33).
(5)
سبق نقل كلام الباجي في المنتقى والإشارة إلى الخلاف الواقع بين الأصحاب في مذهب المالكية، والله أعلم.
(6)
مجموع الفتاوى (20/ 524)، شرح العمدة (1/ 330).
(7)
صحيح مسلم (351).
ورواه مسلم من مسند عائشة رضي الله عنها
(1)
.
وثبت عنه أنه أكل لحمًا، ثم صلى ولم يتوضأ.
(486 - 340) رواه البخاري من طريق زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار،
عن عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ. ورواه مسلم
(2)
.
وقد رواه الشيخان أيضًا من مسند عمرو بن أمية الضمري
(3)
، ومن مسند ميمونة
(4)
، كما رواه مسلم من مسند أبي رافع
(5)
.
فمن أهل العلم من أخذ بالأحاديث الآمرة بالوضوء مما مست النار، وأنها ناقلة عن البراءة الأصلية فهي مقدمة على غيرها من الأحاديث الموافقة للبراءة الأصلية، وهذا حجة من ذهب إلى القول بوجوب الوضوء مما مست النار.
ومن أهل العلم من رأى أن القواعد تقتضي بأن الرسول إذا أمر بشيء ثم خالفه، ولم يأت دليل صريح بأن هذه المخالفة خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم فإن ذلك يدل على أن الأمر ليس على الوجوب، وإنما سبيله الاستحباب، وهذا حجة من ذهب إلى استحباب الوضوء مما مست النار، وأن الأمر بالوضوء مما مست النار ما زال محكمًا، ولم ينسخ.
(487 - 341) وأخذ جماهير أهل العلم بما رواه شعيب بن أبي حمزة، عن محمد ابن المنكدر،
(1)
صحيح مسلم (353).
(2)
رواه البخاري (207)، ومسلم (354).
(3)
البخاري (208)، ومسلم (355).
(4)
البخاري (210)، ومسلم (356).
(5)
مسلم (357).
عن جابر قال: كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما غيرت النار
(1)
.
فرأوا أن الحديث دليل على أن الوضوء مما مست النار كان مشروعًا فنسخ، إلا أن الحديث بهذا اللفظ، قد ذهب بعض أهل العلم منهم أبو داود وأبو حاتم الرازي وابن حبان وابن تيمية وابن القيم وغيرهم إلى أن شعيب اختصر الحديث، فأخطأ فيه
(2)
، فأوقع هذا الاختصار المخل للحديث في لبس، وأن الحديث عند من بسطه لا يدل على ما ذهب إليه جمهور أهل العلم، وإنما فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم أكل لحمًا عند امرأة من الأنصار، ثم قام إلى صلاة الظهر، فتوضأ، وصلى، ثم عاد مرة أخرى، فقدمت له بقية اللحم، فأكل، ثم قام، وصلى العصر، ولم يتوضأ، فأراد شعيب أن يختصره، فقال: كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار، والمقصود بالأمرين أي في شأن هذه القصة، وليس في الأمر العام الشرعي على أن الحديث له علة أخرى، فقد قيل: إن محمد بن المنكدر لم يسمعه من جابر، وإنما سمعه من عبد الله بن محمد بن عقيل، وأكثر أهل العلم على ضعفه. وقد سبق بحث الحديث، فأغنى عن إعادته هنا.
ورد ابن حزم
(3)
، وابن التركماني
(4)
، القول باختصار الحديث، وقالا: إنما هما حديثان، وأيدهما أحمد شاكر رحمه الله تعالى.
وقال أحمد شاكر: ومن الواضح أن هذا تأويل بعيد جدًّا، يخرج به الحديث عن ظاهره، بل يحيل معناه عما يدل عليه لفظه وسياقه، ورمي الرواة الثقات الحفاظ بالوهم بهذه الصفة ونسبة التصرف الباطل في ألفاظ الحديث إليهم حتى يحيلوها عن
(1)
سنن أبي داود (192).
(2)
سبق بحثه في الكلام على الوضوء من أكل لحم الإبل، انظر رقم (467) فأغنى والله الحمد عن إعادته هنا.
(3)
المحلى (1/ 243).
(4)
الجوهر النقي (1/ 156).
معناها قد يرفع من نفوس ضعفاء العلم الثقة بالروايات الصحيحة جملة
…
إلخ كلامه رحمه الله
(1)
.
وكلام أهل العلل كأبي داود وأبي حاتم الرازي وابن حبان ومعهم ابن تيمية وابن القيم لا يمكن أن يعارض بكلام ابن حزم وابن التركماني، وذلك أن ابن حزم رحمه الله لم يكن من أهل العلل أصلًا، وليست له عناية في هذا الفن، ومن قرأ كتابه المحلى قطع بذلك، وإن كان هذا لا يقدح في إمامته في الفقه، فالمرد عند الكلام على العلل إنما هو إلى أهله وصيارفته، وما ساقه الشيخ أحمد شاكر رحمه الله إنما هو من باب إحسان الظن بالراوي، وهذا لا يمنع من الوقوع بالخطأ، والثقة بل الأئمة يقع لهم بعض الأخطاء، فهذا مالك وسفيان والزهري وشعبة قد يحصي أئمة الحديث أوهامًا لهم وقعوا فيها، إما في المتن وإما في الإسناد، وليس ذلك بقادح في الثقة حتى يكثر ذلك منه، فإذا كثرت مخالفته قدح ذلك في ضبطه، والحديثان مخرجهما واحد، وشعيب متكلم في روايته عن ابن المنكدر، وقد أشرت إلى ذلك عند تخريج حديثه هذا في الوضوء من لحم الإبل، فلله الحمد.
وبناء عليه فالوضوء مما مست النار محفوظ غير منسوخ، وإن كان الأمر بالوضوء مما مست النار ليس للوجوب، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء، ثم أكل لحمًا وصلى ولم يتوضأ، فدل على أن الأمر بالوضوء منه ليس للوجوب، وإنما هو على قبيل الاستحباب، والله أعلم.
* * *
(1)
سنن الترمذي تحقيق أحمد شاكر (1/ 122).